العلامة/ محمد الغزالي
ليس لمخلوق أن يفرض على أمة رأيه، وأن يصدر فى أحكامه واتجاهاته عن فكرته الخاصة غير آبه لمن وراءه من أولى الفهم وذوى البصيرة والحزم، ومهما أوتى رجل من زيادة فى مواهبه، وسعة فى تجاربه، وسداد فى نظره، فلا يجوز أن يتجهم للآراء المقابلة، ولا أن يلجأ لغير المناقشة الحرة والإقناع المجرد، فى ترجيح حكم على حكم، وتغليب رأى على رأى ..
وقد ظهر فى الغرب زعماء مستبدون، كانوا على جانب كبير من العبقرية والإقدام، وكانوا يحترقون إخلاصآ لأوطانهم، وحمية لإعلاء شأنها، ولكن هذه الميزات العظيمة ذهبت سدى، وراحت بددآ، ضحية الإعتداد الأخرق بالرأى، وفهم الزعيم أنه هدية القدر للشعب، فيجب أن يصير كل شىء إلى تقديره، وأن تزدرى الخطط كلها إلا خطته ..
فكانت نتيجة هذا الاستبداد أن سقطت ألمانيا وإيطاليا، وأن فشل ” هتلر ” و ” موسولينى ” وهما من أقدر الرجال الذين ظهروا فى العصر الحديث ..
والحكام الذين يستبدون بالأمور فى الشرق يعتبرون أطفالآ عابثين إذا قيسوا إلى أقدار هؤلاء الزعماء المهزومين، فإذا كان الإستبداد قد قتل الذكاء ونكب شعوبآ مثقفة بارعة، فكيف الحال مع ” الزعماء الصور ” فى أمم واهنة متهالكة ؟.
وما كان يجوز للأمم الإسلامية أن تضع مقاليدها فى أيدى الحاكمين بأمرهم، مهما ادعوا من مقدرة وذكاء، ذلك أنهم لن يكونوا أذكى عقولآ وأنقى قلوبا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلم، وقد كان سيد الزعماء يستشير من معه، وينزل عن رأيه إذا رأى الصواب مع غيره .. فبأى حق يجىء كائن من الإنس والجن لينفذ رغباته المجنونة على أمة يجب أن تدين له بالخضوع، وإلا حاقت بها اللعنات !!.
لما أحدق المشركون واليهود بالمدينة وحوصر المسلمون فى دورها وأزقتها على النحو الذى قال الله فيه :
•{ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا }• ..
فى هذه الأزمة العصيبة أراد النبى صلَّى الله عليه وسلم إغراء بعض القبائل بفك الحصار لقاء جُعل من ثمار يثرب، فبعث إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث عمارة المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، فجرى بينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه، فقالا : يا رسول الله .. أشىء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به ؟. أم أمر تحبه فنصنعه ؟.
أم شىء تصنعه لنا ؟.
قال: بلى، شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا أنى قد رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم، فقال له سعد بن معاذ :
يا رسول الله .. قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأصنام، لا نعبد الله ولا نعرفه، ولا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة، فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟.
ما لنا بهذا من حاجة، ووالله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم :
أنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة، ثم قال : ليجهدوا علينا ..
وفى غزوة أحد كان الرسول صلَّى الله عليه وسلم معجبآ بالرأى الذى يشير على المسلمين أن يستدرجوا قريشا إلى المدينة ليقاتلوهم فيها، وعرض على الناس أن يأخذوا به، لكن الشباب المتحمس قالوا للرسول صلَّى الله عليه وسلم :
اخرج بنا إلى أعدائنا، ولم يزالوا به .. من حبهم للقاء القوم حتى دخل منزله ولبس لأمته، وخرج مستعدآ للنزال ..
فلما رأوه قد لبس سلاحه وأحسوا بأنهم غيروا رغبته وأنزلوه على رأيهم ندموا، وقالوا : بئسما صنعنا، نشير عليه والوحى يأتيه ؟. فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : يا رسول الله، اصنع ما شئت، فقال : ” لا ينبغى لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ” ..
وكان الخير لو نزل الشباب عند رأيه، ولكنه كره أن يفتات عليهم، أو أن يتراجع عن ملاقاة الموت بعدما تهيأ له معهم ..
وفى موقعة بدر نزل الرسول صلى الله عليه وسلم فى مكان ارتآه، فجاءه رجل خبير بمواقع الصحراء وأشار عليه أن يتحول إلى غيره، ففعل ..
وفى اختياره العفو عن أسرى بدر ـ مع أنهم مجرمو حرب ـ نزل تصويب الوحى له : •{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم }• ..
وفى سماحه لبعض المترددين أن يتخلفوا عن القتال نزل عتاب لطيف على هذا الإذن السريع :
•{ عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين }• ..
ولما كانت هذه التصرفات تتعلق بالناحية البشرية المحضة فى حياة الرسول صلَّى الله عليه وسلم، وهى ناحية تتعرض بطبيعتها للنسيان والتفاوت فى تقدير الأمور والعواقب، فقد نبه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم المسلمين إلى ذلك حتى يتعاونوا معه على تعرف الحق وعلى التزامه أيا كان المهتدى إليه ..
ومن ثم جاء حديثه المشهور فى القضاء : •[ إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له بنحو ما أسمع.. فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ]•
هذا هو مسلك أعظم رجل مشت قدمه على ظر الأرض ..
—————————‘
• ليس فى السنة افتيات على حق الجماعة !.
من الخلط أن يستشهد بالأحداث التى وقعت فى عمرة الحديبية على أى عمل مما يقع فى دائرة الاجتهاد العام ..
وتفصيل الحوادث فى هذا الفصل الكريم من فصول السيرة ينطق بهذه الحقيقة، فقد خرج النبى صلَّى الله عليه وسلم مع صحابته يريدون زيارة البيت العتيق، وكان أمل الصحابة كبيرا فى أداء هذه الشعيرة لأن الرسول صلَّى الله عليه وسلم قص عليهم رؤيا تبشرهم بدخول المسجد الحرام ..
ومع أن قصد القتال كان مستبعدا أول الأمر إلا أن المسلمين
ـ وكانوا نحو 1400 ـ أخذوا للأمر عدته حتى لا يغدر بهم، قال البخارى فى صحيحه وأبو داود فى سننه : فلما وصل النبى صلَّى الله عليه وسلم إلى غدير الأشطاط قريبآ من عسفان أتاه عتبة الخزاعى وقال : إن قريشا جمعوا لك الجموع وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ..
فقال النبى صلَّى الله عليه وسلم : •[ أشيروا على أيها الناس.. أترون أن أميل على ذرارى هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن نجوا تكن عنقا قطعها الله ..
أو ترون أن نؤم البيت لا نريد قتال أحد ولا حربآ فمن صدنا عنه قاتلناه ؟.
فقال أصحابه ـ بلسان أبى بكر ـ : إنما جئت عامدا لهذا البيت لا تريد قتالآ ولا حربآ، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه :
ـ قال : ” امضوا على اسم الله ” .. ]• ..
ونحن نستنتج من هذا أمورا :
1- أن الرسول صلَّى الله عليه وسلم إلى هذه المرحلة كان يستشير أصحابه ..
2- وأنه اقترح عليهم القتال وتأديب الأحلاف الذين انضموا إلى قريش، وبرر وجهة نظره فى استعمال العنف معهم ..
3- أن الصحابة هم الذين آثروا السلم وأرجئوا القتال إلى أن يصدوا عن البيت فعلآ ..
غير أن الذى حدث بعد ذلك قلب النيات والأوضاع، فبينما النبى صلَّى الله عليه وسلم على ناقته القصواء يتقدم الركب ويستعد لما يتكشف عنه الغيب ـ ولو كان قتالآ داميآ فى الحرم ـ إذا بالناقة تبرك وحاول الصحابة إرغامها على استئناف السير فأبت وتوقفت، فقالوا : خلأت القصواء ـ أى حرثت وعجزت ـ فقال النبى : •[ ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل .. والذى نفسى بيده لا تدعونى قريش إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت تسعى، هذه الحالة كانت بداية التحول وبها خرج الأمر من حدود الشورى العامة ورأى الناس، وبدأ الرسول صلَّى الله عليه وسلم يتصرف مستفتيا قلبه الملهم وحده مصيخا لتوجيه الله .. ولو كان ذلك مخالفا للنية التى اقترح على أصحابه تنفيذها أول الأمر أو مخالفا لرغبات هؤلاء الصحاب وآمالهم التى خرجوا بها، فإذا كلم فى ذلك قال :
•[ إنى رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصرى ]• ..
*
لقد خرج الأمر إذن عن ميدان الشورى وحدود الاجتهاد، ومع أن الرسول كان يقول لأبى بكر وعمر قبلا :
•[ لو اتفقتما على أمر ما خالفتكما ]• ..
فإنه هنا خالف جمهور الصحابة لأن المجال قد قطع فيه الوحى، وأصبح لا رأى فيه لبشر ..
فإذا جاء حاكم مستبد وافتات على رأى الأمة مستشهدآ بما حدث فى الحديبية فيجب أن يصفع بحد السيف لا بباطن اليد، فإن الإستبداد لا يستشهد له دليل من دين الله ..
وإذا وقع قارئ محدود الفقه على هذا الفصل من السيرة فاتخذه ذريعة لإهدار رأى الجماعة فينبغى أن يكشف له قصوره وأن يعرف الناس سيرة نبيهم من منابع الحق لا من مجارى الشهوات ..
الرجل الذى تكلؤه السماء، ويؤيده الملأ الأعلى، وتصلى عليه الملائكة ويبلغ رسالته بعين الله، ويصحبه من آى القرآن قول الله له : •{ إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا }• ..
لم يمنعه هذا أن يلتقط الحكمة من أى إناء، وأن يبحث عن الحق مع أولى الفطنة والفقه من صحابته، والذى يقرأ سيرة هذا الرسول الجليل يعلم أى أفق من آفاق المجد والحصافة والكياسة كان يحيا فيه ويلقى الناس به، والرجل العظيم يلقى الناس بآرائه فلا يبالى أن يناقشوه ويناقشهم حتى يستبين وجه الحق ..
شتان بين هذه القمم الشم وبين الأغمار الذين ظهروا فى الشرق أيام عاره وانهياره فأسسوا بأسمائهم دولا، وأصبحت لذويهم إرثا، وتكلموا بغبائهم ممن وراءهم فأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ..
هذا .. وقد قال علماء التفسير فى شرح قوله ـ تعالى ـ :
•{ وشاورهم في الأمر }•
ما سر هذه المشاورة مع كمال عقله، وجزالة رأيه، ونزول الوحى عليه، ووجوب طاعته على كافة الخلق فيما أحبوا وكرهوا ؟.
ثم أجابوا بأن القصد شاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، من شئون الدنيا وسياسة الحرب والسلم، لتستظهر برأيهم وتستعين بخبرتهم، فيتمخض لك الحق الخالص، ثم إن هذا تطبيقآ لقلوبهم وتدعيمآ لأشخاصهم مما يجعلهم عليه أعطف وأحب .. ولتستن به من بعده الحكام فلا يهملوا الرعية وينفردوا بالنظر فى تدبيرها، قالت عائشة :
” ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله ” ..
واتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه من الله وحى لم تقع فيه مشورة، فهو حكم لا معقب له ..
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد..رحم الله العلامة أديب الدعوة وأكرم نزله وطيب ثراه