أ.د.فؤاد البنا
تمر علينا اليوم الذكرى الثامنة والأربعون لانتقال المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي (إلى رحمة الله) (ت\ ٣١أكتوبر ١٩٧٣)، ذلك المهندس الكهربائي الذي أسهم بفاعلية في إعادة الضياء إلى أوصال الفكر الإسلامي الذي أتت عليه عوامل البلى فانطفأ بريقه وخبا وهجه، بعد أن صال التغريبيون والتقليديون وجالوا، جارّين المجتمع الإسلامي نحو منخفضات التقليد الأعمى لتجارب الغرب أو السلف!
خبرته كمهندس:
لقد استفاد مالك بن نبي من خبرته كمهندس كهرباء في توليد كثير من الأفكار المنيرة والتي أوقدت مصباح العقل المسلم الذي ينظر في الأصول ويعالج إشكالات الواقع غير المتناهية في ضوئها، ويضبط متغيرات الحياة بفقه رشيد للثوابت الواردة في الوحي، جامعا بين فقه الواجب وفقه الواقع باقتدار بالغ.
وقد سعى لمعالجة مشاكل الحضارة وإعادة الفعالية للأفكار والأفعال في المجتمع الإسلامي المعاصر، من خلال عدد من المؤلفات ذات الجودة العالية والواردة في هذا المنشور بين قوسين.
لقد كان ابن نبي صاحب عقل وقاد:
نجح في اقتياده إلى (تأملات) ذكية وعميقة في كل شيء. وانطلق في سعيه لاستعادة الضياء الحضاري للمسلمين، من وعي عميق ب(الظاهرة القرآنية) التي صنعت المعجزة الأولى في القرون الذهبية الثلاثة، مؤكدا على ضرورة بل وإمكانية (ميلاد مجتمع) نموذجي من جديد، ولكن بعد أن تعي الكتلة الحرجة (شروط النهضة) الثاوية في سنن الله التي لا تحابي أحدا من الناس، وبعد أن يعالج المفكرون (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) وكذا (مشكلة الثقافة)، مخلصين إياهما من الآفات التي علقت بهما نتيجة قرون من الاغتراب الزمني والجغرافي، ومبتعدين بأنفسهم عن ظاهرة انتقام الأفكار المخذولة لنفسها.
وفي ذات السياق حدد الأفكار والآليات الضرورية (من أجل التغيير)، مركزا على إبراز (دور المسلم ورسالته في القرن العشرين) وقد شدد على ضرورة الحضور الفاعل ل(المسلم في عالم الاقتصاد) بعد أن أصبح الاقتصاد عصب الحياة بصورة غير مسبوقة في تاريخ البشر.
ومع تركز همّ ابن نبي على محاربة القابلية للاستعمار في الأساس، إلا أنه لم يغب أبدا عن ساحة المواجهة في سائر المعتركات التي خاضتها أمته، وكان شعاره دوما (لبيك) بسبب جاهزيته الدائمة، إذ وضع نفسه بوعي (في مهب المعركة)، وقام بتحليل ظاهرة (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) من خلال استقراء واستنتاج ذكيين، وأبرز عن دراية ومعايشة خطورة (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث)، وسكب خبراته في تشريح الظاهرة الاستعمارية بشقيها العنيف والناعم في وثيقته التاريخية العظيمة (يوميات شاهد القرن)!
وسعى بكل جد للخروج بالمسلمين من الانشغال بالتفاهات والسفاسف ومن الاهتمام بالأمور الجزئية التي فرقتهم، إلى الاشتغال ب(القضايا الكبرى) التي يمكنها أن تسهم بقوة في توحيدهم، وسعى لإنقاذهم من خنادق التمزق الداخلي وإبعادهم عن الاستقطاب الخارجي الذي كان أواره مشتعلا بين القطبين الأكبرين الغربي والشرقي، من خلال طرح (الفكرة الإفريقية الآسيوية) للنقاش بين النخب، وتقديم (فكرة كومنولث إسلامي) كقالب واقعي معاصر للتكامل بين البلدان الإسلامية مع الإبقاء على حكوماتها المحلية وخصوصياتها الوطنية، وذلك في سبيل أن يغادر العالم الإسلامي مربع المراوحة (بين الرشاد والتيه) ومن أجل أن تستقيم (وجهة العالم الإسلامي) من جديد، ويعود ليصبح أمة الشهود الحضاري التي كانت خير أمة أخرجت للناس.
ورغم عالمية الهموم التي سكنت ابن نبي، فقد اهتم بالوطن الذي شهد مسقط رأسه وتلقى في أكنافه أبجديات التربية التي وضعت أساسات شخصيته المتميزة، ولا سيما في المحاضن التربوية التي أنشأها الأب الروحي للجزائريين في هذا العصر الشيخ عبدالحميد بن باديس.
وفي هذا الإطار حلق ابن نبي بذكاء في (آفاق جزائرية) عديدة، وبيّن كيف عاش في أكناف هذا الوطن يرافقه قلقه المعرفي، وأوضح وكيف عاش وطنه في قلبه أثناء (مراحل الطفولة ومراتع الدراسة في الجزائر وباريس).