بمناسبة مرور 835 سنة عليها … معركة حطين: السير نحو تحرير بيت المقدس

بقلم الأستاذ علي إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية

 

شكلت معركة حطين أبرز المعارك الفاصلة مع الصليبيين الفرنجة خلال مدة وجودهم في بلاد الشام، وقد سبقت المعركة استعدادات امتدت لسنوات عدة، وتراكم جهود من لدن عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وصولًا إلى محرر القدس صلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعًا، وقد عمل الأخير على الاستفادة من الخلافات التي جرت في مملكة بيت المقدس الصليبية، فعقد صلحًا مع أمير أنطاكيا بوهيمند الثالث، ووسع اتفاقيات سابقة مع ريموند الثالث كذلك، وهي خطوات سمحت لصلاح الدين بتشتيت جهود أعدائه، وعزل مملكة بيت المقدس عن أقوى إمارتين صليبيتين على الساحة، وهما أنطاكيا وطرابلس، وتفرغ بذلك لبناء الحشد العسكري للمعركة الفاصلة، والتحرك بشكلٍ مباشر إلى قلب فلسطين.

 

خطة صلاح الدين

وضع صلاح الدين خطة التوغل في قلب المناطق المحتلة، والاشتباك مع العدو في معركة فاصلة، خاصة أن جزءًا كبيرًا من جيشه كان من المتطوعين القادمين من مناطق بعيدة، كمصر وحلب والجزيرة وبلاد المغرب وغيرها، إضافة إلى منع الصليبيين من استعادة قدرتهم على تجميع قواتهم في معركة ثانية، فقد أراد صلاح الدين أن تكون المعركة القادمة ضربة قاصمة للوجود الصليبي في الشرق.

اجتازت القوات الإسلامية نهر الأردن وسيطرت على طبريا، وكان اختيار ميدان المعركة في منطقة غنية بالمراعي والمياه، وتجلت الحنكة العسكرية في سبق العدو، وإعطاء جنود المسلمين قسطًا من الراحة، إضافة إلى السيطرة على ينابيع المياه في واحدٍ من أكثر أشهر العام حرارة في فلسطين، وكلها شكلت عوامل عسكرية ساهمت في تحسين ظروف جيش صلاح الدين، في مقابل التعب والإرهاق الذي نال الجيش الصليبي، وقلة المياه في المكان الذي عسكروا فيه، وقد وصف صاحب كتاب الروضتين حالة الصليبيين الفرنجة “قطعت على الفرنج طريق الورود، وبلوا من العطش بالنار ذات الوقود”.

وفي 24 ربيع الآخر 583ه الموافق 4 تموز/يوليو 1187م، احتدمت المعركة بين الجانبين، فانهزم الصليبيون الفرنجة هزيمة فادحة، وتُشير المصادر إلى أن عدد قتلى الجيش الصليبي الفرنجي بلغ 30 ألفًا، وأسر 30 ألفًا آخرون، ولم ينج منهم إلا عددٌ قليل جدًا، وبلغ من كثرة الأسرى أن باع أحد جنود المسلمين أسيره الفرنجي لقاء نعل، وكان من بين الأسرى عددٌ من كبار أمراء الصليبيين وملوكهم، من بينهم ملك بيت المقدس غي دي لوزينيان، وأرناط حاكم الكرك، وصاحب جبيل وجماعة من فرسان الداوية والإسبارتية، وغير ذلك من الغنائم التي وقعت بين أيدي المسلمين.

 

ما بعد الانتصار

وبعد الانتصار الباهر فتحت أمام جيوش المسلمين الطريق لتحرير المناطق المحتلة، فاستطاع المسلمون تحرير طبريا وعكا والناصرة وصفورية تباعًا، ثم اتجهوا إلى الخليل وبيت لحم وعسقلان وغزة، وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية. وتحولت أنظار المسلمين إلى القدس، حيث أصبح الطريق لتحريرها مفتوحًا.

وبالفعل، استكمل صلاح الدين الاستفادة من التضعضع الصليبي، فسار إلى القدس وفرض الحصار عليها في 15 رجب 583هـ الموافق 20 أيلول/سبتمبر 1187م، وكان فيها نحو 60 ألف مقاتل، عدا عن خلقٍ كثير من غير المقاتلين من النساء والأطفال، وشدّد المسلمون الحصار على المدينة، وحاولوا اقتحامها غير مرة، فطلب الصليبيون الأمان مقابل تسليم المدينة، ولكن صلاح الدين رفض وقال لهم “لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه”.

ولكن الرقيّ الإسلامي واتباع أوامر الشريعة وحرص صلاح الدين على عدم إراقة دماء الأبرياء من سكان القدس، وعلى أثر تكرر المراسلات بين الجانبين، قبِل صلاح الدين إعطاء الصليبيين الأمان مقابل فدية عن كل من يخرج من المدينة منهم، حتى دفع السلطان من جيبه الخاص الفدية عن أعداد كبيرة من فقراء الصليبيين، ما جعل صلاح الدين نموذجًا فريدًا، يحترمه العدو قبل الصديق.

وتم تسليم المدينة في 27 رجب 583هـ الموافق 2 تشرين أول/أكتوبر 1187م، بالتزامن مع ذكرى الإسراء والمعراج، ورُفعت الأعلام الإسلامية على أسوار القدس، وأمر صلاح الدين بإزالة ما أقامه المحتلون في المسجد الأقصى إذ كانوا قد حولوا جزءًا منه إلى كنيسة، وأجزاء أخرى إلى أماكن للسكن والخيول، فأمر بإعادة المسجد إلى حالته القديمة، وأمر بجلب منبر نور الدين زنكي إلى الأقصى.

 

وتأتي أهمية معركة حطين في عددٍ من النقاط والنتائج نذكر منها:

 

أنها أقسى هزيمة يتلقاها الصليبيون في أثناء مدة احتلالهم للمناطق الإسلامية في بلاد الشام، وأدت إلى تراجع قوة الصليبين ونفوذهم بشكلٍ كبير.

شكلت المعركة بوابة تحرير أجزاء واسعة من فلسطين المحتلة حينها، إضافة إلى أنها كانت الفرصة الأبرز لتحرير القدس بعد سنوات طويلة من الاحتلال.

الوعي الاستراتيجي الإسلامي بميزان القوى حينها، إذ تُظهر المعركة قدرة صلاح الدين والقادة معه على الاختيار الجيد لميدان المعركة، وحرمان الصليبيين من الاستعانة بالجغرافيا ضد الجيوش الإسلامية، وما سبق المعركة من معاهدات وفتح لبعض الحصون والمدن، جعلها نموذجًا في التخطيط.

تراكم الجهود الإسلامية في سياق التحرير، وهو تراكم بدأ منذ اللحظة الأولى للاحتلال الصليبي، وتراكم نتيجة ظهور قادة وضعوا التحرير نصب أعينهم، إضافة إلى ظهور مدارس إصلاحية أسهمت في بناء الجيل الكفؤ، وتصدير العلماء العاملين، ما أسهم في بناء جبهة إسلامية واجهت الخطر الصليبي.

تحول صلاح الدين إلى أسطورة، فما قام به من معاملة كريمة للصليبيين، حولته إلى بطلٍ عالمي، وهو تجلٍ لأخلاق الإسلام في الحروب، وصورة حقيقية للجهاد يستعيدها اليوم أبناء فلسطين في غزة والضفة.

إنّ ذكرى معركة حطين هي واحدة من روافع الأمل في تحريرٍ قادم للقدس والأقصى، وصورة لأهمية مواصلة العمل والجهاد، فقد بقي ظل الصليبيون سنوات طويلة، ولكن بقاءهم ما لبث أن انهار أمام التضحيات الجليلة، والتخطيط الواعي، والحكمة الربانية، وما حطين ببعيدةٍ عنا، وكما حرر صلاح الدين القدس، ستُحرر مهما طال الظلم وطغى البغي…

 


منقول عن موقع مدينة القدس

اترك تعليق