بقلم أ.د. فؤاد البنا
▪من يفهم الفلسفة التي يقوم عليها النظام الإسلامي يدرك بجلاء أن هذا الدين يكره التنميط ويُبغض القَولَبة، ولا يفتأ يحث أتباعه في كل وقت على مقاومة عوامل الجمود، ويدفعهم بشتى الأساليب إلى كسر قوالب الرتابة وتجفيف أسباب الملل.
▪وفي دروب التجديد وصناعة السعادة، شرع الإسلام لأتباعه الكثير من الأمور التي تساعدهم على البقاء متجددين في رؤاهم الفكرية ومشاعرهم القلبية ومستمتعين بأشغالهم العملية، وتعينهم على الاحتفاظ بحيويتهم في التدافع الحياتي والتعاملات الاجتماعية.
▪وتُعد الأعياد من أهم الأمور التي شرعها الإسلام لتجديد الحياة ومقاومة عوامل الرتابة والكآبة؛ فإن من يتأملها بعين فاحصة يجد أن من مقاصدها إخراج المسلمين من وضْع الرتابة الذي يمكن للثقافة الاجتماعية أن تكون قد أحدثتها فيهم، نتيجة ميل المجتمعات إلى التقلب في قوالب جامدة تحت مسمى الأعراف والتقاليد، وتحريرهم من حالة الركود التي تقع نتيجة البقاء لفترة طويلة في اَسْر ظروف الزمان وقوالب المكان، وما ينتج عن تفاعلهما من أمور قد يغلب عليها البرود والبلادة، مثل بعض الأعراف الصارمة والتقاليد المقيدة للخيال والإبداع، والتي تحد من طاقات الإنسان وعلى رأسها الخيال، وتمنعه من ارتياد آفاق التفكير الإبداعي والحركة الحرة.
▪وعلى سبيل المثال فإن الإسلام يُحبذ للناس إظهار الفرح في العيد بكل وسيلة ممكنة، ويعتبر ذلك عبادة مأجورة، ما دام لا يحدث اعتداء على حدود الشرع المعلومة بالضرورة، وليس على الأعراف التي تم تلبيسها لبوس الدين.
إن المسلم مطالب بأن يعبد ربه في عيدي الفطر والأضحى؛ من خلال التأنق والنظافة والأكل والشرب ولبس الجديد والتوسعة على الأهل بقدر المستطاع، وتفجير منابع السرور من مزاح ودعابة ونكت وطرائف، مع القيام بزيارة الأقارب والجيران وصلة الأرحام وإدخال السرور إلى قلوبهم، والاجتهاد في صناعة الفرحة للمنكسرين والمحرومين.
▪وتنتصب زكاة الفطر كمحطة هامة في هذا الدرب الصاعد نحو كوكب السعادة، حيث يُفرض إخراجها على الجميع ولو كانوا فقراء أو أطفالاً؛ حتى يتدربوا على صناعة الفرحة بل وحتى يتذوّقوا لذّة العطاء كما يتذوقون حلاوة الأخذ، وحتى لا يعتادوا على الأخذ، مقابل أن الكثير سيصلهم ممن هم أكثر اقتداراً منهم، ويكونون بذلك قد ولجوا عالم السعادة من شقي الأخذ والعطاء، بجانب لذة الشعور بقيمة التكافل وبركة الأخوة.
▪وينبغي في عيد الأضحى أن يخرج المرء إلى مصلى العيد صائما لكسر عادة الأكل قبل الخروج من البيت، وللحث على التقرب بالذبيحة والأكل منها، بينما يُشرع في عيد الفطر الإفطار بتمر أو ماء قبل الخروج إلى الصلاة صبيحة العيد؛ لكسر ما تعوّد عليه المرء من الصيام في هذا الوقت طيلة شهر كامل ولتهيئة المعدة للعودة إلى النظام الطبيعي، وفي كلا العيدين يحث الإسلام أتباعه على الذهاب إلى المصلى من طريق والعودة من طريق آخر، وبجانب توسيع هذه الوسيلة لدائرة التصافح والتحابب مع أكبر عدد من الناس، فإنها تسهم في القضاء على الرتابة، التي تثمر الكآبة، وتزرع قيمة التجديد في وعي القائمين بها، فهو في كل مرة يصافح أناساً متعددين ويشاهد بيوتا جديدة ويصادف مناظر مختلفة، وهذا منبع جديد من منابع حيوية النفس ويقظة الروح.
▪ومن يتمعن في فريضتي الصيام والحج اللتين جاء العيد كجائزة لهما؛ سيجد أنهما ذاتا مقاصد عديدة، ومنها الثورة على الرتابة التي تُحيل العبادة إلى تقاليد خاوية من الروح، تلك التقاليد التي تزرع الكآبة في جنبات الحياة بالوقوع في أسْر القوالب الزمانية والمكانية!
▪فالصيام ثورة على قوالب الزمان ومقاومة للقابلية للوقوع في النمطية اليومية التي تُفقد العبادة حلاوتها وتسلب من الحياة بهجتها، فطبيعة الصيام تفرض على المؤمن أن يعيد صياغة حياته بشكل قد يكون مغايرا لما ألفه طيلة أشهر العام، ثم إنه دورة تدريبية تمنح الصائم إرادة قوية على كسر القوالب الرتيبة، وتهبه قدرة مؤثرة في التمرد على العادات السيئة، ويعطيه المَدَد للانعتاق من الأسْر الذي تشترك في صناعة أغلاله الأهواء والغرائز.
▪وإذا كان الصيام ثورة على قوالب الزمان، فإن الحَجّ ثورة على قوالب المكان، حيث يخرج المرء من إطار الجغرافيا والأماكن التي تعوّد على العيش فيها بصورة قد تكون شديدة الصرامة ومن ثم الرتابة، ليسيح في أرجاء مختلفة تتراوح بين الوادي والجبل في مكة والمشاعر المقدسة، بجانب ما يصادفه في رحلته من بلده إلى مهبط الوحي ومثوى الأفئدة من أشخاص وأفكار ومناظر وأشياء مختلفة، حيث يتعانق الزمان والمكان ليمنحا الحاج خبرة لم يعرفها وطاقة لم يألفها، ليعود متجدداً بلا ضنك؛ وذلك بما كسر من قوالب الإلفة والاعتياد وما أضاف من قصص التعارف وخبرات التآلف بين ألوان وأجناس شتى، وبين ألسنة وثقافات متعددة.
ثم إن الخطايا والأوزار تُثقل كواهل الإنسان؛ فتطفئ مواهبه وتزرع في قلبه القلق والتوتر والاضطراب، وإن القيام الواعي والمخلص بفريضتي الصيام والحج يحبط الخطايا والآثام التي بين العبد وربه، فينطلق من عقال الشعور بالإثم ويتحرر من أوجاع آلام الضمير، ليعود جديدا كيوم ولدته أمه، بما يبعث في نفسه مشاعر السعادة وأحاسيس الابتهاج بلذة النعم مهما كانت بسيطة في الموازين المادية البحتة.
▪وكم من أناس أحسنوا التفاعل مع الصيام والحج؛ فحصدوا نجاحاً شديدا في التخلّص من أثقال الكآبة والحَط من أوزار الذنوب، فعادوا كما ولدتهم أمهاتهم في الفطرة السليمة والخلوّ من العُقَد، وعلى الأقل صاروا أفضل مما كانوا؛ مما يمنحهم القدرة على تذوّق طعم السعادة من جديد والاستمتاع ببهجة الحياة بروح مختلفة.
▪ولهذا فقد وجدنا عددا من الأعلام الذين كتبوا عن رحلات حَجّهم بمداد عشقهم، وسجلوا ما عانوا من مصاعب استحالت إلى خبرات جديدة وإلى طاقة باعثة للسعادة، ومن هؤلاء مفكرون غربيون اعتنقوا الإسلام، كالمفكر النمساوي محمد أسد والمفكر الألماني مراد هوفمان اللذين ألّف كل واحد منهما كتاباً تحت عنوان (الطريق إلى مكة)، وإن كان محمد أسد قد ضمّن كتابه قصة رحلته إلى الإسلام وليس فقط قصة حجِّه. ومن هؤلاء الفنان والمصور الفرنسي الفونس أتيين دينيه الذي قاده الشك نحو البحث عن اليقين فوجده في الإسلام وسمى نفسه ناصر الدين، وقد كان ناصرا له بقلمه الذي سطر عددا من الكتب القيمة التي أعجب بها وأثنى عليها كثيرون وعلى رأسهم شيخ الأزهر الأسبق د. عبد الحليم محمود رحمه الله، ومن كتب دينيه كتاب (الحج إلى بيت الله الحرام) الذي ألّفه سنة ١٩٢٨م بعد أن أدى رحلة الحج وليموت بعد ذلك بعام في فرنسا، لكنه كان قد أوصى بأن يدفن في الجزائر حيث تعرّف على الإسلام واعتنقه، وكان قد أعد لنفسه قبرا في بلدة (بوسعادة) التي وجد فيها سعادته المستمدة من منهل الإسلام!
▪فيا لسعادة من يجيدون امتصاص رحيق السعادة واكتساب روح التجدد من مختلف المحطات والمناسبات!
جعل الله السعادة رفيقتكم التي لا تتخلف قرائي الأعزاء، ونثرها في دروبكم حيثما حللتم أو رحلتم.