علمني المونديال

بقلم أ.د. جمال عبد الستار(*)

رغم اني أمسكت عن الكتابة أو التعليق على أي شيء يخص مونديال كأس العالم لأسباب خاصة، إلا أن نهايته حفزتني أن أكتب خواطري، ومن غير المنطقي أن نكون بمعزل عن واقعنا توافقنا معه أو اختلفنا، وإن كانت تلك الخواطر حاضرة في كل مونديال إلا أنها في حالتنا هذه أكثر وضوحاً وأقرب فهماً.

وحقيقة لقد تعلمت من هذا المونديال الكثير مما نحن بحاجة إليه على كل المستويات، وأسوق بعضاً مما يتيسر منه:

1ـ في تواصل مع كثير من الأجناس والأعراق والبيئات وجدت قاسماً مشتركاً يجمعهم، فأكثرهم رغم تنوع ثقافاتهم واهتماماتهم ومشاكلهم يُبدون قدراً مشتركاً من الاهتمام والمتابعة لكأس العالم، فأدركت أن غياب القضايا الكلية سبباً من أبرز أساب تفرق أمتنا، وأن من وسائل النهوض إيجاد قضية جامعة تلتف الشعوب حولها وتتفاعل مع تداعياتها.

2ـ وجدت أن التحديت والمعوقات ليست شراً كلها، ولكن يمكن أن تكون دافعاً للنجاح، وقوة معينة على النهوض، فقد وُضعت أمام دولة قطر من العقبات والتحديات مالم يخطر لأحد على بال، ولكنها تعالت عليها جميعاً، وانتصرت عليها كلها انتصاراً كاسحاً، فكان للنجاح طعم آخر، ومذاق مختلف.

3ـ تعلمت أن التأخر الحضاري ليس قدرنا المحتوم، بل يمكننا أن نكون نحن قدر النجاح والتفوق، بالاجتهاد والبذل، فنتحول من التبعية إلى الريادة، ومن عقدة النقص إلى عزة التميز.

4ـ تعلمت أن العالم يحترم من يتمسك بهويته ويقدره لاعتزازه بها حتى وإن خالفه الرأي، ويحتقر من يتنازل عن هويته وإن أبدى له صوراً زائفة من الإعجاب.

5ـ رأيت أن جمهور الأمة متعطش إلى نصرمهما كان صغيراً، ومتطلع  إلى نجاح أيا كان صاحبه، وأن الانتماء إلى الأمة بهويتها مازال في النفوس حاضراً زاهياً متالقاً رغم كل محاولات التفتيت والتفريق.

6ـ تعلمت ان المباراة حصاد لجهد طويل، ونتيجة لتدريبات شاقة،وخطط علمية دقيقة، ومعرفة بطبيعة المنافس عميقة، وإحاطة بمراكز قوته، ومواطن ضعفه، وكيفية هزيمته، فلا مفاجاة بإمكاناته ولاصدمة من قدراته، فقد أعدوا لكل ميدان رجاله، ولكل موقع جنوده.

تعلمت من المونديال أن التخصص من أبرز معالم النجاح،فالمدرب لاينزل إلى ساحة الملعب بغية إحراز هدف،ولا الحارس ينشغل بالتدريب، ولا الفريق ينشغل  بأعمال ومهام خارج ساحة الملعب، ولا فوز بدون قائد ُملهم، ولا انتصار بدون مهاجم أريب.

7ـ تعلمت أن الفريق المدافع لن يفوز دون أن يكون عنده خط هجوم ،ولا نجاح لهما بدون حارس أمين ، وكلاهما في حاجة ماسة إلى خط وسط يكون حصناً للأمان، ومصدراً للدعم، وحماية للتماسك والاتزان.

8ـ تعلمت من الجماهير كيف يكون صدق الانتماء، فمن يشجع فريقاً تراه محيطاً بنجومه وتاريخهم، متابعا لمسيرتهم، يعرف نقاط قوة فريقه، ويعتز بزيه، ويرفع شعاره، في الوقت الذي رأيت فيه حشوداً من المنتسبين للإسلام يُفرطون في فرائضه، ويجهلون سننه ،ولا يعلمون شيئاً عن تاريخه رواده من الصحابة الكرام، والتابعين لهم ب‘حسان، ولا عن العلماء والفقهاء والمصلحين، بل إنها تتجاهل مايقع عليهم من ظلم، ومايتعرضون له من طغيان واستبداد!!

9ـ تعلمت أن التنافس لن يصلح بدون جمهور، فهو من يرفع الهمم ،ويقوي الآداء، وينفخ في فريقه روحاً وثابة يتخطى بها العقبات ،ويحقق بها البطولات، ففي الهزيمة يدعم فريقه للتعويض، ويقاوم اليأس، وفي النصر يجعل للفوز قيمه بفرحته الغامرة،وسعادته البالغة  .

10ـ  تعلمت كذلك أن الهزيمة لاتعني نهاية العالم فتلك طبيعة الصراع ولكن على المهزوم أن يدرس أسباب إخفاقه دون تدليس، وأن يعترف بالأخطاء دون تبرير، وأن يُعد العدة للقاءات قادمة بأدوات ومنهجية وطرق مختلفة، فمن يتعلم من هزيمة اليوم يمكن أن يكون الفائز غداً.

 11ـ تعلمت أن نجاح المدرب يُقاس بإنجازه وليس باسمه أو تاريخه أو سابق تضحياته، فإذا خسر الفريق فإنه سرعان مايعتذر للمدرب أو ينهي عقده بصرف النظر عن أسمه ومكانته ، وما رأيت أحداً يسمي الفشل نصراً غيرنا، ويأنف أن يعترف بمسئوليته عن خسارة صراع، أو سوء إدارة فريق، بل إننا رغم فشل المدربين نزداد تمسكاً بهم، ولو أدى الأمر إلى تغيير اللاعبين والنادي والجمهور!!

بل يمكن أن نستغني عن الأشبال المميزين، والنجوم الواعدين من أجل  من لم يحرزوا هدفاً إلا في أنفسهم، ولم يشنوا هجوماً كاسحاً إلا على من ينتقدهم، ولم يكونوا أسوداً مغاوير إلا على أهلهم!!

أخيراً أقول:

لا قيمة للأهداف بعد صافرة النهاية، وأخطاء الخصم لاتوهب لك الفوز مالم تكن مستعداً،والوقت ليس جزءاً من العلاج في كل الأحوال،بل ربما يكون سبباً لتفاقم الهزائم،والاغترار بالتاريخ الناصع أو النوايا الصادقة لايحقق بطولة، واللعب بالجرحى والمصابين جريمة لاتغتفر، وعدم إدراك طبيعة الخصم بلاهة.


(*) الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة.

اترك تعليق

  1. يقول ممتاز فتح الله عليك يا دكتور:

    فتح الله عليك يا دكتور