أ.د.رشيد كُهُوس
إن القران الكريم كلّه إما حديث إلى الإنسان أو حديث عن الإنسان، وقد تكررت كلمة (الإنسان) في القرآن الكريم أزيد من ثلاث وستين مرة بصيغها المختلفة جمعا وإفرادا، وقد تضمن القرآن الكريم دستورا ينظم حياة الإنسان وعلاقاته بنفسه وعلاقته بخالقه وعلاقته بغيره من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وبالكون الذي يعيش فيه.. وقد حمَّله الله تعالى أمانة عمارة الأرض وبناء العمران والنهوض بمسؤولية الاستخلاف، ووعد المؤمنين العاملين بالتمكين لهم في الأرض، وكتب لهم العزة والنصر، إن هم ساروا على منهاج السنن الإلهية وعملوا بمقتضاها وقاموا بتسخيرها.
لكن الأمة المسلمة تأخرت في فقه هذه السنن الإلهية تأخرا أورثها تراجعا حضاريا، وانكسارا تاريخيا، وأفسح المجال للأمم الأخرى التي تمكنت من اكتشاف السنن الكونية؛ فاستذلت الشعوبَ والأمم واستعبدتها ونهبت خيراتها وتسلطت على رقابها، ونجحت في إضعاف الأمة وجعلتها تابعةً لها، مما جعلها خارج الركب الحضاري..
ذلك بأن كلَّ أمة فعلت ما يوجب لها البقاء فإنها باقية بأمر الله تعالى، وكلّ أمة تنكبت السنن وعصت ربها حصدتها عجلتها جزاء وفاقا. (منها قائم وحصيد).. قائم آخذ بالسنن الإلهية، وحصيد تنكب هديها.
من أجل ذلك أصبح فقه السنن الإلهية من أكثر الأولويات إلحاحا، ومن أكبر القضايا التي تستدعي اهتماما خاصا ورعاية فائقة، لما يحتله من موقع وأهمية حاسمة في استنهاض الأمة وتوجيه طاقاتها نحو الفعالية الحضارية العالمية والإنجازات التاريخية التي تكون في مستوى المرحلة وتتناسب ومتطلبات الواقع المعولم وتحديات العصر…
ذلك بأن الأمم لا تقوم على الجهل، فمن ملك ناصية العلم ملك ناصية العالم، ومن ملك العلم ملك القوة، ومن ملك القوةَ فرض إرادته على العالم، ولابد أن يأخذ العلمُ سلطانَه وفق السنن الإلهية.
وتأسيسا عليه جاءت هذه المقالة لتبرز الوظائف الهدائية والتربوية والعقدية والمعرفية والاجتماعية والحضارية والتنبؤية والتسخيرية والمصلحية للسنن الإلهية، وهي كما يلي:
1-وظيفة هدائية:
يقول الله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) (138) (آل عمران).
وعليه فإن من وظائف السنن الإلهية هداية البشرية إلى الطريق المستقيم، وإلى المسلك الصحيح لعبادة الله تعالى والنهوض بأمانة الاستخلاف في الأرض. ذلك بأن الإنسان المستخلفَ في الأرض، يجب عليه أن يبحث عن كل الأسباب التي تجعله أهلا لهذه الخلافة، وأول هذه الأسباب وأعظمها هو أن يحقق العبادية الكاملة لله تعالى التي يتوقف عليها مصير الإنسان الأخروي، بل هي شرط لتحقيقِ الإنسانِ لأعلى درجات حريته وكرامته وإنسانيته. قال الله جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
هذه العبودية تتحقق بمعرفة سنن الله تعالى وقوانينه التي بثها في هذه الحياة للسير على منهاجها واستعمالها والعمل بمقتضياتها. قال عز من قائل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)﴾[النور].
ذلك بأن معرفة الإنسان بهذه السنن الإلهية التي تحكم الحياة البشرية؛ والوقوف على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم والجماعات والحضارات، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، وحصدها قانونه على غفلة من الناس، تملأ قلبه إجلالًا وتعظيما وتوقيرًا لله جل في علاه، فيقبل على ربه فيعبدُه حبا وخوفا ورجاء.
2-وظيفة تربوية:
يقول الله تعالى: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)).آل عمران.
هذا وإن وظيفة السنن التربوية تتجلى في تربية الإنسان، وتصحيح أخطائه، وإرجاعه إلى الصوابية، والأخذ بيده إلى السداد والتوفيق، فضلا عن الترغيب في سنن الخير والسعادة، والترهيب والتحذير من سنن الشر والشقاوة. علاوة على إرشاد البشر وتعريفهم بطريق النجاة والفلاح، حتى ينتهجوا سنن الصلاح، ويبتعدوا عن سنن الضلال والهلاك.
هكذا فإن السنن الإلهية تُلهم الناس طريق الصلاح في الأرض، ذلك بأن وظيفتها الأساس هي العملُ على إصلاح المجتمع البشري أدبيا وماديا، والسعي لتطهيره من كل الشوائب والآفات، حتى لا يبقى فيه أثر للمساوئ والمعايب، وبذلك يتفادى الوقوعَ في الكوارث والنوائب والأزمات، ويصبح مجتمعا صالحا، جديرا بأن يوصف بكونه إنسانيا، لأنه ينهج نهجا أخلاقيا قيميا ربانيا.
3-وظيفة عقدية:
إن السنن الإلهية تقود الخلق إلى توحيد الخالق، فالسنن الكونية تدل على وحدة الصانع المبدع الخالق لهذا الوجود، في نظام بديع ومحكم.
والسنن الإنسانية والهدائية التي تحكم حركة الإنسان في الحياة الاجتماعية والنفسية تقود الإنسان إلى وحدة المعبود، من خلال اتعاظه واعتباره بهذه السنن واستهدائه بهداياتها، وعمله بمقتضاها، وتصديقه وإيمانه بما شرعه الله من سنن هدائية توجه سيره في مسيرته في الحياة، وتضبط سلوكه وحركته.
إن إدراك العلاقة بين البعد الإيماني والغيبي، والسنن التي تحكم عالم الشهادة، وأهمية البعد الإيماني في الهداية إلى هـذه السنن، والتفاعل الذي يحدثه الإيمان بين هـداية السماء واستجابةِ الأرض لتحقيق الشهود الحضاري، وربط نتائج ذلك بقضية الإيمان وانتظام السنن.. يقود إلى الإيمان بالله تعالى، ويدفع الفرد إلى الإنجاز والعمل الصالح.
ذلك بأن الإنسان بمعزل عن السنن سيغفل عن أسرار الكون وظواهره ذات المعنى الإنساني، ويتناسى مقومات التسخير واستجابة الكون المعطاءة له، ويتناسى دفع الله له فعليا وحضاريا من داخل حركته في الحياة، ويتناسى خلقه المتكافئ مع مقومات الوجود باعتباره هو نفسه خلقه الله مكرما وفي أحسن صورة، ويتناسى أن فعله قائم على قدرة إلهية محفزة ومهيئة.. يتناسى كلّ ذلك ويركن إلى قوة عمله ويضعها مقابل الكون.. فيخسر المعنى الحقيقي لوجوده وتجربته، حيث يرد الأمر كلّه إلى مطلقه الذاتي، فيختصر نفسه في حدود الموضع الضيق قياسا إلى الاتساع الكوني بكل أبعاده وفعاليته الوجودية الذي سخره اللهُ للإنسان، فتفقد القيم الإنسانية المقابلة للنسيج الكوني في كليته معانيها الخُلقية.. ويفقد الإنسان معناه الإنساني، ويتحول إلى وحدة بيولوجية متعددة الخصائص في حدود ما تعطيه تجربة المكان من توجهات غريزية بحتة..
يقول الله تبارك وتعالى : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 162]. ذلك بأن الوعي السنني لا يقف عند حدود معرفة سنن الله في الأنفس والكون والمجتمعات، بل يتجاوزها إلى ما بعد السنن من حكمة الحكمة ومقصد المقاصد، وتدبير الحكيم العليم، ومشيئته النافذة في خلقه، وقدرتِه العظيمة في التصرف في الكون وتنظيم شؤونه.. لنعرفه بها معرفة تزيدنا منه قربًا وله حبًّا، ونوحدَه ونعبده وحده مخلصين له الدين..
إن الله تعالى دعا الناس كثيرا أن ينظروا في هذا الكون ليقفوا على سننه ويستثمروها في حياتهم، وحضهم بقوة أن يقرؤوا صحيفة هذا الوجود ليصلوا من الكون إلى مكونه وليستدلوا بالوجود على موجده ولينتفعوا أبلغ انتفاع بتلك القوى العظيمة التي خلقها لأجلهم وسخرها لنفعهم قال تعالى في سورة الجاثية: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(مناهل العرفان، ص322).
4-وظيفة معرفية:
يقول الله تبارك وتعالى في أول ما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)).
إن السنن الإلهية توجهنا إلى القراءة المعرفية التدبرية الصحيحة، قراءة في قراءتين (قراءة باسمه، وقراءة بمعيته): قراءة باسمه تعالى عبر التعلق بقدرته المطلقة في الحركة الكونية والآفاق، وهي قراءة سننية كونية شاملة لآثار القدرة الإلهية وصفاتها، وأوامره التكوينية، وعظمته وربوبيته، وبديع صنعه، وتناسق نظامه الكوني، قراءة خالصة لقدرة الله تعالى في كتابه المنظور (الكون)، وفي بديع خلقه للإنسان في أحسن تقويم، (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق) (العلق: 1-2)..
وقراءة ثانية بمعيته (اقرأ وربك الأكرم) وهي قراءة في عالم الصفات التي تتجلى في الخلق، وفي الكون الذي سخره للإنسان، وفي العلم الذي أكرم الله به الإنسان، فالله تعالى هو مصدر العلم والمعرفة؛ فهو الذي هيأ الإنسان بجميع الحواس والملكات والقدرات والطاقات الملائمة لإدراك المعلومات وتصور الحقائق والمعاني، وهو الذي يفتح لمن شاء من عباده من مغلقات الأسرار في الوجود.. وهي قراءة لتجليات السنن الإلهية في حركة المخلوقات والمكوَّنات وتفاعلاتها.
وربك في القراءتين هو المتجلي. يتجلى في القراءة الأولى بالقدرة المطلقة، ويتجلى في القراءة الثانية بالكون المنظّم وشروط الحركة وقوانينها وأشكال الظواهر وخصائصها الطبيعية ونواميسها الكونية.
فهما قراءتان ربانية (باسم ربك) وإنسانية (علم القلم)، تتم الأولى بالله والثانية بمعيته، والقراءة الثانية هي تمييز للإنسان وتأكيد لقدراته، بما يعطيه الكرم الرباني، أي علم القلم الإنساني القائم على أطر موضوعية محددة في نشاط الظواهر وكيفياتها وعلاقاتها.
فطموحات الإنسان العلمية ومنجزاته الحضارية تأتي معطوفة على الخلق التكويني المستوي على قاعدة التسخير. فهناك اندماج كامل بالفعل البشري في الخلق الإلهي (السنن الكونية)، ولا يتم الوعي بذلك وعيا حقيقيا إلا بجمع القراءتين في قراءة واحدة. وبجمعهما معا تتضح معالم المنهج السنني المستمد من القرآن الكريم إذ يدرك الإنسان وقتها أن يأخذ بالسنن الكونية في كون مُسخَّر بآيات الرحمة، بالموازاة مع الاهتداء بالسنن الهدائية فيسوده الشعور بالسلام مع ربه ومع ذاته ومع الكون ومع مجتمعه.
والقراءاتان فريضتان (اقرأ)، فلا تستقيم الحكمة إلا بهمها، قراءة للسنن الكونية وقراءة للسنن الاجتماعية المتعلقة بالتكوين الحضاري في الدفع بالتجربة البشرية إلى الأمام، والوعي البشري المشترك.
فتعطيل القراءة الثانية والنفور من الدينا والعيش خارجها يؤدي إلى الانتقاص من قيمة الفعل البشري، ومن ثم القيمة الوجودية للإنسان في الحياة، وهو أمر يختلف عن النهج القرآني، وتعطيل الأولى يؤدي إلى الإلحاد وإلى الغفلة عن الله تعالى، كالاتجاه الوضعي التي غيب اللهَ عن الكون وما فيه من نواميس، وإذا غفل الإنسان عن القراءة السننية وقع في المحضور: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رآه اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}
تقرر هذه الآيات ثلاثة مبادئ مترابطة فيما بينها، تتولد في الإنسان حين يأخذ بالقراءة الثانية فقط، وبمعزل عن الأولى، أي حين يستند بالقلم بمعزل عن القدرة المطلقة. فهنا سيستغني بالطبيعة عن موجدها. فَقَدَ حينئذ الطبيعة معناها الإنساني المسخَرة له، ويتخذ الوجود كلّه شكل القوى المتصارعة المتضادة والمتنابذة، ويصبح موقف الإنسان هو موقف السيطرة عليها بالعلم، وتمجيد ذاته من خلال إنجازاته الحضارية المتنامية.
هذا التحول في مصادر المعرفة، وفي الاستناد إلى القدرة الإلهية المطلقة ينتج عنها الانتصار القلمي الذي يولد الإحساس بالاستعلاء، عبر الصراع والفساد والظلم و(الطغيان). طغيانُ الإنسانِ المتولد عن ارتباطه بالمادة وغفلته عن الله تعالى وعن الدار الآخرة.
ولا ينتهي الأمر أن يدع الله الإنسان مستمرا في طغيانه، مفجرا الصراع في الأرض، بل يرده إلى الحقيقة الكونية (وإن إلى ربك الرجعى) بارتداد القدرة الإلهية على الإنسان ضمن مقومات الفعل نفسِه وشروطه وبنحو دنيوي.
فالقدرة الإلهية في تداخلها مع الفعل البشري تظل مهيمنة على نتائج الفعل البشري الحضارية، بحيث يصبح الإنسان مسؤولا عن فعله، فالتداخل لا يبطل التمايز. (ولله عاقبة الأمور).
فالتدخل الإلهي في الفعل البشري توفيقا وتضليلا يتجلى في اتجاهين: فالفعل المتوافق مع الإرادة سيأتي محدودا في نتائجه مع محدودية التكافؤ فيدفعه الفعل الإلهي ويصحح مساره وهو ما يسمى بالتوفيق المرتبط بالتوكل: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
كما يدخل الفعل الإلهي في مسيرة الفعل البشري بشكل آخر في تجارب الانحراف الحضاري وذلك باختلال هذا العمل وحجبه عن نتائجه المتوقعة، وصرفه إلى العبثية والأزمة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.)(النور: 39)( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)(الفرقان: 23).
وهكذا تقوم السنن الإلهية بوظيفتها المعرفية، في إرجاع كل أمر إلى مصدره وسياقه وتوجيهه في مساره نحو غايته.
هذا عِلاوة على أن فقه السنن الإلهية يقوم على فهم الوحي الرباني في عالميته وشموليته ووحدة موضوعيته وتناسبيته وعطاءاته المستمرة، وفي علاقته مع الوجود الكوني بأسره. فهو الفقه الأكبر الجامع لـفقه الكون والاجتماع والتاريخ والإنسان.
ذلك بأن الاستثمار الفقهي الفروعي لآي القرآن الكريم لا يتجاوز خمسمائة آية، في حين أن الفقه الأكبر (فقهَ السنن) يدعو إلى الاستثمار الكلي لآي القرآن الكريم (أزيد من ستة آلاف ومائتي آية) -(6236 بالعد الكوفي-6214 بالعد المدني)-، التي تقدم لنا فقها سننيا شموليا كليا لحركة الاستخلاف البشري في الحياة خاصة، وحركةِ الوجود الكوني عامة.
وحين يُذكرنا القرآن بأحوال الأمم السابقة وكيف جرت عليهم السنن الإلهية في الكون من ازدهار للحضارات أو انهيار لها، فإن ذلك كان على سبيل التعليم والإفادة من الدرس والعبرة من التاريخ؛ ليكون تاريخ الإنسان مجالا رحبا لعمل العقل ليتعرف منه أساس ازدهار الحضارات وانهيارها، فيعي العبرة السننية من قصص القرآن. فالكون كلُّه مسرح للعقل وميدانٌ لعمله، وتاريخ الإنسان كلّه مسرحٌ لنظر العقل، والعقل مهيأ للسيطرة الكلية على الكون واحتواء تاريخه، فكرا وتأملا، مقدمات ونتائج، علاقات بين الأشياء، أسبابا ومسببات، تسخيرا وتوظيفا، وتلك مهمةُ العقل ووظيفتُه في عالم الشهادة، وذلك واجبه الشرعي الذي ندبه القرآنُ له وحثه عليه وأمره به.
وليس من قبيل المصادفة أن يلفت القرآن الكريم نظر المسلم إلى بعض آيات بعينها من آيات الله في كونه جعلها اسما وعلما على بعض سور القرآن:
(الرعد، النجم، الحديد، الذاريات، المرسلات، التكوير، البروج، الضحى، الانفطار…)، وكأنه يقول للعقل في هذه اللفتة: تلك قضية تحتاج إلى نظر وتدبر، وقد يقرأ المسلم هذه الآيات دون أن يعطيها حقها من النظر والتدبر مع أنها تحتاج من القارئ أن يقف أمامها طويلا وطويلا.
ومن ثم لابد أن نتوجه صوبَ آيات القرآن الكريم، بالقدر نفسه الذي توجهنا به نحو آيات الأحكام، واستنبطنا منها هـذه الكنوز العظيمة في مجال التشريع، لنكتشف فقها اجتماعيا وحضاريا في إطار علوم الإنسان، والقوانينِ الاجتماعية، التي تحكم مسيرة الحياة والأحياء، والتي تخلفنا فيها إلى درجة لا نُحسد عليها.
5-وظيفة اجتماعية حضارية:
إن فقه السنن الإلهية لا يشكل لنا الوقاية من الأزمات الاجتماعية والحضارية فقط، وإنما يشكل دليلا هاديا في إدارة الأزمات، واكتشاف عوامل البناء الثقافي والفكري والعمراني للأمة في سائر مراحلها التاريخية، وفي جميع عصورها..
ومن ثم فإن الأمة بما أتاح لها الوحي من سنن النهوض قادرة على تجاوز مشكلاتها وتحدياتها، واستشرف مستقبلها، وبناء عمرانها الحضاري، إن هي وعت هذه السنن وسخرتها وعملت بمقتضاها،( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ) (الأنفال: 42).
ومن ثم تتجلى الوظيفة الاجتماعية الحضارية لفقه السنن في حماية رحلة الإنسان من الخلل والخطأ والانحراف، وامتلاك الرؤية على تصويب الخلل وتجنب الإصابات، واكتشاف أفق جديد للنهوض الحضاري للأمة.. فضلا عما تمدنا به من فقه سديد للتعاطي مع الأزمات واقتحام العقبات، وفهم الظواهر النفسية والاجتماعية والكونية.
أضف إلى ذلك أننا بفقه السنن الإلهية نعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والتقدم، وعوامل الهدم والخوف والانحطاط والتخلف والدمار، على أن هذه السنن مرتبطة بالأمر والنهي، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، فالإنسان إذًا أتى بالأمر واجتنب النهي، ووقف عند حدود الله، أصاب خير السنة الربانية،; إذا أهمل الأمر وخالفه، وارتكب النهي عنه، ووقع في حدود الله، أصاب شر السنة الربانية.
وهكذا تنقلنا السنن الإلهية من الهداية الفردية إلى الفعل الحضاري:
أي تجعل قراءتنا لكتاب الله المسطور (القرآن الكريم) مقترنةً بقراءة كتاب الله المنشور (الكون) بمختلف أبعاده ومكوناته، إذ إن هذا الكون هو مجال تطبيق الهداية البشرية ومحور الاستخلاف والعمران الذي يهدف إليه القرآن الكريم. فكل قراءة للوحي منفصلة عن العلوم الكونية (سنن الكون) ستؤدي إلى الانفصام بين الدنيا والآخرة، ومن ثم إلى تعطيل مهمة الإنسان في الكون، فتكون الهداية المحصَّلة منغلقة عن الذات، أنانية، مخالفةً للهداية القرآنية المنفتحةِ التي تعطي ثمارها الطيبة للإنسانية جمعاء.
هذا ومن شأن هذه السنن الإلهية أيضا أن توقفنا على دعائم النهوض الحضاري للأمة ومقوماته، وعوامل التمكين وأسبابه، وأن تساعدنا على إدراك المقاصد وإبصار الحلول وتحصيل المؤهلات وامتلاكِ وسائلِ النجاح في مسيرتنا العمرانية، ومن شأنها أن تمكننا من تصويب الحاضر وإدراك أسباب تغيير المجتمع والرقي به للاهتداء إليها والاتعاظ بها لمعالجة أمراضنا وبناء مستقبلنا.
6-وظيفة تسخيرية:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 13].
تتجلى وظيفتها التسخيرية في أنها تمكننا من فهم سيرورة الحياة وإدراك النتائج من المقدمات، وامتلاك القدرة على التسخير. وتمكنُ الإنسانَ من القيام بأمانة الاستخلاف واستثمار فعالية السنن التسخيرية. لتحقيق أعلى مراتب الترقي الاستخلافي في خط حركة العبودية والعمران والشهود الحضاري والتمكين وهدايةِ الخلق والفوزِ في الآخرة.
وحين يتفقه العقل المسلم في هذه السنن الإلهية يصبح أقدر على فهم العالم حوله كما يصبح أقدرَ على تسخير الكون في صالحه.
هذا وبقدر إحراز الأمة لفهم أكبر لتسخير السنن الكونية والاستفادة منها، وتطبيق أدق لها، تتبوأ مكانتها على الأرض. وبقدر نقصها في الفهم والعمل بموجبه وتقصيرِها في اللحاق بالحقائق الثابتة، ينعكس على سيرها سلبا وإيجابا.
ولذلك فإن الإعراض عن تسخير سنن الله تعالى التي يسرها وذللها وسهلها للإنسان تجعل هذا الإنسان يفقد ميزاته الأساسية، وأمانته التي حمَّله الله إياها، والسلطان الذي أعطاه الله تعالى له، لتسخير ما خلق الله له. ويصير هذا الإنسان المكرم في أسفل سافلين، بل يصير نفسه مسخرا للذين يعلمون سنن الله الكونية.
7-وظيفة تنبؤية:
يقول الله تبارك وتعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].
إن الوظيفة التنبؤية للسنن تتجلى في بناء توقعات مستقبلية تستند إلى المقدمات والأسباب، فضلا عن أهميتها في التخطيط للمستقبل، وصناعة القرارات.
وإذا كان الوحي يفيدنا في معرفة الواقع والماضي، فكذلك يفيدنا في معرفة المستقبل، وبالتنبؤ بما سيكون عليه الكون، سواء أكان ذلك في الآفاق أم الأنفس أم المجتمع.
فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ –رضي الله عنهما-، قال: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله r فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَؤونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ»(سنن ابن ماجه).
ومجمل القول: إن الوظيفة الكبرى للسنن هي تمكين الإنسان من القيام بمَهمة إعمار الأرض، وأداء واجب الاستخلاف الذي كلف به بموجب آيات الاستخلاف والعهد والميثاق، وتحقيق العبادة الكاملة الخالصة لله تعالى..
8-وظيفة مصلحية:
يقول الله تبارك وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(النساء: 26).
إن الوظيفة الكبرى للسنن الإلهية هي جلب مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، وتحقيق النفع لهم في الدنيا والسعادة في لآخرة.
يقول الإمام الفخر الرازي في هذه الآية: “بل المراد أنه تعالى يهديكم سننَ الذين من قبلكم في بيان مالَكم فيه من المصلحة كما بينه لهم، فإن الشرائع والتكاليفَ وإن كانت مختلفة في نفسها، إلا أنها متفقة في باب المصالح”اهـ.
فبالسنن الإلهية تحفظ مصالح الإنسان والعالم المستخلَف فيه وتصونهما وتسعى إلى استثمار هذه المصالح وتنميتها. وهذا ما يجعل هذه السنن مصالح ضرورية واجبة المراعاة، ليس لأنها تعود على الإنسان والعمران بالنفع فقط، وإنما لكونها تحفظ مصالح الربوبية والعبودية سواء بسواء.
وهذا ما يجعل من هذه السنن تعبيرا عن التعاهد الخالد بين الخالق والمخلوق، وبين المستخلِف والمستخلَف، وبين المستأمن والمستأمَن، وبهذا العهد لا يعود الإنسان مجرد كائن أو حيوان عاقل كما تُعلبه الأفكار الوضعية، بل يعلو إلى منزلة خلافة الله في الأرض.
ومن ثم تقوم السنن الإلهية بوظيفة الرقيب والمحافظ على مصالح العالم، حتى لا يطاله الفساد والخرم، والاختلال، فهي طهرةٌ للكون ومُصلحةٌ لما فسد منه، وناظمةٌ لأمره، حتى ولو رأينا في ظاهرها القسوة والجبروت فإن باطنها الرحمة كلّها.
جزاكم الله خيرا فتحتم لناافاقا في البحث بترتيبكم وتفهيمكم لوظائف السنن نفع الله بكم دووما الدكتور الفاضل رشيد كهوس نرجو ان تحدثونا كيف تصبح هذه السنن بوظائفها ثقافة لدىىالمسلمين عامة والعاملين في الحقل الدعوي بصفة خاصة
بارك الله فيكم وأحسن إليكم، ويسعدنا متابعتكم للتعرف علي مسارات عمل المركز والاستفادة منها