مفتي عام ليبيا يكتب: الشيخ يوسف القرضاوي فقيد الأمة

بقلم العلامة الصادق بن عبد الرحمن الغرياني (*)

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرّحيمِ

فقدتِ الأمةُ الإسلاميةُ والعالمُ الإسلاميُّ أمسِ الأوَّل، رمزًا مِن رموزِها، وعَلَمًا مِن أعْلامِها، الإمامَ المجتهدَ القدوةَ الموسوعيَّ، العلامةَ الشيخ يوسفَ القرضاوِيّ، عن عمرٍ ناهزَ القرنَ مِن الزمنِ، كانَ عمرهُ المديدُ حافلًا بالتأليفِ، والدعوةِ، والجهادِ، والعلمِ النافعِ، والعطاءِ الغزيرِ، بحرا لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ.

إذا كتبَ لِعامّةِ القُرَّاءِ كانَ قلمُهُ سَيَّالًا ورَقْراقًا، سهلًا يتسَلَّلُ إلى العقولِ دونَ كلْفَةٍ ولا عَناءٍ، وإذا كتبَ البحوثَ والمقالاتِ للمجالسِ العلميةِ وطلَّابِ العلمِ، وجدتَ التدقيقَ والتحقيقَ والتوفيقَ، في كلِّ بابٍ مِن أبوابِ العلمِ، في العقيدة وأصول الدين، في القرآنِ وعلومِهِ، في الحديثِ وأنواعهِ؛ روايَةٍ ودرايةٍ، في أصول الفقهِ، ومسالك الاجتهاد، في الفقه المقارَن، واختلافِ العلماءِ، في السياسة والحكم ، في الاقتصادِ الإسلاميِّ والصِّرافَة، في فقهِ النوازلِ ومستجدَّاتِ الحياةِ، في اللغة والأدبِ والشعرِ، _وجدتَهُ في ذلك كله ابن بجدتها ، وكأنَّهُ المتخصِّصُ في كلِّ بابٍ مِن هذهِ الأبواب، لا المتطفِّلُ عليْه.

وفي المجامعِ الفقهيةِ والندواتِ العلميةِ، التي كانَ يشارِكُ فيها، كانَ يأتِي بما لمْ تأتِ بهِ الأوائلُ، فهو في ذلكَ كمَا كانَ يصفُ لنا شيخُنا الشيخُ الطَّاهرُ الزَّاويّ رحمه الله، البحث الذي قدّمه الشيخُ محمد أبو زهرة لمؤتمر حضره معه، وصفه لنا بقوله: كلُّ الصَّيدِ في جوفِ الفِرَا، أي: بحثُهُ في المؤتمر يُغنِي عمَّا قبلَه، وعن الذي يأتِي بعدَه، وكذلك كانَ الشيخُ يوسف رحمه الله، الذي كانَ يزيدُ على ذلك أنهُ يرتجلُ مشاركاتِهِ ارتجالًا.

كان الشيخُ يوسف يعيشُ قضيةَ أمتهِ؛ حاضرَها ومستقبلَها، يحملُ همومَهَا مِن أقصاها إلى أقصاها، كان عابرًا للقاراتِ، كلُّ بلادِ الإسلامِ بلادُهُ، وتحمَّلَ في سبيلِ ذلكَ الأذَى الشّديدَ، والسّجنَ والتهجيرَ، فسُجِنَ وهوَ طَالبٌ، في أواخِرِ الأربعينياتِ مِن القرنِ الماضي، وسُجنَ طويلًا في أيامِ جمال عبد الناصر، ولكنّهُ كانَ في صلابتِهِ في الحقِّ وثباتِهِ عليهِ، جبَلًا أَشَمَّ، لا تُرهِبُهُ صَولةُ الحكامِ، ولَا سفاهةُ الأقزامِ، يتمثَّلُ في ذلكَ قولَ اللهِ تعالَى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، كانَ يقولُ الحقَّ ويتحمَّلُ تبعاتِهِ، ولَا يخشَى فيهِ لومَةَ لَائمٍ، ولذلكَ لمِ يُهادِنِ الحكامَ المستبدِّينَ، الذينَ قامَتْ عليهمُ الثّوراتُ، في تونسَ وليبيا ومصرَ وسوريا واليمنِ، عام 2011م، وكانتْ فتاواهُ الموجهةُ لهذهِ الشعوبِ المنتفضةِ، في قتالِ الطغاةِ والإطاحةِ بهمْ واضحَةً مدوِّيةً، وكانَ يردُّ على المخذِّلينَ وعلماءِ السلاطينِ، الذين يحرِّمونَ الخروجَ في المظاهراتِ المنتفضة على الطُّغاة، وكان له خروجٌ شبه يوميٍّ على قناةِ الجزيرةِ في ذلكَ الوقتِ؛ لرفعِ معنوياتِ المتظاهرينَ المُسقِطينَ للظَّلَمَة ونُظُم الاستِبْداد، وقدْ حَظِيتِ الثورةُ الليبيةُ بعنايتِهِ وتوجيهَاتِهِ، كمَا حَظِيتْ غيرُها مِنَ الثوراتِ العربيّةِ، وكانَ لصِدقِهِ عندَما يتكلمُ على كلِّ ثورةٍ مِن هذهِ الثوراتِ، يشعرُ أهلُهَا كأنّه ينتمِي إليهِم، ووَاحدٌ منهمْ، فيحبُّونَه، ويترُك إحساسا لأهل كل بلد أنّه مع الليبيِّينَ ليبيّ، ومعَ السوريِّينَ سُورِيّ، ومع اليمنيِّينَ يَمنيّ، وهكذَا.

وعندما كانَ القذّافي في أوْجِ شراسَتِهِ وطغيانِهِ، ويخاطبُ الثوّارَ بالجُرذانِ، وأنهُ سيلاحِقُهم دارًا دارًا، وزنقةً زنقةً، والخطْبُ جَلَلٌ على الثوارِ والمجاهدينَ، لقلَّةِ عددِهم وعدَّتهم، في تلكَ الأيامِ العصيبةِ والحناجرُ قد بلغت القلوب ، كانَ الشيخُ يوسفُ رحمهُ اللهُ يخرجُ كلّ ليلةٍ على قناةِ الجزيرةِ، يخاطبُ الليبيّينَ خطابا آخر غير الواجف والمتردّد، يُقسِمُ فيه أنّ الليبيين منتصرونَ، وليسَ له مصدرٌ في ذلكَ القَسَمِ سِوَى ثقتِهِ باللهِ، ووعدِهِ بنصْرِ المظلومِينَ، وكانَ يقولُ لهم رافعًا لمعنوياتِهم، التي قدْ تنالُ منها تهديداتُ القذافي الشرسةُ: (القذافِي انتَهَى، انتَهَى القَذّافي، اقتلُوه)، فكانتْ هذه الكلماتُ التي يسمعونَها مِن الشيخِ يوسف القرضاويّ، بلسَمًا ترفعُ المعنويات وتعمل ما لا تعمله الطائرات والدبابات ، فتمحُو أثرَ تهديداتِ القذافِي في الصباحِ، ومعاركهِ الضَّارِيَة معهم، فكانتْ كلماتُهُ ينتظرونَها كلَّ ليلةٍ، وكأنَّها تمدُّهُم بالجيوشِ الجَرَّارةِ، والعدَّةِ والعَتَادِ، وحقًّا كمَا يُقالُ: رجُلٌ كَأَلْفٍ، وَأَلْفٌ كَأُفّ، فكانَ الشيخ يوسفُ لهم رجلًا كألفٍ.

أمّا عن قضيةِ فلسطين، فكانَت منه في القلبِ، وعلى رأسِ أولويّاتِهِ، كانَ ينادِي بأعلَى صوتِهِ على منبرِه، وفي برامِجِهِ ولقاءاتِهِ، يخاطبُ المقاومةَ، وكلَّ مَن يعنيهِ الأمرُ: (اقتُلُوا اليهودَ، اقتلُوا اليهودَ)، وما كانَ أحدٌ غيرُهُ يجرَأُ أنْ يقولَ ذلكَ في الإعلامِ، ولذلكَ تسلَّطَ عليه الصهاينةُ وذيولُهُم مِن بعض حكامِ العربِ، فوضعُوهُ على قائِمَةِ الإرهابِ، ومنعُوهُ على الأقلِّ في الخمْس عشرةَ سنةً الأخيرةِ، مِن دُخولِ أمرِيكَا والدولِ الأوربيةِ، ولم يعبَأْ بهم، وما زادَهُ ذلكَ إلَّا إصْرَارًا وتصميمًا، على المُضِيِّ في الجهاد وعلى مواقِفِهِ الشجاعةِ الثابتةِ.

بارَكَ اللهُ في دولةِ قطرَ الشقيقةِ، التي استضافَتْهُ وعاش فيها أكثَرَ سِنِيِّ عُمرِه مُعَزّزا مكرّما، فوجد فيها المَلَاذَ والأمنَ، والمنبَرَ الحرَّ، الذي نشرَ مِن خلالِهِ دعوتَهُ في العالمينَ.

 

رحمَ اللهُ الشيخَ يوسفَ، وأسكنَهُ الفردوسَ الأعلَى، مع النبيينَ والصدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ، وعوَّضَنَا اللهُ وعوضَ أهلَهُ وتلاميذَهُ وأحبتَهُ والمسلمينَ فيهِ خيرًا، وَإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ.


(*) مفتي عام ليبيا.

اترك تعليق