علاقة السنن الإلهية بالمشروع الإسلامي(3)

بقلم د. عطية عدلان (*)

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لا يمكن تصنيف الأحداث التي تقع في منطقتنا من ثورات وانقلابات وقتل وهرج وتآمر ومكائد على أنها أحداث كونية صرفة لا تَعَلُّقَ لها بإرادة الإنسان؛ لأنَّها جرت بمشيئة الخلق – محسنهم ومسيئهم – وبكامل اختيارهم، ووقعت بكسب أيديهم، وبحصد أقلاهم وألسنتهم وآلات حربهم، هذا هو الوجه الإنسانيّ للأحداث، والذي يعكس التكليف والمسئولية، أمَّا بالنظر لما وراء هذا المشهد – بكافَّة صوره الجزئية المتلاحقة – من سنن إلهية تحرك الوجود البشريّ في اتجاه صناعة واقع إنسانيّ جديد؛ فإنّ المشهد يختلف جد الاختلاف؛ ليصير قابلاً لوصفه بأنه كونيٌّ، ترسم ملامحه وتضع سماته يد القدرة وقلم القدر.

   لذلك لم تكن موجة الثورات العربيّة مجرد أحداث وتحركات شعبية؛ نجتهد في وزنها وتقييمها ودراسة سلبياتها وإيجابياتها، ومعرفة ما لها وما عليها، وإنما كانت إلى جانب ذلك زلزالاً بشرياً أحدث صدوعاً في التركيبة النفسية والعقلية والشعورية للشريحة البشرية القاطنة لمنطقتنا، وكشف كثيراً مما كان مخبوءا مستوراً، وصاغ إرادة للتغيير قوية ماضية، تذبل أحياناً تحت مطارق المحن ولكنها باقية، تبرق وتخفت وتعلو وتهبط، ولكن لا تموت ولا يلفها الفناء، إنّها بدايات عمل هذه السنة الإلهية: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ (6)) (القصص: 5-6).

    ولم تكن تلك الانقلابات على الموجة الثورية الآنفة مجرد جريمة ارتكبتها الثورة المضادة بمعاونة إقليمية جاهرة ودعم دوليّ مستتر، وإنَّما كانت إلى جانب ذلك عاصفة عاتية عَرَّت ما تبقى مما كان مستوراً من فضائح وقبائح الأنظمة وأجهزتها ومؤسساتها، وكشفت العلاقة بينها وبين القوى المتحكمة في المنطقة، وفضحت أمراً آخر ما كان ليفتضح بيد أصحابه ولو أنفَقَتْ القلة الواعية عمرها كله في سبيل ذلك، وهو السذاجة والسطحية والجهل بالواقع لدى كافة الاتجاهات المناهضة للاستبداد والمقاومة للظلم، ولعل من أهم السنن المرتبطة بذلك هذه السنة: (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: 55).

   ولا تزال الأحداث تتوالى وتتابع وتتسارع وتتسابق؛ كأنها ثورة كونية على الزيف والخداع؛ تهدف إلى إسقاط الأقنعة وهتك الحجب وكشف المخبوء وراء ركام الوعي المزيف؛ لقد تساقطت في قلوب الخلق جميع الأوهام وتحطمت كل الأصنام، فأمَّا النظام العربيّ بكافة أجنحته فبرغم بقائه واستعادته لتمكنه وتجذره بالقبضة الأمنية الرعناء لم يعد له وجود في عقول الناس وقلوبهم وقناعاتهم، حتى النظام الذي حاول من اللحظة الأولى استخدام الدين تُقْيَةً سياسية وتكأة أيديولوجية، في صولته الأخيرة تَبَخَّر كل ما تبقي له من الاحترام والتوقير، وهو الذي ظل دهوراً مستتراً وراء خدمة الحرمين الشريفين، بينما على أرض الواقع يمارس بأموال المسلمين ومقدرات الأمة أبشع الجرائم؛ إحباطاً للثورات ودعماً للانقلابات وإعانة لكل مستبد ظالم، وأمَّا النظام الدولي بكل مؤسساته الزائفة فقد تهشم على صخور الأحداث المتوالية، فلم يعد أحد يسمع اسم شيء من هذه المؤسسات إلا ويجري بخلده شريط الأحداث المؤلمة وبمحاذاته كل حكايات النفاق والخداع والختل.

   الشيء المؤكد هو أنَّ الْمُنْتَج الذي يُعَدُّ مكسبا كبيرا من وراء كل هذه الأحداث هو ذلك الكمّ الهائل من الحقائق والمعلومات التي تصلح لتشكيل وعي جديد؛ يعد الركيزة الأولى في التغيير المنشود، إلى حدّ إمكان الزعم بأنّ تتابع الأحداث وتواليها وتسارعها وتزاحمها إنما جاء على هذا النحو لكون الحاجة إلى تشكيل الوعي عاجلة وملحة وعلى درجة من الخطورة تستدعي انتفاضة توعوية شاملة؛ وعليه فإنَّ واجب الوقت الأول هو صناعة الوعي على نار الأحداث الكونية الكبيرة؛ ويترتب على هذه النتيجة أنَّ التأخر في أداء هذا الواجب يعني التأخر في الخروج من ذلك النفق المظلم، وأنَّ أكبر جرم يرتكب في حق هذه الأمة هو تفويت الفرصة على من يسعى لصناعة الوعي النظيف؛ بممارسة التشويه والتزييف.


(*) مدير مركز محكمات للبحوث والدراسات.

اترك تعليق