سنة الله في التغيير وعلاقتها بالبناء العقدي في قصة نوح عليه السلام

بقلم الدكتور/ علي محمد الصلابي

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ [الرعد:11].

تعامل نوح عليه السلام بوضوح وصدق وإخلاص، فقد قاد التغيير بمنهج الله ووحيه، وبدأ بالنفس البشرية، وصنع من القلة التي آمنت به عظماء في صناعة الحضارة من بعد الطوفان، وأحدث بهم تغييراً في شكل المجتمع ومفاهيمه وأخلاقه وقيمه، ونقل الناس الذين آمنوا به من الظلمات إلى النور ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم حضارة إنسانية ثانية رائعة، حضارة السلام والبركات.

لقد قام نوح عليه السلام بما أوحى الله إليه بتغيير العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه، فتغير ما حولهم في دنيا الناس فتم تعريفهم وتربيتهم على التوحيد، وهو الأساس الذي قام عليه البناء في الحضارة الإنسانية الثانية، وقد آتت تربيته المباركة ثمارها، فتطهر أتباعه الذين نجوا معه مما يضاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا في مجتمعهم الجديد إلا إلى شريعة نوح – عليه السلام – التي نزلت من عند الله عز وجل، ولم يطيعوا غير الله ولم يتبعوا أحداً على غير مرضاة الله، ولم يحبوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله، ولم يتوكلوا إلا على الله، ولم يلتجئوا إلا لله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم يركعوا إلا لله أو يسجدوا …إلخ، وآمنوا باليوم الآخر واستعدوا له غاية الاستعداد من خلال مفهوم التوحيد والعبادة وعمارة الأرض وخلافتها.

وآمنوا بقضاء الله وقدره، وأن العاقبة للمتقين، وآمنوا بأركان الإيمان التي دعا إليها نوح عليه السلام، ولم يقتصر في تربيته لهم على تعليمهم أركان الإيمان، بل صحح عندهم كثيراً من المفاهيم والتصورات والاعتقادات عن الإنسان والحياة والكون والعلاقة بينهما؛ ليسيروا على نور من الله، ويدركوا هدف وجودهم في الحياة، ويحققوا ما أراد الله منهم غاية التحقيق، ويتحرروا من الوهم والخرافات، فاتضح تصورهم عن:

   قصة آدم والحضارة الإنسانية الأولى وعداوة الشيطان لآدم وبنيه.

   أهمية العبادة والأخلاق لبني الإنسان والمجتمع الجديد.

   أهمية إعمال العقل في الآفاق والأنفس والكون واكتشاف سنن الله فيه والدلالة على الله وغير ذلك من الأمور المتعلقة بسنة الله في تغيير النفوس، لقيمة الإيمان بالله وتوحيده وما يفتح الله لعبده من خلال إيمانه به من آفاق وعوالم عقلية وروحية وفطرية ووجدانية ونفسية… يرتقي بها لتحقيق العبادة القولية والوجدانية والعملية لخالقنا العظيم سبحانه تعالى.

إنَّ نوحاً عليه السلام بدأ بالتغيير الداخلي للأنفس، وذلك من خلال الدعوة إلى الإيمان بالله عز وجل وتوحيده، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتنشئة الأفراد والأتباع على سيرة محكمة من الدرجة الأولى، وهو الذي يطبع الأفراد على الصدق والإخلاص والأمانة والعفاف ومحاسبة النفس وضبط نوازعها وإيثار الحق وسعة النظر والقلب وعلوّ الهمة والكرم والسخاء والتضحية والتواضع والشعور بالواجب، والاستقامة والشجاعة والبسالة والقناعة والاستغناء وعاطفة السمع والطاعة واتباع القانون، ويؤهلهم لأن يبرز بهم إلى حيز الوجود أحسن مجتمع وأطهر.

إنَّ الحضارة الإنسانية الثانية التي قادها نوح عليه السلام قامت على توحيد الله واتباع شرعه ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه:123- 124]، فبين لأتباعه من خلال عقيدة التوحيد حقيقة الوجود، ورسم غاية الحياة التي بنى عليها الحضارة الإنسانية الثانية التي خضعت لمفاهيم وتصورات وأفكار وقيم ومبادئ مرجعيتها الإيمان بالله وتوحيده، فجوهر الحضارة الإنسانية الثانية هو التوحيد الذي أعطاها هويتها الربانية في تأسيسها، وربط بين أجزائها التشريعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والشخصية ببعدها الإنساني والإيماني، وجمعت بين البعد الروحي والمادي في انطلاقتها الجديدة بعد الطوفان العظيم.

وكان لقصة نوح عليه السلام في التعامل مع سنة الله في تغيير النفوس الدور الأكبر من خلال الجهد الكثير والعمل المثابر الذي قام به مع أتباعه الذين يعتبرون النواة الصلبة المؤثرة في المشهد الحضاري الجديد، وتكونت منهم الشعوب والمجتمعات والأمم البشرية فيما بعد.(1)

مراجع:

(1) أبو الأعلى المودودي، الحضارة الإسلامية، ص. ص 290 – 291.

 

اترك تعليق