بقلم الأستاذ سيد قطب(*)
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض، وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كلما عادوا إلى الإفساد في الأرض، تصديقاً لسنة الله الجارية التي لا تتخلف: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً} . .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم؛ لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم، فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء} إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن، فما سيكون بالقياس إلى علم الله كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد، ولم يكشف عنه الستار.
[الإفساد مرتين وبعْث “عبادا لنا”]
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون، وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً}. فهذه هي الأولى: يعلون في الأرض المقدسة، ويصبح لهم فيها قوة وسلطان، فيفسدون فيها، فيبعث الله عليهم عباداً من عباده أولي بأس شديد، وأولي بطش وقوة، يستبيحون الديار، ويروحون فيها ويغدون باستهتار، ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب {وكان وعداً مفعولاً} لا يخلف ولا يكذب.
حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل؛ فرجعوا إلى ربهم، وأصلحوا أحوالهم، وأفادوا من البلاء المسلط عليهم، وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم، فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض، أدال الله للمغلوبين من الغالبين، ومكن للمستضعفين من المستكبرين: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً}. ثم تتكرر القصة من جديد!
[القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة]
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}.
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة؛ والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه، وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل، منه تنتج، وبه تتكيف؛ وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء، فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً}.
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض، اكتفاء بذكره من قبل: {لتفسدن في الأرض مرتين} ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه، أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال، ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة}، ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار {وليتبروا ما علوا تتبيراً}، وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء، والذي لا يبقي على شيء.
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد، فسلط على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة، ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض، ودمر مملكتهم فيها تدميرا.
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل؛ لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئاً، والعبرة هي المطلوبة هنا، وبيان سنة الله في الخالق هو المقصود.
ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول، بأن هذا الدمار قد يكون طريقاً للرحمة: {عسى ربكم أن يرحمكم} إن أفدتم منه عبرة، فأما إذا عاد بنوا إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: {وإن عدتم عدنا}.
[العود للإفساد يقتضي بعث العباد من جديد]
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها، ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عباداً آخرين، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر».
ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة «إسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات، وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد الله القاطع، وفاقاً لسنته التي لا تتخلف، وإن غداً لناظره قريب!
ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً} . . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد؛ وتتسع لهم فلا يند عنها أحد.
(*) المقال مأخوذ من كتاب: “في ظلال القرآن” من تفسير سورة الإسراء، والعناوين داخل المقال من وضع المحرر.
كلمات مضيىئ بأشعة من نور الايمان بالله العزيز الذي يبعث في النفس ثقة بالله لا تتزعزع وتوكل لا يتضعضع بالنور خطه الشهيد وباللهب.
موفق ومعان في خدمة القرآن الكريم