أنيسة بنعيم سحتان
كان من أعظم النعم الإلهية على الإنسان أن ألهمه للسنن الاجتماعية التي تحكم حركة الحياة والأحياء، وكان من نعمه وفضله أيضا؛ أن كان لهذه السنن الاجتماعية خصائص تتناسب مع كونها من عند الله تعالى، هذه الخصائص جعلت من علم السنن الاجتماعية علما مقعدا وموثوقا ودقيقا؛ يعول عليه في قراءة راشدة للتاريخ؛ لتكوين رؤية واعية للحاضر، وهندسة خرائط مستقبلية ناجعة وفقه .
وقد استطاع العلماء أن يحددوها، ويتعرفوا عليها بدراستهم للسنن الاجتماعية؛ هادفين إلى تحويل ذلك الإدراك إلى نتاج عملي من خلال التعامل الواقعي مع سنن الله في الخلق[1] .
وسنن الله تعالى من منظور القرآن الكريم لها خصائص عديدة، فالناظر والمتفحص في آيات الله تعالى وسننه ومنهجه سبحانه في تسيير شؤون الدين، يرى أن هذه الخصائص لازمة لا تنفك عن هذه السنن تحقيقا لعدل الله تعالى وحكمته وعظمته.
ويمكن حصر هذه الخصائص فيما يلي:
1 – ربانية المصدر
ومما تمتاز به سنة الله في المجتمعات صفة الربانية، أي أنها من صنع الله تعالى، فهو الذي خلقها وأودعها في خلقه وأخضع لها عباده، ” فهي مرتبطة بالله، فهي تدبير إلهي .. وقرار رباني “[2]، فهذه السنن ليست سوى مظهر من مظاهر عدل الله تعالى وحكمته وتدبيره لشؤون خلقه، لذلك نجد أن الله تعالى حين يتحدث عن السنة في القرآن الكريم فإنه ينسبها إلى ذاته العلية مثل قوله تعالى: ﴿ سُنَّةَ اَ۬للَّهِ فِے اِ۬لذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اِ۬للَّهِ تَبْدِيلاٗۖ﴾ [سورة الأحزاب آية 62]، وقوله جل ذكره: ﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمُۥٓ إِيمَٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَاۖ سُنَّتَ اَ۬للَّهِ اِ۬لتِے قَدْ خَلَتْ فِے عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ اَ۬لْكَٰفِرُو﴾ [سورة غافر آية 84]، فنسبة السنن إلى الله تعالى دليل على ربانية مصدرها، وأنها تجل لأحكام الله وأفعاله في عباده .
ومعنى هذا أن كل سنة من السنن الاجتماعية قرار رباني. ويستهدف ذلك ربط الإنسان بالله تعالى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون، وإشعاره بأن الاستفادة من مختلف السنن التي تتحكم في هذه الساحات ليس انعزالا عن الله عز وجل؛ فهي ممثلة لإرادته تعالى ولحكمته ولتدبيره في الكون[3] . قوله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ اَنْ يُّوتِيَهُ اُ۬للَّهُ اُ۬لْكِتَٰبَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوٓءَةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداٗ لِّے مِن دُونِ اِ۬للَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّۧنَ بِمَا كُنتُمْ تَعْلَمُونَ اَ۬لْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَۖ﴾ [سورة آل عمران آية 78]
إن كون السنن الاجتماعية ربانية يميزها عن باقي التصورات الفلسفية والمعتقدات الوثنية التي ينشئها الفكر البشري وتصوراته الخيالية، وكون سنن الله ربانية المصدر، يعني أنها مرتبطة بالله تعالى، منه تستمد وبنوره تستضيء، وهذا ما يفرغ عليها قدسية لا نظير لها؛ لأن هذه السنن صادرة من صاحب الخلق والأمر في هذا الكون كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اُ۬للَّهُ اُ۬لذِے خَلَقَ اَ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضَ فِے سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ اَ۪سْتَو۪يٰ عَلَي اَ۬لْعَرْشِۖ يُغْشِے اِ۬ليْلَ اَ۬لنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثاٗ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتِۢ بِأَمْرِهِۦٓۖ أَلَا لَهُ اُ۬لْخَلْقُ وَالَامْرُۖ تَبَٰرَكَ اَ۬للَّهُ رَبُّ اُ۬لْعَٰلَمِينَۖ﴾ [سورة الأعراف آية 53]، ولم تصدر من البشر الذين يحكمهم القصور والعجز، والتأثر بمؤثرات الزمان والمكان[4] .
إن تأكيد القرآن الكريم على خصيصة الربانية في السنن نداء لفطرة الإنسان المجبولة على معرفة خالقها، وتنبيه واستثارة لعقله وقلبه إلى ما في تلك السنن من دلائل القدرة، فهي من خلق الله الذي ﴿ اِ۬لذِے لَهُۥ مُلْكُ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداٗ وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ شَرِيكٞ فِے اِ۬لْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَےْءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقْدِيراٗۖ﴾ [سورة الفرقان آية 2]، وأنها ﴿ وَتَرَي اَ۬لْجِبَالَ تَحْسِبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَ۬لسَّحَابِۖ صُنْعَ اَ۬للَّهِ اِ۬لذِےٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَےْءٍۖ اِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفْعَلُونَۖ﴾ [سورة النمل آية 90]، وأنها من الآيات البينات التي تثبت وحدانية الله تعالى، فقد أقام سبحانه الحجة على الناس بكتابه المنظور تماما كما أقامها بكتابه المسطور، فإذا كانت هداية الكتاب المسطور قد تمت عن طريق الرسل المبشرين والمنذرين، فإن هداية الكتاب المنظور قد تمت عن طريق سنن الله وآياته في الآفاق والأنفس[5] .
وحتى نزيد الأمر وضوحا يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن هذه السنن إنما هي تعبير وتجسيد لقدرة الله، فهي كلماته وهي سنته وإرادته وحكمته، وإنما يؤكد الله تعالى على ربانيتها لأجل أن يربط الإنسان دائما بالله تعالى، ولكي تبقى الصلة وثيقة بين العلم والإيمان، فالمؤمن في الوقت نفسه الذي ينظر فيه إلى هذه السنن نظرة علمية ينظر إليها نظرة إيمانية .
2 – خاصية عامة وشاملة:
كونها عامة ؛ أي: أن أحكامها تجري على البشر جميعا مهما كان لونهم أو جنسهم أو دينهم، وتأثيرها يطال الجميع دون تفريق أو تمييز، فسنن الله لا تحابي ولا تجامل أحد على حساب أحد، وهي بذلك تحقق ” كمال العدل الجزائي الإلهي الذي يتناسب مع جنس العمل، دون النظر إلى جنس أو دين أو مزايا هذا الفرد أو تلك الأمة “[6] . وآيات القرآن الكريم كثيرة وصريحة في هذا المعنى، منها:
قوله تعالى: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِيِّ أَهْلِ اِ۬لْكِتَٰبِۖ مَنْ يَّعْمَلْ سُوٓءاٗ يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ وَلِيّاٗ وَلَا نَصِيراٗۖ [سورة النساء آية 122] فقد روى الطبري عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أنه قال: ” تحاكم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم و أنزل الآية المذكورة[7] .
والمعنى: ” أن كل من يعمل سوءا يلق جزاءه؛ لأن الجزاء بحسب سنة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه، وميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني، وإنما يرجع إلى أصل ثابت وسنة محكمة وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم، فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر، وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون”[8].
لقد كان اليهود والنصارى يقولون: ﴿ وَقَالَتِ اِ۬لْيَهُودُ وَالنَّصَٰر۪يٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ اُ۬للَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥۖ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلَ اَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنْ خَلَقَۖ يَغْفِرُ لِمَنْ يَّشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَّشَآءُۖ وَلِلهِ مُلْكُ اُ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَاۖ وَإِلَيْهِ اِ۬لْمَصِيرُۖ ﴾ [سورة المائدة آية 20] وكانوا يقولون: وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا اَ۬لنَّارُ إِلَّآ أَيَّاماٗ مَّعْدُودَةٗۖ قُلَ اَتَّخَذتُّمْ عِندَ اَ۬للَّهِ عَهْداٗ فَلَنْ يُّخْلِفَ اَ۬للَّهُ عَهْدَهُۥٓۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَي اَ۬للَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ [سورة البقرة آية 79] فجاء الرد من فورهم بأسلوب إنكاري: ﴿ بَل۪يٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةٗ وَأَحَٰطَتْ بِهِۦ خَطِيٓـَٰٔتُهُۥ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لنّ۪ارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ (80) وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ اُ۬لْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَۖ﴾ [سورة البقرة آية 79-81]، وكانوا يقولون: وَقَالُواْ لَنْ يَّدْخُلَ اَ۬لْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُوداً اَوْ نَصَٰر۪يٰۖ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْۖ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَٰنَكُمُۥٓ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَۖ [سورة البقرة آية 110]، فكذب الله زعمهم وقال: بَل۪يٰ مَنَ اَسْلَمَ وَجْهَهُۥ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجْرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَۖ [سورة البقرة آية 110-111].
إن اليهود لا يزالون يرددون أنهم شعب الله المختار ويعتقد النصارى أن عيسى عليه السلام بزعمهم هو الذي تحمل خطيئة البشر بما يعتقدون من صلبه وَقَوْلِهِمُۥٓ إِنَّا قَتَلْنَا اَ۬لْمَسِيحَ عِيسَي اَ۪بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَ۬للَّهِۖ ۞وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْۖ وَإِنَّ اَ۬لذِينَ اَ۪خْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِے شَكّٖ مِّنْهُۖ مَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ اِلَّا اَ۪تِّبَاعَ اَ۬لظَّنِّۖ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناَۢۖ (156) بَل رَّفَعَهُ اُ۬للَّهُ إِلَيْهِۖ وَكَانَ اَ۬للَّهُ عَزِيزاً حَكِيماٗۖ [سورة النساء آية 156-157].
ولعل بعض المسلمين كانت ومازالت تراود نفوسهم فكرة أن الله متجاوز عما يقع منهم؛ لأنهم مسلمون، ولأنهم خير أمة أخرجت للناس.
من الآيات الدالة على العموم أيضا قوله تعالى: اَكُفَّارُكُمْ خَيْرٞ مِّنُ ا۟وْلَٰٓئِكُمُۥٓ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٞ فِے اِ۬لزُّبُرِۖ [سورة القمر آية 43]، حيث تخاطب الآية مشركي مكة، والمعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من أولئك الأمم التي تقدم ذكرها ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل وكفرهم بالكتب، فلا تظنوا أن يشملهم العذاب دونكم، أم مع كفار مكة من الله براءة أن لا ينالهم عذاب ولا نكال[9] .
ولولا ثبات السنن واطرادها وعمومها لما كان معنى في ذكر قصص الأمم السابقة وطلب الاعتبار بما حل بهم، ولكن لما كان ما جرى لهم وعليهم يجري على غيرهم إذا فعلوا فعلهم حسب ذكر قصصهم وطلب الاعتبار والاتعاظ بها .
ولذلك ختمت هذه الآيات التي تحذر كفار قريش من تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يؤيد عموم هذه السنة فقال تعالى: وَلَقَدَ اَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٖۖ [سورة القمر آية 51] يعني: لقد حق الهلاك على أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل فلتكن لكم فيهم عبرة وعظة[10] .
إن سنة الله في المكذبين بالمعجزات بعد أن شهدوها تقضي بإهلاكهم، كما هو واضح من القصص القرآني في سورة القمر وغيرها، ولكن رحمة الله كانت قد سبقت لأكثر قريش والعرب أن سيؤمنوا، ويكون لهم في نشر الإسلام والجهاد في الله شأن أي شأن، فاقتضت حكمة الله ورحمته بعد أن كذب من كذب بمعجزة انشقاق القمر فاستحق الهلاك أن يحبس الله عمن غاب عنها غيرها من المعجزات الحسية، حتى لا يكذبوا فيهلكوا .
ولذلك يقول الدكتور الغمراوي: ” ولابد أن تكون سنة الله قد نفذت في القليل الذين أجريت لهم معجزة انشقاق القمر من كفار قريش، فيكونوا ممن هلك في بدر أو قبلها مع من هلك من المستهزئين .
والحديث الذي ذكره الآلوسي رواية عن أبي نعيم يشهد لهذا، على ضعف فيه عند الآلوسي، فقد ذكر أسماء بعد رؤوس المشركين الذين شهدوا الآية وكذبوا بها، وكلهم أهلكوا مثل النضر بن الحارث “[11] .
والحاصل من صفة العموم للسنن الاجتماعية أن أي مجتمع أخطأ أو انحرف متنكبا سنن القانون الإلهي لقي جزاء خطئه أو انحرافه وتنكبه، ولو كان خير المجتمعات، وحسبنا في هذا ما دفعه الصحابة ثمنا لخطئهم في غزوة أحد، وهو ما سجله القرآن عليهم بوضوح في قوله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَكُونُواْ كَالذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لِإِخْوَٰنِهِمُۥٓ إِذَا ضَرَبُواْ فِے اِ۬لَارْضِ أَوْ كَانُواْ غُزّيٗ لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اَ۬للَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةٗ فِے قُلُوبِهِمْۖ وَاللَّهُ يُحْيِۦ وَيُمِيتُۖ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٞۖ [سورة آل عمران آية 165] وبين في آية أخرى هذا الذي عند أنفسهم بقوله سبحانه: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اُ۬للَّهُ وَعْدَهُۥٓ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِۦۖ حَتَّيٰٓ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَٰزَعْتُمْ فِے اِ۬لَامْرِ وَعَصَيْتُم مِّنۢ بَعْدِ مَآ أَر۪يٰكُم مَّا تُحِبُّونَۖ مِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ اُ۬لدُّنْي۪ا وَمِنكُم مَّنْ يُّرِيدُ اُ۬لَاخِرَةَۖ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْۖ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَي اَ۬لْمُومِنِينَۖ [سورة آل عمران آية 152][12] .
والمقصود أنه لا محاباة ولا تمييز ولا استثناءات في اتصاف السنن والقوانين الإلهية بالعموم والشمول، وفي ذلك تحقيق لسابغ عدل الله وحكمته إِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يَظْلِمُ اُ۬لنَّاسَ شَيْـٔاٗ وَلَٰكِنَّ اَ۬لنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَۖ [سورة يونس آية 44].
والآيات الدالة على عموم سنته تعالى في خلقه كثيرة، مثل قوله تعالى: اَمْ حَسِبْتُمُۥٓ أَن تَدْخُلُواْ اُ۬لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُم مَّثَلُ اُ۬لذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ اُ۬لْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّيٰ يَقُولُ اُ۬لرَّسُولُ وَالذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَت۪يٰ نَصْرُ اُ۬للَّهِۖ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ اَ۬للَّهِ قَرِيبٞۖ [سورة البقرة آية 212]، وقوله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمُۥٓ أَن تَدْخُلُواْ اُ۬لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اِ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ اَ۬لصَّٰبِرِينَۖ [سورة آل عمران آية 142]، وقوله سبحانه: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِے اِ۬لَارْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ اُ۬لذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اَ۬للَّهُ عَلَيْهِمْۖ وَلِلْكٰ۪فِرِينَ أَمْثَٰلُهَاۖ [سورة محمد آية 11]، وقوله تعالى: سُنَّةَ اَ۬للَّهِ فِے اِ۬لذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اِ۬للَّهِ تَبْدِيلاٗۖ [سورة الأحزاب آية 62]، وغير ذلك من آيات طلب السير في الأرض للاعتبار بمآل الأمم السابقة، وكذلك الآيات التي وردت فيها لفظ ” سنة ” ومشتقاتها عقب تقرير حكم أو بيان قضاء لله في الخلق .
وشاملة ؛ فتشمل وتنضبط لها جميع الظواهر الاجتماعية والتاريخية؛ أي: ” أن السنن الاجتماعية جامعة لا تقبل التجزئة، وشاملة لكل شؤون الحياة ولكل ميادين النشاط البشري، ولكل القضايا في هذا الكون”[13] ، حيث نجد ” في كل علم من العلوم وفن من الفنون وفي كل مجال من المجالات … سنن الله – عز وجل –”[14] ، بل تشمل وتسري على كل الأزمات والعصور وكل الأحيال، وبهذا فإن السنن الإلهية بشموليتها وعموميتها لتشكل بذلك أسمى وأبهى مظاهر العدل الإلهي .
3: خاصية الثبات والاطراد:
إن كتاب الله المنظور منذ بدء الخليقة إلى يوم الناس هذا؛ يشهد بأنه يسير على وتيرة واحدة لا تتخلف ولا تتبدل، وكتاب الله المسطور يؤيد أيضا على هذه الحقيقة وعبر آيات كثيرة، ولقد تفطن مفكرو الإسلام إلى أن هذا لم يكن ” ليتحقق لو لم تكن السنن ثابتة مستمرة “[15] ومطردة؛ كشأن ” القاعدة القانونية. فهي ثابتة لا تتغير “[16] ، لذلك كانت خصيصة الثبات والاطراد من الخصائص التي أكسبت علم السنن الاجتماعية الصبغة العلمية.
والمقصود ” باطراد السنن الاجتماعية: تتابع تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها “[17] ، بحيث إن نتائج أية حركة ” تصدق متى ما وجدت المقدمات، والعواقب تظهر متى ما وجدت الأسباب… ولذلك فهي تحقق العدل والانضباط في النظام الكوني والتاريخ والبشرية “[18] .
وأصل هذه الخصيصة التي تؤكد هذا المعنى موجود في الكثير من الآيات القرآنية؛ وقد ” استهدف القرآن الكريم من خلال التأكيد على طابع الاطراد في السنة الاجتماعية، استهدف أن يؤكد على الطابع العلمي لهذه السنة وأن يخلق في الإنسان المسلم شعورا واعيا على جريان أحداث التاريخ متبصرا لا عشوائيا ولا مستسلما ولا ساذجا “[19] ؛ إذ لا مجال لا للصدفة ولا للاتفاق ولا للعشوائية[20] ولا للعادة[21] كما ادعى ويدعي ذلك الكثيرون، كما أنه لا مجال للحتمية[22] ، فلولا ” اطرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها “[23] .
إن سنن الله مطردة لا تتوقف ولا تتعطل، وجريانها ” وتحققها يكون بقضاء الله عز وجل وقدره وحكمته، يستوي في ذلك سنن الله الجارية والخارقة. وإذا أراد الله تبارك وتعالى شيئا فإنه لا ينفذه بإبطال سننه المطردة وأقداره الماضية في خلقه، ولكن بالترجيح أو التوفيق بينهما “[24] .
وكما أن هذه السنن مطردة فهي سنن ثابتة أيضا ” تسير الحياة على مقتضاها مهما اختلفت القرون والأجيال “[25] بحيث ” لا يطر أعليها أي تغيير أو تبديل “[26] تحت تأثير الزمان والمكان والأهواء والمصالح، ولا تتوقف عند لحظة أو زمن معين[27] ، وهي ثابتة ” لا تتخلف لأنها منبثقة من صميم العلاقات التي بين الله والعالم والإنسان؛ لذا فهي تكاد تكون محتومة، لارتباطها بمقدماتها ارتباطا وثيقا “[28] ، وهذا لا يعني ” الجمود في قالب حديدي وإنما يعني الحركة – التي تعتبر قاعدة في التصميم الكوني والحياة البشرية – في مضمار هذه الخصيصة حتى لا تسود الفوضى والحيرة في الكون “[29] .
والقرآن الكريم وهو يثبت هذا المعنى من خلال الكثير من الآيات الكريمات؛ يرد على من ” يخرج النكبات التي تصيب الصالحين عند عدم تعاملهم مع الأسباب يخرجها على أنها ابتلاء ورفع درجات أو تكفير سيئات وما أشبه هذا الكلام، ولكن الصواب أنه راجع إلى عدم تخلف السنن واطرادها في كل حال “[30] كما يبطل ادعاءات القائلين بالصدفة؛ والراجع في أغلب الأحيان لقصور العقل البشري على إدراك العلل والأسباب المؤدية إلى تلك النتائج؛ إذ لولا ثباتها لا تسع المجال للعبثية والفوضى[31] .
والتاريخ يثبت ذلك ” فما عرف وما جرى لها خرق قط في ماض أو حاضر، فهي ماضية مستمرة لا تتبدل ولا تتغير على مر الأزمان والدهور، وذلك لقيامها وبنائها على الحكمة الإلهية “[32]. أما فيما يخص ” السنن الكونية فقد تنخرق أحيانا نصرة لبعض المؤمنين أو نجاتهم، أو هلاك العصاة الخارجين عن طاعته … ينقضها الله إذا شاء[33] . وبالنسبة للسنن التشريعية وأحكامها، ” فنجدها تنقسم إلى قسمين: قسم يمثل الثبات والخلود، وقسم يمثل المرونة والتطور، ويتجلى هذا الثبات في المصادر الأصلية النصية القطعية للتشريع…وتتجلى المرونة في المصادر الاجتهادية، التي اختلف فقهاء الأمة في مدى الاحتجاج بها “[34].
إن ثبات واطراد السنن الاجتماعية من مظاهر الرحمة الإلهية بالإنسان – فردا وجماعة وأمة – والتي تفوق الحصر، فثباتها مكنه من الاتعاظ والاعتبار، واطرادها أشعره بأنه يتعامل مع أشياء ذات مواصفات ثابتة، بمعنى أنه عرف أن مباشرة الفعل الفلاني تؤذي إلى نتيجة محددة[35] . وبهذا ” تثبت النفس وتطمئن ويحيطها الاستقرار، الذي يكون توطئة لمعرفة ما لكل امرئ وما عليه، فيعتبر المبصر ويحذر المخطئ، ويتحسس كل إنسان أين تسير به قدماه فيحجم أو يقدم – مستندا إلى ظنه – لمصيره ومآله في دنياه وأخراه “[36] .
4: خاصية الأجل:
قال الله تعالى: وَلَقَدَ اَرْسَلْنَا رُسُلاٗ مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمُۥٓ أَزْوَٰجاٗ وَذُرِّيَّةٗۖ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ اَنْ يَّاتِيَ بِـَٔايَةٍ اِلَّا بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞۖ﴾ [سورة الرعد آية 39]، ، فالله تبارك وتعالى قيد كل شيء في هذا الوجود بقدر معلوم إلى أجل معلوم، فيكون معنى الآية: أن لكل أمر قضاه الله كتابا وأجلا قد كتبه الله عنده، لا يتقدم ولا يتأخر .
والأجل ” يختلف باختلاف الأشياء، والسبب الذي أجلت له، لكن لا ينفك عن الزمن والأجل. ومن هنا كان عامل الزمن ضابطا من ضوابط السنن الاجتماعية “[37] .
وعليه، فنلمح مما سبق أن أجل كل شيء يختلف عن الآخر؛ فمنه ما يعد بالشهور نحو قوله عز وجل: يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِے رَيْبٖ مِّنَ اَ۬لْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٖ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْۖ وَنُقِرُّ فِے اِ۬لَارْحَامِ مَا نَشَآءُ اِ۪لَيٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّيٗ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاٗ ثُمَّ لِتَبْلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمْۖ وَمِنكُم مَّنْ يُّتَوَفّ۪يٰ وَمِنكُم مَّنْ يُّرَدُّ إِلَيٰٓ أَرْذَلِ اِ۬لْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنۢ بَعْدِ عِلْمٖ شَيْـٔاٗۖ وَتَرَي اَ۬لَارْضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا اَ۬لْمَآءَ اَ۪هْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنۢبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجِۢ بَهِيجٖۖ [سورة الحج آية 5]، ومنه ما يقاس بالعمر كما جاء في قوله تعالى وتقدس: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ اَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اِ۬للَّهِۖ كِتَٰباٗ مُّوَ۬جَّلاٗۖ وَمَنْ يُّرِدْ ثَوَابَ اَ۬لدُّنْي۪ا نُوتِهِۦ مِنْهَاۖ وَمَنْ يُّرِدْ ثَوَابَ اَ۬لَاخِرَةِ نُوتِهِۦ مِنْهَاۖ وَسَنَجْزِے اِ۬لشَّٰكِرِي [سورة آل عمران آية 145]، وقوله سبحانه: وَلَنْ يُّوَ۬خِّرَ اَ۬للَّهُ نَفْساً اِذَا جَآءَ اجَلُهَاۖ وَاللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعْمَلُونَۖ [سورة المنافقون آية 11]، وقوله جل ذكره: مَّا تَسْبِقُ مِنُ ا۟مَّةٍ اَجَلَهَا وَمَا يَسْتَٰخِرُونَۖ [سورة الحجر آية 5]، ومنها ما يدوم بدوام الدنيا كقوله تبارك وتعالى: اَلَمْ تَرَ أَنَّ اَ۬للَّهَ يُولِجُ اُ۬ليْلَ فِے اِ۬لنَّه۪ارِ وَيُولِجُ اُ۬لنَّهَارَ فِے اِ۬ليْلِ وَسَخَّرَ اَ۬لشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّٞ يَجْرِےٓ إِلَيٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّيٗ وَأَنَّ اَ۬للَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٞۖ [سورة لقمان آية 28].
ولولا اتسام سنن الله بهذه الخصيصة للحق بالكافرين العذاب في أول وهلة، قال الحق غز وجل: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِۖ وَلَوْلَآ أَجَلٞ مُّسَمّيٗ لَّجَآءَهُمُ اُ۬لْعَذَابُ وَلَيَاتِيَنَّهُم بَغْتَةٗ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَۖ [سورة العنكبوت آية 53]، وقوله سبحانه: وَلَوْ يُوَ۬اخِذُ اُ۬للَّهُ اُ۬لنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَيٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِنْ يُّوَ۬خِّرُهُمُۥٓ إِلَيٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّيٗۖ فَإِذَا جَآءَ اجَلُهُمْ فَإِنَّ اَ۬للَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِۦ بَصِيراٗۖ [سورة فاطر آية 46].
هكذا ترتبط سنن الله بالأجل؛ فلكل شيء أجل، فإذ جاء أجلهم فلا يتقدم ولا يتأخر: يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُوَ۬خِّرْكُمُۥٓ إِلَيٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّيًۖ اِنَّ أَجَلَ اَ۬للَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُوَ۬خَّرُۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَۖ [سورة نوح آية 4].
5 – خاصية التنوع
إن التنوع في الخلق يستتبع وجود تنوع مماثل في السنن التي تحكمه؛ فالله سبحانه خلق هذا الكون البديع الجميل، وبث فيه من المخلوقات أنواعا كثيرة لا تعد ولا تحصى. ولهذا يمكن إدراك مقدار التنوع في السنن التي تحكم المخلوقات، وإدراك السبب في عدم انكشاف كثير من هذه السنن .
فالإنسان يشاهد كثيرا من مخلوقات الله عز وجل ويرى كثيرا من الظواهر، فلا يدرك الحكمة من خلقها، ولا يعرف السنن التي تحكمها. ويرجع سبب ذلك إلى خفاء بعض السنن وتقصير الإنسان في البحث عنها لكثرتها وتنوعها؛ فهناك عشرات الألوف من الحشرات والنباتات والحيوانات التي لا نعرف الحكمة من خلقها، ونجهل السنن التي تحكمها. ويرجع ذلك إلى قصور العلم الإنساني: وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اِ۬لرُّوحِۖ قُلِ اِ۬لرُّوحُ مِنَ اَمْرِ رَبِّے وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ اَ۬لْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاٗۖ [سورة الإسراء آية 85].
ويرجع أحيانا أخرى إلى القصور في الرسائل المتاحة بين أيدي البشر. ومن ذلك على سبيل المثال: الإشعاع الذري، فهذا الإشعاع الذري أوجده الله سبحانه وتعالى منذ ملايين السنين، ولم يتمكن الإنسان من اكتشافه إلا بعد تطوير الأجهزة الحساسة لهذا الإشعاع الذي يصدر عن العناصر الكيماوية المشعة. وبعد دراسة هذه الظاهرة علم الإنسان بوجود سنة تحكم عملية الإشعاع الذري. وعندما تعمق بدراسة هذه السنة – بفضل الله تعالى – أن يسخر الإشعاع الذري في أغراض شتى مدنية وعسكرية: كعلاج الأورام السرطانية، وتوليد الطاقة الكهربائية، وصنع القنابل النووية[38] .
ومن أجل ذلك، فالإنسان مطالب دوما ببذل الجهد الدؤوب المستمر لاستخراج ذخائر هذا الكون الذي تحكمه سنن لا تعد ولا تحصى. فالله جلا علاه خلق هذا الكون واستخلف الإنسان فيه، ومنحه القدرة على تسخيره واستغلال كنوزه وثرواته. ولكنه سبحانه جعل شروطا للوصول إلى تسخير الكون من قبل البشر، وهو أن يعرفوا ابتداء طبيعة السنن التي يخضع لها. وهذا يتطلب استجابة وصبرا ودأبا وإبداعا، ثم يعملون على توفير الوسائل والأدوات المناسبة التي تعينهم على تسخير هذه السنن – مناط الاستخلاف – وتفتح لهم الطريق لفهم هذا العالم، وفك رموزه، والتعامل معه[39] .
6 – خاصية النفاذ والصرامة
خاصية النفاذ والصرامة من تجليات العدل الإلهي في هذا الكون؛ وذلك لأن السنن الاجتماعية لا تحابي أحد، ولا تفرق بين شخص وآخر، ولا بين أمة وأخرى لأي سبب من الأسباب، فالأعمال الخيرة حلوة الثمرة عظيمة النتائج، والأعمال الشريرة ستكون وبالا على أصحابها إن عاجلا وإن آجلا[40] ، وبحياديتها هاته؛ تستجيب لكل من يتعقلها، ومن خالفها وتنكبها فهي له بالمرصاد[41] ، ولذلك فإن أي تأخر أو اهتزاز في نفاذ هذه السنن، سوف يؤول إلى تميع الحركة التاريخية، وعدم انضباطها جزائيا، وبالتالي يؤول إلى موقف نقيض لمفاهيم الحق والعدل[42].
إن طبيعة السنن الصارمة والنافذة تصوغ الإنسان؛ صياغة تتعامل مع واقع الأمر كما هو، فسنن الله صارمة ونافذة على الجميع، ولا يمكن لأي جماعة أن تفكر أو تطمع بأن تكون مستثناة من سننه[43] .
وخلاصة القول : إن السنن الإلهية عموما والاجتماعية منها بوجه الخصوص، امتازت بخصائص عديدة، أبرزها أنّ هذه السنن الاجتماعية هي من عند الله تعالى الحكيم الخبير؛ وهذه الخاصيّة هي ” خاصيّة الربّانية “؛ مما يؤكد أن هذه السنن لا تخرج عن منهج الله وحكمته في تدبير شؤون خلقه، وعن هذه الخصّيصة ( الربّانية ) انبثقت باقي الخصائص الأخرى، التي تميزت بكونها متناغمة ومترابطة فيما بينها، في إطار منظومة متكاملة.
[1] أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص: 35 بتصرف .
[2] المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، ، مركز الأبحاث والدراسات التخصصية، ط: 1، السنة: 1421م ،ص: 77.
[3] السنن التاريخية في القرآن، محمد باقر الصدر، أعاد صياغة عباراته وترتيب أفكاره محمد جعفر شمس الدين، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، السنة: 1409ه-1989م، د: ط، ص: 68.
[4] علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، مراجعة وتقديم: قسم الدراسات والنشر والشؤون الخارجية، دبي – مركز الماجد للثقافة والتراث، ط: 1، السنة: 1436ه – 2015م، رشيد كهوس، ص: 57.
[5] سنن الله في إحياء الأمم في ضوء الكتاب والسنة، حسين شرفة، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت – لبنان، ط: 1، السنة: 1429ه – 2008م، ص: 101.
[6] السنن الإلهية حقيقتها وإدراكها في ضوء القرآن الكريم، مجلة معهد الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، العدد السابع، جمادى الآخرة، سنة: 1430، ص: 98.
[7] جامع البيان في تأويل القرآن، الطبري، 9/230.
[8] تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، محمد رشيد رضا، 5/354. وتفسير في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/762.
[9] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 4/266. – الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، 19/94.
[10] تفسير القرآن العظيم، للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت: 774ه)، مطبعة دار الحديث، القاهرة، ط: 2، السنة: 1410ه-1990م، 4/266.
[11] الإسلام في عصر العلم، الرسالة والرسول والقرآن والإعجاز العلمي، للدكتور محمد أحمد الغمراوي، تقديم وتصحيح: د. عبد الحليم محمود، دار الإنسان للتأليف والترجمة، القاهرة، ط: 4، السنة: 1411ه-1991م، ص: 103.
[12] الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، يوسف القرضاوي، ص: 102.
[13] السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، ص: 68.
[14] هي هكذا، كيف نفهم الأشياء من حولنا، عبد الكريم بكار، ص: 15
[15] السنن الإلهية وتفسير القرآن الكريم في العصر الحديث، عمر حيدوسي، ص: 189.
[16] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، ص: 14.
[17] أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد كنعان، ص: 76.
[18] السنن الإلهية حقيقتها وإدراكها في ضوء القرآن الكريم، ذو الكفل بن الحاج محمد يوسف بن الحاج إسماعيل، ص: 76.
[19] السنن التاريخية في القرآن، محمد باقر الصدر، ص: 67.
[20] ( ولهذا قص علينا القرآن الكريم قصص الغابرين وما حل بهم من جراء ما اقترفوه من مخالفات للأوامر الإلهية، لنأخذ الدروس والعبر ونرجع إلى الصراط السوي، حتى لا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطراد سنة الله لما كانت دعوة للسير في الأرض والوقوف على آثار السابقين وأخذ العبرة والدروس مما أصابهم ). السنن الإلهية في السيرة النبوية، رشيد كهوس، ص: 83 بتصرف .
[21] ( يرى أصحاب هذا الرأي؛ أن القول باطراد السنن الاجتماعية ينفي المشيئة الإلهية … ). أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق ، أحمد كنعان، ص: 69-70 بتصرف.
[22] ( القول بالحتمية جعل الكثيرين يقعون في التفسير المادي أو الماركسي للتاريخ، أو تفسير القضاء والقدر تفسيرا خاطئا؛ وكان من أحد أسباب تخلف المسلمين، إلا أن هناك اتجاه إسلامي حديث للتاريخ يرى بوجود الحتمية في حركة المجتمع والتاريخ تقوم في هذه السنن، ولكن هذه الحتمية لا تشل حركة الإنسان الفرد ولا تكبل حركة الأمة إن قررت وأرادت السير في طريق التحضر أو غيره، ومما يبطل الحتمية ). السنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم، مجدي عاشور، ص: 101-102 بتصرف .
[23] السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، ص: 14.
[24] السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، ص: 61.
[25] التيسير في أحاديث التفسير، المكي الناصري، (1/267).
[26] كيف نفهم الأشياء من حولنا، عبد الكريم بكار، ص: 10.
[27] النصر والهزيمة، عبد اللطيف حسن مرشود، ص: 160 بتصرف.
[28] الحضارة الإسلامية وجه جديد، أبو اليزيد زيد العجمي، ص: 49.
[29] السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، ص: 58.
[30] مفهوم السنن الربانية، رمضان خميس، ص: 51.
[31] السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، ص: 58 بتصرف .
[32] تأصيل السنن الربانية، راشد شهوان، ص: 51.
[33] السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس: ص: 59.
[34] تأصيل السنن الربانية، راشد شهوان، ص: 51.
[35] كيف نفهم الأشياء من حولنا، عبد الكريم بكار، بدون صفحة ( التمهيد ) بتصرف.
[36] السنن الإلهية في الأمم والأفراد في القرآن الكريم أصول وضوابط، مجدي عاشور، ص: 100.
[37] التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية، سلسلة السنن الإلهية ضوابط العلوم المعرفية (3)، محمد جابري، مؤسسة الندوي مكتب الدراسات والأبحاث العلمية، وجدة، ط: 1/ جمادى الأولى 1424ه.. ص: 122. علم السنن الإلهية من الوعي النظري إلى التأسيس العملي، رشيد كهوس، ص: 78. بتصرف.
[38] أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد كنعان، ص: 83.
[39] السنن الاجتماعية في القرآن الكريم وعملها في الأمم والدول، محمد أمحزون، (1/154-155).
[40] كيف نفهم الأشياء من حولنا، عبد الكريم بكار. تمهيد.
[41] تأصيل علم السنن الربانية، راشد شهوان، ص: 55.
[42] حول إعادة تشكيل العقل المسلم، عماد الدين خليل، ص: 53.
[43] السنن التاريخية في القرآن، محمد باقر الصدر، ص: 68.
ينشر عن موقع منار الإسلام
www.islamanar.com