بقلم د. علي محمد الصلابي
بعد عامٍ من المقابلة الأولى؛ الَّتي تمَّت بين الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب عند العقبة، وَافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وبايعوه العقبة الأولى، عشرةٌ من الخزرج، واثنان من الأوس، ممَّا يشير إلى أنَّ نشاط وفد الخزرج الَّذين أسلموا في العام الماضي، تركَّز على وسطهم القبلي بالدَّرجة الأولى؛ لكنَّهم تمكنوا في الوقت نفسه من اجتذاب رجال الأوس، وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام، ومن الدروس المستفادة من بيعة العقبة الأولى نذكر التالي:
– اتَّجه التَّخطيط النَّبويُّ للتَّركيز على يثرب بالذَّات، وكان للنَّفر الستَّة الذين أسلموا، دورٌ كبيرٌ في بث الدَّعوة إلى الإسلام، خلال ذلك العام.
– كانت هناك عدَّة عوامل ساعدت على انتشار الإسلام في المدينة؛ منها:
(أ) ما طبع الله عليه قبائل الخزرج، والأوس من الرِّقَّة، واللِّين، وعدم المغالاة في الكبرياء، وجحود الحقِّ، وذلك يرجع إلى الخصائص الدَّمويَّة والسُّلاليَّة؛ الَّتي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وَفَد وَفْدٌ من اليمن، بقوله: «أتاكم أهل اليمن، هم أرقُّ أفئدةً، وألين قلوباً» [البخاري (4388) ومسلم (52)] وهما ترجعان في أصليهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزَّمن القديم،(النَّدويِّ ، ص 154) فيقول القرآن الكريم مادحاً لهم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9] .
(ب) التَّشاحن، والتَّطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة، الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطَّاحنة كيوم بُعاث، وغيره، وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم، ممَّن كان نظراؤهم في مكَّة، والطائف، وغيرها، حجر عثرة في سبيل الدَّعوة، ولم يبقَ إلا القيادات الشَّابَّة الجديدة، المستعدَّة لقبول الحقِّ؛ إضافةً إلى عدم وجود قيادةٍ بارزةٍ معروفةٍ، يتواضع الجميع على التَّسليم لها، وكانوا بحاجةٍ إلى من يأتلفون عليه، ويلتئم شملهم تحت ظلِّه.
قالت عائشة رضي الله عنها: «كان يومُ بُعاثَ أمراً قدَّمه الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ، فَقَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق مَلَؤهم، وقُتِلت سَرَوَاتهم وجُرِّحوا، فقدَّمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام». [البخاري (3777 و3846 و3930) وأحمد (6/61) والبيهقي في دلائل النبوة (2/421)] .
(ج) مجاورتهم لليهود، ممَّا جعلهم على علمٍ – ولو يسيرٍ – بأمر الرِّسالات السَّماويَّة، وخبر المرسلين السَّابقين، وهم – في مجتمعهم – يعايشون هذه القضيَّة في حياتهم اليوميَّة، وليسوا مثل قريشٍ؛ التي لا يساكنها أهل كتاب، وإنَّما غاية أمرها أن تسمع أخباراً متفرِّقةً عن الرِّسالات، والوحي الإلهيِّ، دون أن تلحَّ عليها هذه المسألـةُ، أو تشغل تفكيرهـا باستمرارٍ، وكان اليهود يهـدِّدون الأوس، والخزرج بنبيٍّ قد أظلَّ زمانـه، ويزعمون: أنَّهم سيتَّبعونـه، ويقتلونهم به قتَل عـادٍ، وإرم! مع أنَّ الأوس، والخزرج كانوا أكثر من اليهود،( العودة، 1991، ص 183) وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابـه العزيز. قال تعالى: ﴿وَلمَا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلـمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 89] .
وكان الأوس، والخزرج قد علوا اليهود دهراً في الجاهليَّة، وهم أهل شرك وهؤلاء أهل كتاب، فكانوا يقولون: إنَّ نبيّاً قد أظلَّ زمانه، نقتلكم به قتلَ عادٍ وإرم.(السيوطي، ج1 ص 216)
فلـمَّا أراد الله إتمام أمره بنصر دينه؛ قيَّض ستَّة نفرٍ من أهل المدينة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فالتقى بهم عند العقبة – عقبة منى – فعرض عليهم الإسلام، فاستبشروا، وأسلموا، وعرفوا: أنَّه النَّبيُّ الَّذي توعَّدَهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في بيوتها، وكان هذا هو «بدء إسلام الأنصار» كما يسمِّيه أهل السِّير.
– حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطوُّر مهمٌّ لمصلحة الإسلام، فبعد الحرب العنيفة في بُعَاث استطاع النَّفر السِّتَّة من الخزرج، أن يتجاوزوا قصَّة الصِّراعات الدَّاخلية، ويُحضروا معهم سبعةً جدداً، فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعني أنَّهم وفوا بالتزاماتهم؛ الَّتي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصَّدع، وتوجيه التَّيَّار لدخول الإسلام في المدينة؛ أوسها، وخزرجها، وتجاوز الصِّراعات القبليَّة القائمة.
– كان التَّطُّور الجديد الَّذي أثمرته بيعة العقبة قد بعث مصعب بن عمير ممثلاً شخصيّاً للرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ يعلِّم النَّاس القرآن الكريم، ومبادئ الإسلام، واستطاع مصعب بحكمته، وحصافته، وذكائه السِّياسيِّ أن يحقِّق انتصاراتٍ كبيرةً للإسلام.( الغضبان، 1988، ص 71.)
– استطاع سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل في عامٍ واحدٍ الكثير، وما ذلك إلا بتوفيق الله تعالى، ثمَّ بصدق ذلك الدَّاعية وإخلاصه، فأين سفراء دول المسلمين اليوم من سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى ولاة الأمر أن يختاروا السَّفير المؤمن الملتزم الموهوب؛ الَّذي يستطيع أن يمثِّل بلاده، ودينه قولاً وعملاً، وخُلُقاً وسلوكاً، فيرى النَّاسُ، ويسمعون من خلاله.
– استطاع السَّفير مصعب رضي الله عنه أن يهيِّئ البيئة الصَّالحة، لانتقال الدَّعوة والدَّولة إلى مقرِّها الجديد؛ حيث استطاع ترجمة روح بيعة العقبة الأولى عمليّاً وسلوكيّاً، والَّتي تعني الالتزام التَّامَّ بنظام الإسلام.(الدقس، 1994، ص 356.)
– بذل الرَّسول صلى الله عليه وسلم كلَّ ما يملك من جهدٍ لتعبئة الطَّاقات الإسلاميَّة في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصيرٍ للجهد البشريِّ الممكن في بناء القاعدة الصُّلبة، الَّتي تقوم على أكتافها الدَّولة الجديدة، واحتلَّ هذا الجهد سنتين كاملتين من الدَّعوة، والتَّنظيم.( الغضبان، 1988، ص 71.).
– نجحت التعبئة الإيمانيَّة في نفوس مَنْ أسلم من الأنصار، وشعرت الأنصار بأنَّه قد آن الأوان لقيام الدَّولة الجديدة، وكما يقول جابرٌ رضي الله عنه، وهو يمثِّل هذه الصُّورة الرَّفيعة الرَّائعة: «حتَّى متى نترك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطوف، ويُطرَد في جبال مكَّة، ويُخاف؟!»(2).
– وصل مصعب رضي الله عنه إلى مكَّة قبيل موسم الحجِّ، من العام الثَّالث عشر للبعثة، ونقل الصُّورة الكاملة الَّتي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات، والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس، والخزرج، وأنَّ القوم جاهزون لبيعةٍ جديدة، قادرةٍ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعته.( الغضبان، 1988، ص 72.).
– كان اللِّقاء الَّذي غيَّر مجرى التَّاريخ، في موسم الحجِّ في السَّنة الثَّالثة عشرة من البعثة؛ حيث حضر لأداء مناسك الحجِّ بضعٌ وسبعون نفساً من المسلمين، من أهل يثرب، فلـمَّا قدموا مكَّة؛ جرت بينهم وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اتصالاتٌ سرِّيَّة، أدَّت إلى اتِّفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيَّام التَّشريق في الشِّعْب الَّذي عند العقبة، حيث الجمرة الأولى من مِنًى، وأن يتمَّ هذا الاجتماع في سرِّيَّةٍ تامَّةٍ في ظلام اللَّيل.
مراجع المقال:
١- علي محمد الصلابي، السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار ابن كثير، بيروت 1425ه،2004م،ص383-386.
٢- السُّيوطي، الدُّرُّ المنثور في التَّفسير بالمأثور، النَّاشر محمَّد أمين دمج، بيروت – لبنان.
٣-أبو الحسن النَّدويِّ، السِّيرة النَّبويَّة دار التَّوزيع والنَّشر الإسلاميَّة – القاهرة.
٤- سلمان العودة، الغرباء الأوَّلون، الطَّبعة الثَّالثة، دار ابن الجوزي، الدَّمام السُّعودية.عام 1412هـ 1991م.
٥- محمَّد الغضبان، التَّحالف السِّياسيُّ في الإسلام لمنير دار السَّلام، الطبعة الثانية، 1408 هـ 1988 م.
٦- كامل سلامة الدقس، دولة الرَّسول(ﷺ) من التَّكوين إلى التَّمكين، دار عمَّار – عمَّان، الطَّبعة الأولى، 1415هـ 1994م.
المدينة المنورة كانت اشجارها كثيرة وماؤها وفير فهي مدنية وحاضرة عكس مكة
كم الأمة بحاجة ماسة إلى من ينزل أحداث السيرة بشكل دقيق ومدروس على واقعها المؤلم كحلول واقعية مع خطة عمل لتطبيق تلك الحلول ومعووة على فئاة المجتمع بالكامل كي لا يبقى عذر لمعتذر