الدكتور/ محمد عوام
كثير من الناس يظن أن حفظ المتون والنصوص وغيرها تغنيه عن الفهم، حتى ظل بعضهم يردد بحفظ المتون تدرك الفنون، وهذه نحسبها غفلة في سلم الأولويات العلمية والتعليمية، إذ التقصير في الفهم لا ينفع معه الحفظ مهما كانت له من منفعة تذكر، ولا ريب أن الدراية أولى من الرواية عند الموازنة، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.” (متفق عليه). والفقه هو الفهم الدقيق العميق.
وقد كان من أساليبه التعليمية صلى الله عليه وسلم أن يعلم الصحابة الكرام ويدربهم على الفهم، وذلك باختبار ذكائهم، واستخراج ما عندهم من الفهوم، من ذلك ما رواه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “بَيْنَا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوس، إذ أُتي بجُمَّار نخلة، فقال وهو يأكله: إن من الشجر شجرة خضراء، لما بركتها كبركة المسلم، لا يسقط ورقها، ولا يتحات، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟
قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي، فقال القوم: هي شجرة كذا، هي شجرة كذا، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها، فإذا أسنان القوم، فأهاب أن أتكلم وأنا غلام شاب، ثم التفت فإذا أنا عاشر عشر أنا أحدثهم أصغر القوم، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فسكتّ.
فلما لم يتكلما، قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. فلما قمنا قلت لعمر أبي: والله يا أبتاه، لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: ما منعك أن تقولها؟ قلت: لم أركم تتكلمون، لم أرك ولا أبا بكر تكلمتما، وأنا غلام شاب، فاستحييت، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا، فسكتّ. قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا.”
ومما يدل على أولوية الفهم على الحفظ، أن ألفينا البخاري يترجم لهذا الحديث في مواطن من صحيحه مما يدل على ذلك، منها: (باب الفهم في العلم) و(باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم)، ومعلوم أن فقه البخاري في تراجمه.
ومما وقع عند ابن حجر من فوائد هذا الحديث “امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه.”(فتح الباري)
وقد اعتبر العلماء الحفظ المجرد من غير إتقان في الفهم والمعرفة، غير مجد، وهي صناعة الرواة، وعن هذا تحدث الأصولي الحنفي النظار شمس الدين السرخسي حيث قال: ” ومن كان حافِظا للمشروعات من غير إتقان في المعرفة فهو من جملة الرواة.” (أصول السرخسي). وهي عند التحقيق منقصة لمن تلبس بها، وكان شغله الشاغل أن يحفل بالحفظ من غير فهم.
وقد سمعت أستاذنا الدكتور أحمد أبا زيد وهو يحدثني عن الطريقة التقليدية التي درس بها، في البادية، فمما قال: “تجد أحدهم يحفظ المتون، منها ألفية ابن مالك، ولكن لا يحسن فهمها ولا تطبيقها.”
لأن أمثال هؤلاء لم يرتاضوا إعمال فكرهم، وتقليب نظرهم فيما حفظوا، فتجد أذهان بعضهم محشوة بالمتون مع قلة الفهوم، فيفضي بهم ذلك إلى تحريف الكلم عن مواضعه، فيطوحون بأنفسهم في خضخاض الجهل، مما يتمحض عنه سوء فهم كلام الشارع، وكلام العلماء.
وقد ورثت مسألة حفظ المتون دون الفهم، ومراعاة الأولوية في التعليم، اختلالا لدى بعض الشيوخ والمدرسين، إذ كانوا يستحضرون ما عندهم مما حفظوا متنه، فيفرعون في درسهم بذكر سائر المسائل، من أصولية وفقهية ونحوية ومنطقية وعقدية وهلم جرا، وهذه الطريقة عقيمة النفع، وعديمة الجدوى في فن التدريس، وهذا ما نبه إليه العلامة محمد الطاهر بن عاشور بعد ما ندم على ذلك بقوله: “فقد تفضي الغفلة إلى الارتماء في مسالك قليلة الجدوى توقع تلامذته في خطل أو فشل.
وهذا يعرض كثيرا لمن اتسعت معلوماتهم من المتصدرين للتدريس في مبدأ تصدرهم، فيدفعهم حب إظهار ما لهم من المزية، ثم لا يلبث أن يستيقظ من بهجته تلك ويصير إلى وضع المقادير في نصابها.
وقد نبه على هذا صديقنا الشيخ محمد الخضر بن الحسين فقال في مقالات رحلته الجزايرية: “وقد كنت -عافاكم الله- ممن ابتلي في درسه باستجلاب المسائل المختلفة الفنون، وأتوكأ على أدنى مناسبة حتى أفضى الأمر إلى أن لا أتجاوز في الدرس شطر بيت من ألفية ابن مالك مثلا، ثم أدركت أنها طريقة منحرفة المزاج عن الإنتاج.” (أليس الصبح بقريب11، وذكر ابن عاشور أنه عرض له مثل ذلك، لكنه ما لبث أن أقلع عنه).
ولهذا جعل العلماء من آداب العالم في درسه أن يراعي فهم طلبته، ويحسن في إفهامهم وتقريب المسائل إليهم، قال ابن جماعة في (تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم): “أن يحرص (العالم) على تعليمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه، أو بسط لا يضبطه حفظه، ويوضح لمتوقف الذهن العبارة، ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره…إذا فرغ الشيخ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم.” (ص52، و53).
وصفوة القول في ميزان الأولويات ينبغي على أهل العلم وطلبته أن يتقصدوا الفهم أولا ثم الحفظ ثانيا، والسعيد من جمع بينهما، والمفلس من ضيعهما، والخاسر من حشا ذاكرته وعطل عقله، وهذه أسوأ الدرجات، والعاقل لا يرتضي لنفسه أن يكون نسخة من كتاب أو متن متحركة زيدت في البلد.
إذا لم تكن حافظا واعيا…..فجمعك للكتب لا ينفع
والحمد لله رب العالمين