المعاني الحضارية العظيمة المكتسبة من طوفان الأقصى

بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد(*)

ينفطر القلب مما يراه من آثار التدمير التحتي لقطاع غزة، ويبكي دمًا حين يرى على الشاشات وفي المقاطع المرئية الأشلاء والدماء والشهداء والأحزان والأتراح، والجثث الميتة تحت الأنقاض، والأجساد الحية التي تُستنقذ منها، وهذا الكم الهائل غير المسبوق من المعاناة، والذي خلفه هذا العدوان الوحشي الهمجي غير المسبوق أيضا في تاريخ القضية في المئة سنة الأخيرة على الأقل.

ورغم كل هذا الألم والدمار فإن معركة طوفان الأقصى قد أرست من المعاني الحضارية ما يليق بهذه التضحيات النبيلة ويكافئها، وما يستحق التسجيل والتدوين، وأعني بالمعاني الحضارية تلك المعاني التي لها حضور في الأمة، وتأثير في جماهيرها وواقعها، بحيث نقلتهم من حال إلى حال، ومن ماضٍ ساكن إلى حاضر متحرك، ومنه إلى مستقبل مشرق إن شاء الله تعالى، ومن هذه المعاني:

إحياء سنة التدافع:

إن من أعظم ما أحيته هذه المعركة، واكتسبه المسلمون منها، هو تعزيز وإبراز سنة التدافع، التي كادت أن تتلاشى من واقعنا لا سيما بعد التراجع الملحوظ للحركة الإسلامية بفروعها الفكرية والجغرافية المتنوعة، وأصبح المسلمون في حال يُرثى لها، فجاء الطوفان ليعلي هذه السنة، وهي تدافع الحق مع الباطل بما يمنع الفتنة والفساد في الأرض، وبما يحفظ عرى الإسلام وتصوراته العقدية والتشريعية، ويحد من موجة الإلحاد التي انتشرت في الآونة الأخيرة نتيجة للكم الهائل من الظلم الواقع على المسلمين جراء ضعفهم وتسلط أعدائهم.

ومن المعلوم أن القرآن الكريم اهتم بسنة التدافع في مواضع كثيرة جدا، فالقصص القرآني كله يجسد مقتضى هذه السنة العظيمة، كما أن القرآن ذكر الدفع بالاسم في موضعين، الأول: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [البقرة ٢٥١]. والآخر: ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضࣲ لَّهُدِّمَتۡ صَوَ ٰ⁠مِعُ وَبِیَعࣱ وَصَلَوَ ٰ⁠تࣱ وَمَسَـٰجِدُ یُذۡكَرُ فِیهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِیرࣰاۗ وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِیٌّ عَزِیزٌ﴾ [الحج ٤٠]، وكلاهما جاء في سياق جهاد وقتال، مما يؤكد أنه لا تدافع إلا في الميدان، وإلا بأخذ زمام المبادرة وقيادة المشهد، وليس بالجلوس في مجالس البكاء على الأطلال، والندب على الأمجاد، واجترار الماضي العريق إلى الحاضر الغريق!

وإن المسلمين لن يستطيعوا أن يقيموا لأنفسهم مكانة في هذا العالم، ولا أن تكون لهم قدمُ صدقٍ إلا بالتدافع الذي يترتب عليه التداول ثم النصر ثم التمكين ثم الاستخلاف والشهود الحضاري، فلا يوجد تغيير مجانا، ولم تقم دولة في التاريخ بالمحبة والسلام، وإنما لابد من التضحيات الغالية، والفداء النبيل، والجهاد المستمر، وهذا ما أحياه طوفان الأقصى في قلوب المسلمين، ولو لم يكن سوى هذا المعنى الحضاري المكتسب لكفى طوفان الأقصى شرفا وفضلا.

تعزيز روح الرضا والصمود:

“عجبا لأمر المؤمن” بهذه العبارة استفتح النبي – صلى الله عليه وسلم – حديثه الشريف، وبهذا العجب؛ لأنه عجبٌ فعلا، “عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له” [أخرجه مسلم “2999” من حديث صهيب الرومي].

وإن ما رأيناه من رضا أهل غزة واحتسابهم لما أصابهم من لأواء، وما لاقوه من آلام وعناء، وما فقدوه من أهل وأولاد وأزواج وأحباب .. رأينا ذلك على لسان العامة والخاصة، المعروفين والمجهولين، القادة والجنود، مما يؤكد أن هذا الشعب كتلة واحدة وجسد واحد، وإيمان واحد، ولا شك أن مصدر هذا هو الإيمان الذي صدَّر النبيُّ مشهدَه بالعجب!

وبما يوازي هذا الرضا برز مشهد الصمود والتحدي، والإرادة والعزم والقوة والمضاء، على البقاء في الأرض، والحفاظ على العرض، والمضي قدُمًا في مواجهة هذا العدو: جهادا ومقاومة حتى التحرير الكامل للقدس والأقصى والأسرى وكامل فلسطين.

كان هذا الرضا والتحدي مصدرَ تعزيزٍ لإيمان المؤمنين وإسلام المسلمين، كما كان – سواء بسواء – مبعثَ دهشةٍ ومنبع تَسْآلٍ عالمي من غير المسلمين: ما الذي يحمل هؤلاء على الرضا والتسليم، وما الذي يقودهم إلى التصدي والصمود والتحدي رغم هذا الأم الكبير والفقد الجسيم؟ فلم يجدوا إجابة سوى أنه الإسلام العظيم وعقيدته الصافية النقية، مما قادهم إلى البحث فيه والتنقيب عنه، فما لبث كثيرٌ منهم أن دخلوا في الإسلام، فكان أهل غزة راية للدعوة بدمائهم وأرواحهم، وبصبرهم وثباتهم ورضاهم؛ فدخل الناس في دين الله أفواجا.

بث الروح المعنوية في الأمة:

من أهم المكاسب أيضا لمعركة طوفان الأقصى هذه الروح الجديدة التي سرَتْ في كيان الأمة من أقصاها إلى أقصاها؛ حيث احتشدت الشعوب كلها خلف المعركة، وانبعثت في قلوب المسلمين هذه المعاني العظيمة، معاني العزة والفخار، واستشعار المسئولية والواجب الشرعي، واستعادة أمجاد المسلمين في معاركهم الكبرى، وقد قلت في مقال آخر: “إن معركة طوفان الأقصى سيسطرها التاريخ إلى جوار المعارك الكبرى في تاريخنا الإسلامي: بدر الكبرى، والأحزاب، والحديبية، وفتح مكة، وحطين، وعين جالوت، وغيرها من المعارك الكبرى”، وهذه الروح يجب استثمارها لتحقيق مقصد أعلى وهو الانخراط الكامل للأمة في إسناد فلسطين لتحقيق المقصد الأكبر للقضية وهو التحرير الكامل.

كنا نسمع عن تضحيات الصحابة ومجريات هذه الغزوات والمعارك الفاصلة، وكنا – أحيانا – نستبعد أن يكون حدث موقف معين لصحابي أو تابعي أو مجاهد في التاريخ، ولكننا اليوم أمام واقع عملي تتجسد فيه كل معاني الشرف، وكل نواحي العظمة، وكل جوانب التضحية النبيلة والفداء العظيم، وما كان مستبعدا أو خيالا جعلته واقعًا مشاهدا ومثالا يُحتذى.

ونعود فنقول: إن هذه الروح العظيمة التي تجددت في الأمة وسرتْ في كيانها ليست دون مقابل، وإنما كان ثمنها عظيما من دماء شعب غزة وأمنه وأمانه، وشهدائه وجرحاه، وهكذا فإن المعاني العظيمة لا تحيا ولا تعيش إلا بمثل هذه التضحيات، و”في التاريخ فكرة ومنهاج”.

تصديع أركان القوة التي لا تُقهر:

أقول “تَصْديع” ولا أقول “تصدُّع”؛ لأن الأخير يحدث من تلقاء نفسه، والأول لا يكون إلا بفعل فاعل، وهو مقتضى صيغة “فعَّل تفعيلا”؛ فما قامت به كتائب الجهاد أحدث زلزالا في عمق هذا الكيان، فبعد أن كانت صورته العالمية تعبر عن “القوة التي لا تُقهر” ما بين غمضة عين وانتباهتها قد أصبحت هذه الصورة متحطمة على جدار المقاومة، وآيلة للسقوط على صخرة مجاهديها، ولا شك أن هذا من المعاني الحضارية القوية والنتائج العظيمة لطوفان الأقصى.

إن الزلزال حين يصيب البنية التحتية لبلد أو مدينة ينهدم به أبنية، وتتصدع به أبنية أخرى، وهذا الزلزال “طوفان الأقصى” قد انهارت به الصورة الذهنية لهذا الكيان ليس من ناحية القوة فقط، ولكن من ناحية “الأخلاق” أيضا، التي كان يزعمها؛ حيث قدم بنفسه عن نفسه صورة بشعة ولوحة وحشية من خلال ما مارسه من قتل وتدمير على مرأى ومسمع من العالم كله.

ومع هذا الانهيار حدث تصدع داخل هذا الكيان، وفرقة وانقسام بين مجلس حربه من ناحية، وبين الشعب “الإسرائيلي” وقيادته من ناحية أخرى، لا سيما بعدما فشل هذا الكيان في تحقيق أيٍّ من أهدافه التي أعلنها مجلس ُحربه من أول المعركة، مما يمهد لأن يكون في الطوفان القادم انهيار كامل لهذا العدو: نفسيا وسياسا وأمنيا وعسكريا.

ظهور تغيرات على الساحة الدولية:

إن ظهور التغيرات التي رأيناها على الساحة الدولية والميادين العالمية لم يكن يخطر على بال مطلقا؛ فمن كان منا يتصور أن تنتفض الشعوب الغربية في ألمانيا وإنجلترا وأوربا كلها، وأمريكا بولاياتها، ضد حكوماتها؛ فتقف هذه الحكومات في طرف دعم هذا الكيان اللقيط، وتقف الشعوب موقفا حرا شجاعا ضد وحشية العدو الصهيوني، وضد أنظمتها التي تتعاون على الإثم والعدوان؛ لردعها عن تأييد الظلم والقتل البشع، والتدمير الشامل والإبادة الجماعية.

وقد رأينا رموزا إعلامية غربية، ومشاهيرَ في الفن والأدب والرياضة، وسياسيين سابقين، ودبلوماسيين سابقين أيضا، حتى من “إسرائيل” نفسها، تنتقد التصرفات الصادرة عن مجلس الحرب، وتنقد نتنياهو نفسه، مما زاد الهوة بين مجلس الحرب بعضه وبعض، والشعب مع حكومته من ناحية أخرى، وهذه الرموز العالمية ووقوفها مع قضية عادلة ضد همجية ووحشية هذا الكيان كان لها تأثير كبير في تغذية هذه التغيرات الدولية والانتفاضة الشعبية في ميادين أوربا وأمريكا.

وكان ختام هذه التغيرات هو هذا الحراك الطلابي الأكبر في القرن الأخير؛ حيث انتفضت جامعات أمريكا وأوربا ضد أنظمتها، وجعلت هذه الجامعات ترضخ لمطالب الطلاب، ومنها: قطع أي تعاون أكاديمي أو اقتصادي بين هذه الجامعات والكيان الصهيوني، وهي مكاسب عظيمة ماديا ومعنويا لم يكن من المتوقع حصولها.

وإنني أرى هذا الحراك الشعبي والطلابي مؤذن بتغيير كبير عالميا، لا أقول في المستقبل البعيد، ولكن في المستقبل القريب؛ فإن هذا التغيير الكبير الذي أنتج هذا الحراك الشعبي والطلابي سيفرز قيادات سياسية جديدة لصالح القضايا العادلة عالميا، وهذا لاشك سيكون في صالح الإسلام والمسلمين.

إحياء القضية وإبطال التطبيع والتهويد:

ومن المكاسب العظيمة لمعركة طوفان الأقصى أنها أحيت قضية فلسطين في قلوب المسلمين والعالم كله؛ ذلك أن مصائب المسلمين والعالم في كل مكان كانت أكبر من فلسطين، وجعلت القضية تتوارى في العقل الجمعي والاهتمام الجماعي لصالح هذه القضايا والمآسي، ابتداء من أحداث الربيع العربي وما تلاه من انقلابات عسكرية عليه ومحاولات لتصفية هذه الحراك الاستثنائي في تاريخ المنطقة، وأزمات عالمية في أوربا وأمريكا، وأحداث الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كل هذا جعل قضية فلسطين تتوارى خلف وقْع هذه الأحداث وصداها الكبير، فجاءت معركة طوفان الأقصى لتعيد القضية إلى وهجها، وتضعها في واجهة صلب الشعور وعمق الاهتمام الإسلامي والعالمي.

كما أن مسلسل التطبيع الذي أصبح منسابا ومتتاليا ومتتابعا في العالم العربي الذي كان من المنتظر أن يكون ممانعا لهذا الإثم الشرعي غير متجانف له، هذا المسلسل توقف تماما مع معركة طوفان الأقصى، بل كتبت هذه المعركة نهايته، وأفشلت مشروعه، وأصبح في طي النسيان، بل في سلة مهملات الواقع والتاريخ، وانفضح من قاموا به شر فضيحة أمام شعوبهم على وقع قذائف الياسين التي رفعت بها المقاومةُ رأس الأمة، وأشعرتها بالعز والشرف والفخار.

من ناحية أخرى جاءت هذه المعركة لإيقاف مسلسل تهويد المسجد الأقصى المبارك، وإضعاف وقائع تدنيسه التي تصاعدت عاما بعد عام، ورمضانا بعد رمضان؛ ولهذا كان من عبقرية “محمد الضيف” والمقاومة أن أطلقت على هذه المعركة “طوفان الأقصى”، كما كانت المعركة السابقة بعنوان: “سيف القدس”!

تصدير نموذج مشرف للقيادة الراشدة:

من أهم هذه المكتسبات الحضارية لمعركة طوفان الأقصى أنها أبرزت لنا – والإبراز إظهار ما كان موجودا وليس إنشاءً له – نموذجًا مشرفا للقيادة السياسية الواعية المجاهدة الراشدة، قيادة حركة حماس ومكتبها السياسي في الداخل والخارج، التي لم تذق طعم الراحة ولا عرفت عيونُها للنوم طريقا منذ بداية المعركة: تواصلا ومتابعة، وبذلا لمحاولات إيقاف الحرب ونزيف الشهداء والدماء، ومناورةً مع الأعداء والوسطاء، واتصالاتٍ دوليةً وإقليمية بأطراف مؤثرة من أجل القيام بدورها.

لقد وضعت هذه القيادة الراشدة – بوعيها وذكائها – النتن ياهو ومجلس حربه في ركن بعيد عن التأييد الشعبي والعالمي، ووضعت الكرة في ملعبه حين قبلت العرض الذي وصلها من الوسطاء في مصر وقطر بوقف الحرب، وجعلت نتنياهو ومجلسه في وضع خاسر، سواء بالقبول وهو ما سيحول الحرب إلى داخل المجتمع الإسرائيلي بمحاسبة هذا المجلس على فشله، أو بالرفض وهو ما يجعل قيادة الكيان في حالة استنكار دولي: شعبي ورسمي، وإظهار هذا الكيان بصورة وحشية ورفض للسلم وإنهاء الحرب!

كما جعلت هذه القيادة الوسطاء يتفهمون موقف حماس من المعركة، وهذا انعكس على الأمريكان أنفسهم، وأحدثت القيادة – بذكائها – فجوة وشرخا مهما بين نتينياهو وبين مجلس حربه، وبين الشعب الإسرائيلي وحكومته، حرصت ولا تزال على اتساعه وتضخيمه من خلال “التكتيك السياسي” و”المناورة التفاوضية”، ومن خلال ما يقوم به “الإعلام العسكري” من جهاد إعلامي مبهر يستمطر به سخط الشعب الإسرائيلي على قيادته، وهو ما عمل على فقدان هذا العدو صوابه والقيام باتباع أجندة شخصية عمياء، لا يهمها سوى الخراب والدمار، والاستمرار في الفشل أمام شعبهم وأمام العالم.

من ناحية أخرى ومما يشير إلى رشد هذه القيادة أنها مزجت بين صلابة الميدان على أرض المعركة من خلال الجهاد المبرور، وبين المرونة في المواقف السياسية لأبعد مدى مع التمسك بالثوابت الراسخة للقضية والمطالب العادلة للمعركة، وهذا ما جعل الحركة تكسب حاضنتها الجماهيرية لها لتصرفهاتها واختياراتها، وإبراز صورتها النقية في الجهاد من أجل وقف العدوان.

***

كل هذا من المعاني الحضارية العظيمة المكتسبة من هذه المعركة الكبرى، والتي كانت كِفاءَ ولِقاءَ هذه التضحيات الكبيرة المتمخضة عن هذا الجهاد العظيم .. هذا الجهاد وإحياء معانيه ورفع رايته، وهو ما يحتاج لمقال مستقل لبيان ما أحيته هذه المعركة من معانيه ومبانيه.


(*) أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

اترك تعليق

  1. يقول جزاكم الله خيرا:

    جزاكم الله خيرا