فوائد وثمرات علم السنن الاجتماعية

الباحثة: أنيسة بنعيم سحتان

تكتسي دراسة علم السنن الاجتماعية أهمية عظيمة، بالنظر إلى مدى تأثيرها في الأمم والمجتمعات، فهي قوانين يخضع لها الوجود البشري، وتحكم أفعاله وتصرفاته، وتكيف إلى حد كبير الحركة التاريخية للإنسان في عصوره المختلفة، فهي لا تقتصر على أهمية دراسة السنن للكشف عن القوانين التي وضعها الله تعالى لعباده، وإنما لها فوائد وثمرات عملية يمكن الإفادة منها في واقع الأمة الإسلامية.

ومن الثمرات التي نجنيها من فهمنا لطبيعة السنن الاجتماعية:

أولا: ثمرة الإيمان؛ ذلك أننا حين نطلع على طبيعة السنن التي تحكم الكون وما فيه من مخلوقات كثيرة، فإننا سندرك أن هذا الكون ما كان له أن يقوم على هذه الصورة البديعة من التناسق والجمال والتوازن والاستقرار لو لم يكن خالقه ربا واحدا، وإلها حكيما، ومريدا، خبيرا، قويا، عظيما، محيطا بكل شيء، وقادرا على كل شيء، سبحانه وتعالى “[1].

فالذين يؤمنون وحدهم هم الذين يتفكرون ليتلقوا من الكون العريض حولهم موجبات الهدى ودلائل الإيمان ومنافذ الإدراك فيهم منفتحة بما أثار الإيمان فهم من قوة النظر وصحة الفكر وعمق التأمل، فلم تتعطل هذه القوة فيهم بغلبة الهوى وسيطرة العادة، فازدادوا إذعانا وعلقا بربهم بديع هذا الكون.

هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن التوجيهات الإلهية للمؤمنين للتدبر والتفكر في سنن الوجود، هي توجيهات دقيقة للعقل المؤمن ليتفتح على رصد الوقائع واستقراء الظواهر لمعرفة قوانين المادة والكشف عن أسرار الكون، إذ ما ينبغي أن يعرض عن ملاحظة  دقيق صنع الخالق جلا وعلا في الأرض والسماء، بعد أن أمره بذلك ليتعرف على كمال الله تعالى ودقيق صنعه، فيعبده على بينة وعلم، وليتعامل مع عالم الشهادة بإدراك قوانينه وتسخيرها، ومن ها هنا كان العقل المسلم فاعلا متوهجا تواقا للمغامرة العلمية، والريادة في رصد الأفلاك، وتشريح الأعضاء، ودراسة الظواهر، في العصر الإسلامي الذهبي [2].

ففقه السنن الاجتماعية يقود إلى الإيمان بوجود غاية من وراء خلق هذا الكون وتسخيره للإنسان، فإن وجود قوانين تحكم سير الجماعات البشرية بضبط ودقة وانتظام، دليل على وجود غاية من وراء خلق هذا الكون واستخلاف الإنسان فيه، كما أنه دليل على انتفاء العبثية في الكون والخلق بأكمله.

وإن حركة أية جماعة بشرية في التاريخ ليست اعتباطية، بل هي مسؤولة مسؤولية كاملة عن نتائج حركتها، وتبعات تصرفاتها، وهي مدعوة إلى القيام بعمل مدرك مخطط، يقف به الإنسان أمام الله بمسؤولية اتجاه إعمار الكون ورقيه وتقدمه، سيرا على هدي الله الذي جاء به الأنبياء [3].

” ولولا هذه السنن وذلك الانتظام لكانت الحياة عبثا من العبث وصورا من اللعب والانفلات وانعدام الأهداف ولكانت المصادفة والعشوائية هي التي تسود الحياة ولما كان هناك ميزة ولا معنى لعقل العقلاء ورسالات الأنبياء ونصب الشرائع والقوانين التي تنظم مسالك الناس، ولما كان هناك فرق بين فعل الخير وثمراته، ومسلك الشر وعقابه ولا بين الصراط المستقيم والسبل المتفرقة التي تضل الناس وتصل بهم إلى التيه “[4].

وكذلك فإن وجود هذه السنن دليل على وجود خالق لهذا الكون، فالحياة لا تسير عبثا ولا خبط عشواء، بل لها نظام وقوانين تحكم سيرها وصيرورتها، وضعها خالق حكيم مدبر، فهذه السنن ليست سوى تجل لإرادة واضعها الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فإن إيمان المؤمن يزداد كلما زاد تعمقه في دراسة السنن ومعرفة أبعادها ” لأن ربط السنن بعناية الله سبحانه وتعالى ربطا سببيا يربي العقلية على أن يربط الإنسان في تصرفاته واستفادته من السنن والقوانين التي وضعها الله في الكون “[5].

ثانيا: فهم القرآن: فإن القرآن الكريم قد تضمن إشارات إلى السنن التي أودعها الله في خلقه، وبالتالي فإن معرفة هذه السنن يزيد من فهمنا للقرآن الكريم، لذلك فهناك من جعل تناول القرآن للسنن إعجازا يضاف إلى أنواع الإعجاز الأخرى التي تضمنها هذا الكتاب الكريم، ” ووجه الإعجاز في هذا الجانب أن المفهوم القرآني للسنن الاجتماعية يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم، لأنه أول كتاب عرفه الإنسان أكد على وجود علاقات وروابط بين الأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج، التي تعد في الحقيقة تعبيرا عن حكمة الله تعالى وحسن تقديره وبنائه التكويني للساحة التاريخية والاجتماعية “[6] .

ثالثا: من الثمرات التي نجنيها من التفاعل مع هذا العلم، أننا حين ندرك إدراكا عميقا أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسنن لا تتبدل ولا تتحول، ثم نترجم هذا الإدراك إلى نتاج عملي من خلال تعاملنا الواقعي مع سنن الله في الخلق، فعندئذ نصبح – بعون الله تعالى – قادرين على تسخير الكون من حولنا وفق الطريقة القويمة التي أمرنا الله عز وجل بها. وبها نتمكن أن نخرج من أزمة تخلفنا، وهي نتيجة طبيعية لغفلتنا عن العلاقة بين الجهد البشري وسنن الله في الخلق [7].

رابعا: ثمرة الحرية؛ فبفهم الإنسان لطبيعة بعض السنن استطاع أن ينفذ من الأرض إلى السماء ويكتسب هامشا جديدا من الحرية، إذ تحرر من قيد الجاذبية الأرضية، وتحرر من قيد السرعة التي منحت له فطرة، وهي سرعة مشيه على قدميه، فأصبح قادرا على الحركة بسرعة مذهلة تتجاوز سرعة الصوت [8].

ذلك أن السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم، وتقيد حركته، نلمس ذلك في قوله عز وجل:﴿ يَٰمَعْشَرَ اَ۬لْجِنِّ وَالِانسِ إِنِ اِ۪سْتَطَعْتُمُۥٓ أَن تَنفُذُواْ مِنَ اَقْط۪ارِ اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَالَارْضِ فَانفُذُواْۖ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَٰنٖۖ﴾ [سورة الرحمن: الآية 31].

فالنفاذ لا يكون إلا لوجود مانع أو حاجز، لكن إرادة الله سبحانه شاءت ألا تكون هذه الحواجز مطلقة، بحيث يستطيع الإنسان الفكاك من أسرها، بل جعل الله عز وجل هذه السنن قابلة للتسخير والتوظيف من قبل الإنسان، لكي يتمكن من القيام بأمانة التكليف، لأنه جل ذكره جعل شروطا لابد أن يوفرها البشر حتى يتمكنوا من تسخير سننه تعالى، ومن تلك الشروط معرفة طبيعة السنن التي تحكم الأشياء التي يريد تسخيرها الإنسان، وأن يهيئ الظروف المناسبة لهذا التسخير [9].

خامسا: إدراك حقيقة الاستخلاف: وكذلك من الفوائد التي يجنيها الإنسان بتعامله مع السنن: معرفة السنن والسير على هداها يحقق معنى الاستخلاف في الأرض؛ فالكشف عن السنن الاجتماعية والإحاطة بها ليست سوى خطوة أولية يتم البناء عليها تمهيدا لقيام الإنسان بمهمة الاستخلاف التي أوكلت إليه منذ بدء خلقه، كما قال سبحانه:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّے جَاعِلٞ فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اُ۬لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ  ﴾ [سورة البقرة: الآية 29].

فحين يتمكن الإنسان من الكشف عن السنن التي أودعها الله في خلقه واستخدامها وحسن التعامل معها، فإنه مطالب بتوظيفها من أجل القيام بالمشروع الاستخلافي الذي أناطه الله به، ” ويتجلى الإنجاز الفعلي لمشروع الاستخلاف على المستوى الاجتماعي في صورة حضارة وعمران بشري يكون في مستوى هذا المشروع الذي تحددت معالمه وتأسست مناهجه في ضوء الرؤية القرآنية التوحيدية للحياة والقرآن “[10].

فمعرفة ما حل بالأمم السابقة وأسباب قيام الحضارات وعوامل سقوطها يمكن للأمة المسلمة من بناء حضارة تكون أقدر على الصمود من سابقاتها، لأنها تستفيد من تجاربهم وتتجنب الأخطاء التي وقعوا فيها، ” فيمكن إذن اعتبار السنن أحد المفاهيم المركزية التي أسس عليها القرآن الكريم نظرته للوجود والكون والحياة والإنسان والاستخلاف والرؤية القرآنية عموما والاستخلاف خصوصا نظرة سننية خاضعة لموازين ومقاييس ومعايير إلهية محكمة ومطردة “[11].

ومن حسن الاستخلاف أن يتدبر المسلم القرآن الكريم الذي أرشد إلى هذه السنن ويسير وفق منهجه، فهو دستور الخالق لخلقه، وقانون السماء لهداية أهل الأرض، والمنهج الذي رضيه الخالق لعباده في استخلافهم له، وبالمقابل من سوء الاستخلاف أن يهمل المسلم تدبر القرآن الكريم والسير على منهجه وينصرف إلى المناهج البشرية بحثا عن العزة والكرامة، ولا يمكن له أن يجدها إلا في منهج الله القويم.

سادسا: ومن الفوائد العظيمة أيضا، ” التدبر في سنن الله تعالى، وتجنبنا هذه الدراسة الاعتقاد الخاطئ بأن الكون والحياة تحكمهما المصادفة، وتبين أن ما أودعه الله تعالى في الحياة من سنن، ليس للمعرفة فحسب، بل لبيان أن من يسير وفق سنن الله تعالى، فإنه يلقى في حياته جزاء سيره، هدى في دينه ورخاء في معيشته، أما من خرج عن مقتضى السنن الاجتماعية فإنه يلقى جزاء ذلك ضلالا  في دينه، وضنكا وشقاء في حياته الدنيا، ويترتب عليها أيضا الجزاء في الآخرة “[12]، قال سبحانه: ﴿ قَالَ اَ۪هْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاَۢۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُم مِّنِّے هُديٗ (120) فَمَنِ اِ۪تَّبَعَ هُد۪ايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْق۪يٰۖ (121) وَمَنَ اَعْرَضَ عَن ذِكْرِے فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكاٗ وَنَحْشُرُهُۥ يَوْمَ اَ۬لْقِيَٰمَةِ أَعْم۪يٰۖ﴾ [سورة طه: الآية  120- 122].

” فالسنن هي القناة التي يصل عن طريقها الإنسان إلى تسخير ما في هذا الكون، والإفادة منه، حيث جعلها الله عز وجل نظاما لحياته، وطريقا إلى سعادته أو شقاءه في دنياه وأخراه “[13].

فنخلص إلى حقيقة مفادها أن حال أيّ أمة من الأمم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لا يستقيم، إلا إذا فهمت حقيقة السنن الاجتماعية، وانسجمت حياتها وتكيفت مع هذه القانون الإلهي، وأحسنت التعامل معه، حينئذ يستقيم نظام حياتها، ويتحقق مبدأ سعادة في العاجل والآجل.


[1]  أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في خلقه، أحمد كنعان، كتاب الأمة، عدد 26، الدوحة، قطر: السنة 1411ه-1991م، د: ط، ص: 105.

[2]  الإسلام والوعي الحضاري، أكرم ضياء العمري، جدة: دار المنارة للنشر والتوزيع، السنة: 1407ه – 1994م، د: ط، ص: 107.

[3]  حول إعادة تشكيل العقل المسلم، عماد الدين خليل، سلسلة كتاب الأمة، ( قطر: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ط: 1، السنة: 1402ه، ص: 53.

[4]  حتى يتحقق الشهود الحضاري، عمر عبيد حسنة، المكتب الإسلامي بيروت، ط: 1، السنة: 1412ه – 1991م، ص: 74.

[5]  تأصيل علم السنن الربانية، راشد سعيد شهوان، مجلة القسم العربي، العدد الخامس عشر، 2008م، ص: 39.

[6]  الإعجاز السّنني في القرآن الكريم، محمد أمحزون، منشور كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس المغرب، د.ت، ص: 2

[7]  أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في خلقه، أحمد كنعان، ص: 35.

[8]  المصدر نفسه، ص: 108.

[9]  أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في خلقه، أحمد كنعان، ص: 107-108 – بتصرف -.

[10]  ملاحظات حول دراسة السنن الإلهية في ضوء المقاربة الحضارية، عبد العزيز برغوت، مجلة إسلامية المعرفة، من إصدار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، السنة الثالثة عشرة، العدد 49، سنة: 1428ه – 2007م ، ص: 23.

[11]  ملاحظات حول دراسة السنن الإلهية في ضوء المقاربة الحضارية، عبد العزيز برغوت، ص: 23.

[12]  السنن الإلهية في الحياة الإنسانية وأثر الإيمان بها في العقيدة والسلوك، شريف الشيخ صالح الخطيب، دار الرشد، ط: 1، السنة: 1425ه – 2004م، ( 1/7 ).

[13]  السنن الاجتماعية في القرآن الكريم وعملها في الأمم والدول دراسة تأصيلية تطبيقية على الأمم المسلمة والكافرة، محمد أمحزون، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 1، السنة: 1432ه – 2011م، ( 1/65 ).

اترك تعليق