الهجرة.. وفن توظيف المواهب

بقلم: أحمد زهران

 

نستطيع القول:

إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كوّن فى رحلة الهجرة «فريق عمل» ناجحًا من الرجال والنساء جميعًا، كان له أبلغ الأثر – بعد الله عز وجل – فى إنجاح هذا الحدث الفريد، والوصول به إلى بر الأمان..

ولقد أحسن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) توظيف قدرات ومواهب وإمكانات هذا الفريق – كلٌ بما يناسب طبيعته، ولا شك أنه (صلى الله عليه وسلم) قد سبق بذلك علماء الإدارة، وقعّد لهم القواعد، ووضع التصوّر الصحيح لاختيار الرجل المناسب فى المكان المناسب، «والنبى (صلى الله عليه وسلم) بهذه الميزة يبنى إنسانًا فعالاً ولا يحطمه، ويُقوِّم المعوج ولا يكسره.. لقد كان (عليه الصلاة والسلام) لا يُبقى المزايا فى أصحابه طاقات معطلة، بل كان يوظفها لصالح المجتمع. أحمد زهران

ومن ذلك أنه أعطى سيفه يوم أحد لأبى دجانة لما عُرف عنه من شجاعة وإقدام، واختار معاذًا لأهل اليمن معلمًا لما تميز به من معرفة بالحلال والحرام، واختار نعيمًا ليخذل عن المسلمين يوم الأحزاب لما عرف به من دهاء، واختار حذيفة ليأتيه بخبر القوم لما عرف عنه من قدرة على التخفي والتسلل وقدرة على ضبط النفس، ثم اختصه ليكون صاحب سره (صلى الله عليه وسلم) وأعلمه أسماء المنافقين؛ لقدرته على الكتمان فهو لا يحدث بكل ما سمع.

بل وأكثر من ذلك أنه أعطى كل صحابى صفته وموهبته التى يتميز بها عن غيره، فأبو بكر أرحم الأمة، وعمر أقواها فى دين الله، وعثمان أشدها حياءً، وأبو ذر أصدقها لهجة، ومعاذ أعلمها بالحلال والحرام، وزيد بن ثابت أعلمها بالفرائض… وهكذا.

فريق عمل الهجرة

وفى حادث الهجرة، كوّن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فريق عمل صغير يتكون من:

1 – الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه – القائد.

2 – أبو بكر الصديق – المرافق.

3 – عليّ بن أبى طالب – الفدائي.

4 – عبد الله بن أبى بكر – للاستخبارات.

5 – عامر بن فهيرة – للتمويه والتشويش.

6 – أسماء بنت أبى بكر – للإمداد والتموين.

7 – عبد الله بن أريقط – دليل الطريق.

وبالنظر فى هذه الشخصيات نجد أنها «شخصيات عاقلة.. كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.

ولقد تجمع فى هؤلاء الأصحاب – عدا عبد الله بن أريقط؛ لأنه كان لا يزال مشركًا – مجموعة من الصفات أهّلتهم ليكونوا على قدر المسئولية، فالاختيار لا يكون عشوائيًا وإنما لابد أن يقوم على أسس سليمة ومعايير منضبطة، ومن ذلك:

1 – إخلاص نواياهم لله رب العالمين.

2 – ترفعهم عن الهمم الدنية والمآرب الشخصية.

3 – ربط مستقبلهم بمستقبل الرسالة التى اعتنقوها.

4 – استعدادهم للتضحية بأعز ما يملكون – أنفسهم – فى سبيل نصرة هذا الدين.

إدارة المهمة

بعد تكوين هذا الفريق قام كل واحدٍ منهم بمهمته بكل دقة من حيث:

1 – دراسة المهمة المطلوب إنجازها.

2 – مدى صعوبتها أو تعقيدها.

3 – علاقتها بالمهام الأخرى لبقية أعضاء الفريق.

4 – الأساليب والأدوات والأجهزة المختلفة لإنجازها.

5 – الفترة الزمنية الكافية لتحقيقها.

6 – مكان التنفيذ وطبيعته.

وفى السطور التالية نستعرض طبيعة كل واحد من أعضاء الفريق وطبيعة مهمته.

أولاً – قائد الفريق – رسول الله (صلى الله عليه وسلم)

وضع نصب عينيه قول الحق تبارك وتعالى: {فأعينونى بقوة} (الكهف: 95)، فبالرغم من أنه رسول الله المؤيد بنصره، إلا أنه التزم طريق العمل الجماعى المشترك والمنظم – كما أشار إليه ذو القرنين فى الآية السابقة، وفى ذلك دلالة على ضرورة «تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى. والقائد الفعال هو الذى يملك القدرة على ربط كل الخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات»(3).

كان من الواضح أن هناك تخطيطًا دقيقًا يجرى تنفيذه بإحكام، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى معزل عنه، وإنما كان وسط هذه المعامع كلها يطمئن على كل شاردة وواردة، ويراجع الموقف كله كل يوم، وما خص نفسه (صلى الله عليه وسلم) بشيء عن أصحابه، بل كان يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم.. وهذه هى سمات القيادة الصحيحة التى تهوى إليها الأفئدة.

إن قيادة النبى (صلى الله عليه وسلم) لأمته لم تكن قيادة السيِّد الذى يقرع أتباعه بالعصا، أو يسوقهم أمامه بالشدة والصرامة، وإنما كانت قيادته (صلى الله عليه وسلم) فى حقيقتها قيادة للقلوب والأرواح قبل كل شيء.. «وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان (صلى الله عليه وسلم) رحيمًا وشفيقًا بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبق إلا المستضعفون والمفتونون، ومَنْ كانت له مهمات خاصة بالهجرة(4).

القيادة بالحب هى ما نفتقر إليه فى كثير من تعاملاتنا، فمسئولية الرجل لفريق مَّا لا تحيله إلى رجل بلا عواطف، المهم عنده إنجاز العمل ونجاحه وحسب، ولو كان ذلك على حساب مشاعر وعواطف الفريق.

إن الذى لا يحسن التعامل بالحب، والقيادة بالحب لا يكتب له النجاح، فليس عندنا ثواب نعطيه أو مكافأة نرصدها لمن أجاد، وإنما مكافأة كل محسن عند الله تعالى يوم القيامة: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين}.

الصدِّيق.. خير رفيق

والشخصية الثانية فى هذا الفريق، هى شخصية الصديق أبى بكر (رضى الله عنه):

وقد كان الصدِّيق صاحب النبى (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة، وأول مَنْ آمن به من الرجال، وكان النبى يخصه بأشياء كثيرة منها صحبته له فى الهجرة.

وقد خاطبه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما استأذنه فى الهجرة بقوله: «لا تعجل.. لعلّ الله يجعل لك صاحبًا»، وقد كان الصديق يعلم أن هذه اللحظة آتية لا محالة وهو يرى المسلمين من حوله يهاجرون، وما كان يطمع فى أكثر من الصحبة المباركة.

من هنا انطلقت عقليته (رضى الله عنه) لتعمل، إنه لا ينتظر التكليف المباشر بالعمل، ولا من يمسك له قرطاسًا وقلمًا ويرسم له خط سيره، ولكنه كان يعلم المقدمات، فاستطاعت عقليته أن تدرك النتائج سريعًا.. فماذا فعل:

– ابتاع راحلتين واحتبسهما فى داره وعلفهما إعدادًا لذلك.

– سخّر أسرته لخدمة النبى (صلى الله عليه وسلم).

– وضع نفسه تحت شعار: «كن مستعدًا» فهو يعلم أن القرار ربما يأتى اليوم أو غدًا، فلابد أن يكون جاهزًا له.

وحينما أعلمه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمقصده بكى من شدة الفرح. وتقول السيدة عائشة (رضى الله عنها): «فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكى من الفرح حتى رأينا أبا بكر يبكى يومئذ».

وقال بعض المُحْدَثين واصفًا موقف أبى بكر (رضى الله عنه):

وَرَد الكتاب من الحبيب بأنه سيزورنى فاستَعْبَرَتْ أجفانى

غَلَبَ السرور عليّ حتى إنه من فَرْطِ ما قد سَرَّنى أبكانى

يا عينُ صار الدمعُ عندك عادةً تَبْكِينَ فى فَرَحٍ وفى أَحْزَانِ(5)

ولكن لماذا أبو بكر بالذات؟ والإجابة:

1- لأنه كان من أكثر الناس حبًا للنبي (صلى الله عليه وسلم)؛ فكان يخاف عليه أكثر مما يخاف على نفسه.

2 – ثم إنه كان من أحزم الناس وأملكهم لنفسه وخاصة عند لحظات الشدائذ والملمات، فلا يجزع ولا يضطرب.

3 – وكان يتمتع بقدر عجيب من حب الدعوة وافتدائها بنفسه وماله وعياله، لا ينازعه في ذلك إنسان.

وعندما “رأى أبو بكر (رضى الله عنه) القافة(6) اشتد حزنه على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال: إن قتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلتَ أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله: «لا تحزن إن الله معنا» ألا ترى خوفه على نفسه؛ ولأنه أيضًا رأى ما نزل برسول الله من النَّصَب، وكونه فى ضيقة الغار، مع فرقة الأهل، ووحشة الغربة، وكان أرق الناس على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأشفقهم عليه…»(7).

إن النفوس التى أخذت قسطًا وافرًا من التربية لا تجزع عند الشدائد، ولا تهرب عند الصعاب وتقول: نفسى نفسى.. «فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذى يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول فى قبضة المشركين.

إن أصدق وصف – فيما أرى – يمكن إطلاقه على أبى بكر وبيته وأهله، أنه حوّل الجميع إلى ما نسميه «بغرفة القيادة، أو مركز اتخاذ القرار» فمعظم التحركات التى بدأت بعد ذلك انطلقت من داره وبواسطة أبنائه ومواليه.

وفى هذا درس لأصحاب الدعوات أن يسخروا إمكاناتهم، ويضعوا ممتلكاتهم تحت تصرف قياداتهم خاصة فى أوقات الشدة، وليتمثلوا تحذير الله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين} (التوبة: 24).

عليّ.. أوّل فدائيّ: 

أما عليّ بن أبى طالب فقد كلّفه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن «ينام فى فراشة، وأن يتغطى ببرد له أخضر ففعل.. فلما أصبحوا (أي المشركون) ساروا إليه ليقتلوه فرأوا عليًا نائمًا فى فراش النبى (صلى الله عليه وسلم) فقالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا أدرى. فخرجوا يتَّبعون أثره»(9).

ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر عليًا أن يؤدى أمانات وودائع المشركين التى أودعوها عنده (صلى الله عليه وسلم) إليهم. إذن فقد كان لعليّ بن أبى طالب دوران أساسيان أولاهما – خداع المشركين بمبيته مكان النبى (صلى الله عليه وسلم)، وثانيهما رد الأمانات التى احتفظ بها المشركون عنده (صلى الله عليه وسلم).

وسبب اختيار علي بن أبى طالب لأداء هذه المهمة هو أنه:

1 – كان رجلاً «بفرقة خاصة» يمتلك من المهارات والتدريبات والقوة والشجاعة ما لا يتوفر لمجموعة كاملة من البشر.

2- كياسته وفطنته وحسن تعامله مع الأمور فى وثوق نفس واطمئنان قلب وثبات قدم.

3 – ثم هو ابن عمه (صلى الله عليه وسلم)، فإن لحقه أذى فلن يحمل أحدٌ من المؤمنين فى نفسه شيئًا تجاه النبى (صلى الله عليه وسلم)، لو أنه اختار واحدًا منهم، ولن يكون هناك مجال ليلمزه أحدٌ من قريب أو بعيد، أو يقول إن بني عبد المطلب أكلوا حقوق الناس وأماناتهم، فها هو رجل من بنى عبد المطلب يعرفونه جيدًا، فهو ابن كبيرهم أبى طالب، يؤدى الأمانات عن ابن عمه، وكأن كل شيء كان مدروسًا ومعدًا بإحكام.

«وقد حدث أن ضرب المشركون عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة؛ علّهم يظفرون بخبرهما» (10).

لقد كان الأمر اختبارًا اجتازه الإمام عليّ بنجاح وحفظه الله فيه؛ ولأنه من الذين عايشوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتربوا على يديه فقد «أحبوه إلى حدِّ الهيام، وما يبالون أن تندق أعناقهم ولا يُخدش له ظفر؛ وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذى يُعشق – عادة – لم يُرزق بمثلها بشر»(11).

لم يكن فداء على بن أبى طالب للنبي (صلى الله عليه وسلم) فداءً لشخصه الكريم، وإنما كان يفدى بفدائه الدعوة كلها، تمامًا كما قال أبو بكر وهو فى الغار: «إن قتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قُتلتَ أنتَ هلكت الأمة».. إنهم رجال بعضهم من بعض.

عبد الله بن أبى بكر

وكان عبد الله غلامًا، شابًا، ثَقِفًا، لَقِنًا(12).

وهو اختيار دقيق للمهمة التى سيُكلَّف بها وهى:

1 – التسمّع لما يقوله أهل مكة – كما فى رواية البخارى: «فلا يسمع أمرًا يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك»(13).

2 – المبيت عند النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الغار حين يختلط الظلام، ناقلاً لهما ما سمعه، ثم المغادرة فى وقت السحر، فيصبح مع قريش كبائت فيهم.

والذى ينقل أخبار الأعداء، لابد أن يتوفر فيه من الفطنة، الذكاء، حسن المعرفة، حسن التلقى لما يسمعه، ثم أداءه كما سمعه من غير زيادة أو نقصان – ما يؤهله لذلك؛ فدقة نقل المعلومة، ودقة وصف الحدث ميزتان تميز بهما عبد الله، وقد وثق فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) فأسند إليه هذه المهمة.

كثير من الدعاة يُهوِّلون – أحيانًا – من الواقع الذى يحيونه، ولا ينقلون صورة دقيقة للقيادة عن هذا الواقع، مما يترتب عليه ترتيب أحكام خاطئة أو تصوّرات غير واقعية للمستقبل الذى ينتظر الدعوة.

ويمكن أن نطلق على شخصية عبد الله بن أبى بكر أنها شخصية «منضبطة» فى التلقى، والأداء، والضبط، ولو كان شخصية «مُهَوِّلة» للأحداث، أو «متساهلة» فى تقدير الخطر، لكان من الممكن أن تطول فترة مكوث النبى (صلى الله عليه وسلم) فى الغار أو تقصر – تبعًا للوصف الذى يتلقاه.

أسماء وعائشة بنتا أبى بكر

وقد مثلت أسماء وأختها عائشة جهاز إمداد وتموين للنبى وأبى بكر فى الغار، وسط محاولات المشركين المحمومة للعثور عليهما.

تقول السيدة عائشة: «… فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهم سفرة فى جراب، فقطعت أسماء بنت أبى بكر من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سمّيت ذات النطاقين»(14).

أما عائشة فقد كانت لا تزال صغيرة السن، وبالرغم من ذلك شاركت أختها فى إعداد الطعام فى البيت، وأما أسماء فتنقل من البيت إلى الغار، وقد كانت (رضى الله عنها) مؤهلة لذلك؛ لصبرها، وقوة احتمالها، وتكتمها الأمر، فلم تفصح بوجهة أبيها حينما سألها أبو جهل: أين أبوك؟ قالت: لا أدرى والله أين أبى؟ فرفع أبو جهل يده – وكان فاحشًا خبيثًا – فلطم خدّها لطمة طَرَح منها قرطها»(15).

إن المرأة ليست عنصرًا مهملاً فى الدعوة، ولكنها يمكن أن تقوم بأدق الأدوار حساسية، والتى لا يمكن للرجال أن يقوموا بها فى أشد مراحل الدعوة حساسية وخطورة، لما يتعرضون له من رصد ومتابعة وتضييق.

لقد علَّمتنا أسماء «كيف تخفى أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغى والظلم!

وأما درسها الثانى البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة – وقد ذهب بصره – فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه.

قالت: كلا يا أبتى، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم. قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئًا، ولكنى أردتُ أن أُسكِّن الشيخ»(16).

أرأيت إلى المرأة حينما يثبت إيمانها، ويرسخ يقينها كيف تكون هادئة واثقة مطمئنة، ليس كنساء عصرنا، اللاتى لو رزئت الواحدة منهن فى مالها أو أبيها أو أخيها أو زوجها وهو يبلغ دعوة الله – تراها يائسة ناحبة، فلا تعلُّق لها إلا بسفاسف الأمور دون معاليها.

«والإنسان ليعجب.. كيف استطاعت تلك الشابة أن تتصرف هذا التصرف العاقل، من أين أتتها كل هذه الحكمة: فكّرت كيف تهدِّئ الشيخ، ولم تفكر من أين تأكل أو تشرب، ولكنها تربية أبى بكر – القريب من بيت النبوة، ولا غرابة بعد ذلك فيما يصدر عن أسماء من عقل راجح، وحكمة بالغة، وتصوّر للأهداف البعيدة، واستعلاء على تفاهات الدنيا، والتعلق بالآخرة»(17).

عامر بن فهيرة

وهو الراعى البسيط، مولى أبى بكر (رضى الله عنه)، وقد انحصرت مهمته كما يروي البخاري عن السيدة عائشة: «ويرعى عليهما عامر بن فهيرة – مولى أبى بكر – مِنْحَة من غنم فريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان رِسْل – وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِها(18)، حتى ينعق(19) بها عامر بن فهيرة بغَلَس(20). فعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث»(21).

ويتضح من ذلك النص أن مهمة عامر انحصرت فى:

1 – تقديم اللبن واللحم إلى صاحبى الغار.

2 – تبديد آثار أقدام السائرين إلى الغار بأغنامه – كيلا يتفرسها القوم، فيصلوا إلى صاحبى الغار.

وهى – كما ترى – وظيفة مزدوجة، منها ما هو فى جانب للإمداد والتموين – مشاركة مع أسماء بنت أبى بكر، ومنها – وهو الأخطر من وجهة نظرنا والأهم – تبديد الآثار لئلا يتعرف عليها المشركون، مشكِّلاً بذلك جهاز «تشويش وتمويه» على الكفار.

وعامر بن فهيرة شخصية بسيطة، فهو مجرد راعى غنم، وهو مولى لأبى بكر، فلن تتجه إليه الكثير من الأنظار، فالعرب لا يلتفتون إلى مواليهم، أما الإسلام فقد محا ذلك، وجعل خيرية الرجل بإيمانه وتقواه.

وهدا درس للدعوة أن تستفيد من إمكانات أقل وأصغر رجل فيها – إن صح التعبير – فربما يملك هذا ما لا يملكه الكثيرون من أصحاب الفكر، وربما قدم للدعوة فى المجالات التى يتقنها ما لا يستطيعه غيره، خاصة من هؤلاء المشهورين المعروفين المرصودين، وصدق رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إنما تنصرون بضعفائكم».

عبد الله بن أريقط – الدليل

وهو الشخصية الأخيرة فى فريق عمل الهجرة، وقد تمثّلت مهمته – كما يروى البخارى: «.. واستأجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر رجلاً من بنى الدِّيْل، وهو من بنى عبد بن عدى – هاديًا خِرِّيتًا(22) قد غَمَسَ حلفًا(23) فى آل العاص بن وائل السهمى، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وأوعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما – صبحَ ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة، والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل»(24).

ومن هذا النص يتضح أن مهمة ابن أريقط تتتلخص في:

1 – إعداد وتسمين الراحلتين تمهيدًا لرحلة الهجرة.

2 – دراسة طريق الهجرة واختيار طريق غير معروف للكثيرين.

وهو اختيار ذكي وحصيف لأن عبد الله بن أريقط كان من مشركي مكة ولن تلتفت الأنظار إلى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) يمكن أن يستعين برجل منهم كدليل للطريق.

كما أن ابن أريقط – كما يتضح من النص السابق – أمينًا، لا يكشف سرًا ولا يفضح أمرًا، وكان وفيًا بوعده وميعاده الذي واعده إياه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو ما لا يتوفر في الكثيرين من المشركين.

كما يمكن أن نقف على ملمح آخر من ملامح شخصية بن أريقط، وهو: الشجاعة؛ فلم يَخَفْ من كفار قريش إن انكشف أمره، بل خاطر متحملاً نتائج عمله.

وهذا الملمح الأخير يقودنا إلى ملمح آخر وهو: ثقة ابن أريقط بنفسه وقدراته وخبراته في معرفة دروب الصحراء بحيث استطاع أن يبعد أنظار المشركين عن متابعة خط سير رحلة الهجرة؛ وبالرغم من وجود أدلاء كثيرين لدى قريش في معرفة دروب الصحراء إلا أن ابن أريقط وضح أنه فاق الجميع.

وهذا كله يدفعنا للإجابة عن سؤال يتردد كثيرًا، وهو هل يجوز الاستعانة بالمشركين في أمور الدعوة؟

والإجابة أنه «يجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم ما داموا يثقون به، ويأتمنونه على ما يستعينون به معه، فقد رأينا أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر استأجرا مشركًا ليدلهم على طريق الهجرة، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة أطلعاه عليها، ولا شك أن النبى (صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر وثقا به وأَمِنَاه، مما يدل على أن الكافر أو العاصى أو غير المنتسب إلى جماعة الدعاة.. قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعى وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كان قد قدّمه الداعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيّد من الأخلاق الأساسية مثل: الأمانة وحب عمل الخير إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديرية، يُترك تقديرها إلى فطنة الداعى ومعرفته بالشخص»(25).

لقد طبّق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مبادئ إدارية كبيرة، يتعلم منها الدعاة على مرّ العصور، فقد أدار أصعب العمليات حساسية فى تاريخ الدعوة، وتعامل مع نفوس بشرية وطاقات مختزنة، ثم وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب فما يمتلكه كل شخص يختلف عن الآخر، ولم يكن هذا الاختلاف اختلاف تضاد أو فرقة، وإنما كان فى صالح العمل، وأمكنه توظيف نقاط القوة فى كل شخص، فحصل على فريق عمل كان قادرًا على الإنجاز فى وقت الأزمات.

وقد أدرك الإمام مالك – إمام دار الهجرة – (رحمه الله) ببصره الثاقب أن كل إنسان ربما فُتح له في عمل من الأعمال ما لا يُفتح لغيره وكان الإمام مالك قد نصّب نفسه فى ميدان من أعظم الميادين وهو نشر العلم الشرعى، فكتب إليه مَنْ يدعوه إلى غير ذلك، فرد عليه قائلاً: «إن الله قسم الأعمال كما قسّم الأرزاق، فرب رجل فُتح له فى الصلاة ولم يُفتح له فى الصوم، وآخر فتح له فى الصدقة ولم يفتح له فى الصوم، وآخر فتح له فى الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لى فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر».

وكيف نطمع فى نصرٍ نعيدُ به أمجادنا دونما سعيٍ ولا عمل

ترى جموعًا ولكن لا ترى أحدًا وقد ترى همة الآلاف فى رجل

فهل يستفيد الدعاة من إمكانات إخوانهم ويوظفونها التوظيف الأمثل خدمة للدعوة والرسالة وللداعية نفسه؟!!

نرجو أن يكون ذلك واقعًا لا أماني.

الهوامش:

(1) صناعة القائد، للدكتور طارق السويدان وفيصل عمر باشراحيل، ط1، ص 169.

(2) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، ج1، ط(1)، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص 339.

(3) صناعة القائد، ص 170.

(4) السيرة النبوية، ج1، ص 345.

(5) الروض الأنف للسهيلى، طبعة (1) دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان، ج2، ص 314.

(6) القافة هم الذين يقتفون الأثر ويتتبعونه.

(7) الروض الأنف، ج2، ص 317.

(8) السيرة النبوية، ط1، ص344.

(9) المستفاد من قصص القرآن، للدكتور عبد الكريم زيدان، ط1، مؤسسة الرسالة – بيروت، ج2، ص 97، وعزاه المؤلف إلى السيرة النبوية فى ضوء القرآن والسنة، للدكتور أبى شهبة، ج1، ص 473، 474.

(10) الرحيق المختوم، لصفى الرحمن المباكفورى، دار الإيمان للطبع والتوزيع، ص 164.

(11) فقه السيرة، للشيخ محمد الغزالى – دار الدعوة – الإسكندرية، ط2، ص 182.

(12) الثقف: أى ذو فطنة وذكاء، والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، واللقن أى: حسن التلقى لما يسمعه.

(13) البخارى، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبى (رقم 3905)، ويكتادان من الكيد، أى يُطلب لهما فيه المكروه.

(14) السابق.

(15) الرحيق المختوم، ص 164.

(16) السيرة النبوية، ص 341، وانظر الروض الأنف، ج2، ص 321.

(17) المرأة فى موكب الدعوة، لمصطفى الطحان، ط1، دار التوزيع والنشر الإسلامية: 1420هـ – 1999م، ص81

(18) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذى طرح فيه الحجارة المحماة ليذْهب وَخَمُه.

(19) ينعق: نعَق بغنمه، أى صاح بها وزجرها.

(20) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.

(21) البخارى (مرجع سابق).

(22) الخريت أى: الماهر بالهداية.

(23) غمس حلفًا: أى أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به.

(24) صحيح البخارى (مرجع سابق).

(25) المستفاد من قصص القرآن، ص 108، 109.

اترك تعليق