جيل القرضاوي

بقلم فضيلة الشيخ د. عبد الوهاب الطريري

د. عبد الوهاب الطريري

فضيلة الشيخ د. عبد الوهاب الطريري

نحن جيل تفتح وعينا في بداية مدارج الشباب وأولى خطوات الطلب وبين أيدينا كتاب الحلال والحرام لشيخنا يوسف القرضاوي، وكنا قد شدونا شيئاً من كتب المتون الفقهية كعمدة الطالب ودليل الطالب وزاد المستقنع وكلها من مختصرات الفقه الحنبلي، فألفينا في كتاب الحلال والحرام إبداعاً في الترتيب على غير النسق الذي ألفناه، وجرأة في الترجيح، وربطاً للمسائل بواقع الحياة.

وزاد التفاتنا إليه ما جرى حينها من الأخذ والرد حول بعض اجتهادات الشيخ واختياراته والتي كانت في حينها صادمة ولكنها اليوم من المشهور لدى أهل العلم.
ثم اتسع توجهنا إلى المجال الدعوي فإذا بين أيدينا كتاب الإيمان والحياة، وكتاب العبادة في الإسلام، فهذا فيه وقدة الإيمان وأثره وتأثيره، وذاك فيه روح العبادة ومقاصدها وأسرارها.

ثم اتسعت صحوة الأمة وانتشر الوعي وانجفلت جموع الشباب في عودة مباركة إلى الدين والتدين، فإذا بين أيدينا كتاب الشيخ: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، ومن المراهقة إلى الرشد، يسدِّد الشيخ فيها ويرشِّد، ويضع البصائر لهذا الانجفال المبهج.

وهكذا تتابعت كتب الشيخ إلينا في كل مرحلة نجتازها نجد عطاء الشيخ الثر المتتابع يصحبنا علماً نيراً وبصيرة ثاقبة، حتى إذا تقدمت بنا مراحل العمر، وذرَّ قرن الفتن، وريعت الأمة من بعض أبنائها في موجات الغلو المدمر باسم الجهاد، خرج إلينا الشيخ برائعته الحافلة المحررة: فقه الجهاد، والتي التأمت على قضايا الجهاد ومسائله ومقاصده بذلك النَّفَس النوراني والتحرير العلمي، ليجعل بصائر الجهاد بين يدي شباب ثائر مندفع حتى لا يتهوك خلف رايات ملتبسة، ودعاوى مضللة.

وهكذا صحبنا الشيخ في مراحل أعمارنا، وأطوار حياتنا، وأنواع قضايانا، وشكول اهتماماتنا.

ثم صحبنا الشيخ في برنامجه: الشريعة والحياة، فكان نوعاً آخر من العطاء، وكان حضوراً آخر للشيخ هو حضور الاستحضار والبديهة، بعد أن كنا نقرأ له نتاج البحث والروية، فكان الشيخ مبهراً في حالتيه كلتيهما. كان الشيخ في البرنامج يجمع بين حماس الخطبة وهدوء الحلقة، يفاجئه السؤال فيتدفق ثراً غمراً كشلالات نياجارا.
لم يكن طرحه فطيراً من تحضير ليلة مضت، ولكن كان الشيخ يمتح من علم عتيق تراكم في مراحل العمر ودأب الشباب ونضج الكهولة، فكان ذاك العطاء النضيح المحرر.

وهكذا صحبنا الشيخ في مراحل أعمارنا.
فكان يتلقانا في كل مرحلة نصل إليها، ويسبقنا إلى كل مرحلة نسير إليها.
كان شيخنا شيخ مراحل العمر كلها، فهناك شيخ لمرحلة تفيد منه ثم تتجاوزه، وهناك شيخ لكل مرحلة كلما تقدمت وجدته أمامك، وكلما تعلمت ازددت علما بعلمه، ومهما ازددت وجدت عنده ما يفيدك ويزيدك.
وكان شيخنا من هذا النمط النادر، من هذا النمط الصعب.
وكما كان الشيخ مدرسة في عطائه وبذله كان الشيخ مدرسة في سمته وصمته.

فقد كان ممن تصدى للشيخ بعض من قصر علمهم عن علمه، أو ضاق أفقهم عن أفقه فكان الشيخ آية في رعاية حرمة العلم وصيانة أدب الخلاف، وشغب على الشيخ بعض سفهاء الأحلام فلم يتطامن لهم ليتسلقوا عليه، ولكن حلق عالياً فوقهم ليرتفعوا إليه.

وخالفه علماء وفقهاء بنقد علمي فتلقى نقدهم بأدب واحترام حفظ لأهل الأقدار أقدراهم، كما حدث في مراجعته مع الشيخ ابن باز رحمه الله، فكان للشيخ في كل موقف موقف، وفي كل مقام مقام.

زاوج الشيخ في عطائه بين التحقيق العلمي والحضور الدعوي، فله تحرير العالم وتدقيقه، وله حيوية الداعية وحركته، فإذا أردنا أن نقرأ في مسائل العلم وبخاصة ما جد من قضاياه فإذا كتب الشيخ وبحوثه وفتاواه بين أيدينا.

وإذا ذهبنا إلى ملتقيات الدعوة ومؤتمراتها وندواتها فإذا الشيخ بحضوره القوي، ومشاركته المؤثرة، ونشاطه المفعم الذي يبث في الشباب روح الشباب وحيويته.

وكما أن الشيخ مسيرة علم ودعوة فإن الشيخ مسيرة تاريخ وجهاد، فقد اختار الشيخ طريقه، واختط منهجه، وجهر وجاهر بدعوته في وقت الغربة والشدة، وازدراء الدين والسخرية بالتدين، وتمسك بدينه يوم كان القابض على دينه كالقابض على الجمر.

سلك الشيخ هذا الطريق يوم كان السالكون طريق الحق فرادى غرباء، واليوم ونحن نرى الطريق واسعاً كظيظ الزحام نتذكر الشيخ والطلائع الأولى معه، فنحسب أن لهم نصيبهم من كريم البشرى في قوله تعالى: ﴿‌لَا ‌يَسْتَوِي ‌مِنْكُمْ ‌مَنْ ‌أَنْفَقَ ‌مِنْ ‌قَبْلِ ‌الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.

أما نحن الذين تفتح وعينا على عطاء الشيخ وعلمه، وأخذنا لحياتنا من حياة الشيخ عبرا ودروس حياة، نحن الجيل الذين كبرنا وبقي الشيخ كبيرنا، وتقدَّمْنا وبقي الشيخ أَمامنا، وتقدَّمْنا وبقي الشيخ إِمامنا، وكان من سعادة أعمارنا أن عاصرنا الشيخ، فإذا عرَّف جيلنا نفسه بين الأجيال بمن صحب من عظماء الرجال.
فنحن: جيل الشيخ يوسف القرضاوي.

اترك تعليق