بقلم: د. محمد أكرم الندوي – أوكسفورد(*)
اضطجعت على فراشي، تناوشني الهموم، وتراشقني الأحزان، ويغالبني هلع وارتياع، لهول ما أشاهد من إزهاق للنفوس، وإزهاق للأرواح، وإهراق للدماء، وإمطار للنيران على الأبرياء، فإذا بي أراني راكبا جناحي طائر سماوي من أجمل الطيور منظرا، وأعظمها جسدا، يطير طيرانا كأنه برق خاطف، ولم تمر لحظات حتى نزل بي على مشارف غزة العزة، فدخلت مدينة، تكتسح بالدبابات، وتقذف عليها القنابل، وتدمر البيوت والمساكن، وتخرب المستوصفات والمستشفيات، وتتبعثر فيها الأشلاء، وتتفجر الأحشاء، فملئت رعبا، وكدت يغمى علي خوفا وذعرا، أهي بلدة يسكنها البشر، أم هي برية تتراوح فيها الأشباح، وتتخللها الأرواح؟
بينما أنا واقف واجما أمام المشاهد الفظيعة البشعة، فوجئت بشاب مضرج بالكلوم والجراح فهرعت إليه مستكشفا، وراعني منه ما قرأته مكتوبا بين عينيه: “من لم يُرْدَ قتيلاً فليس من رهطنا”، فاستعظَمتُه، وتنحيت عنه، ومر بي فتيان أولو همم وعزائم مكتوب على جباههم: “من لم يبادر المنايا بما ملكت يداه فليس منا”، ووقع بصري على امرأة فأقبلت عليها، وإذا هي مسطور على جبينها المشرق بأنوار من القداسة والطهارة: “إن امرأة لم تَدفن وليدها الشهيد بيدها فهي ليست من أرضنا”، فغضضت بصري عنها إجلالا لها، وإذا أنا بشيخ تسيل الدماء على وجهه وثيابه وهو يهتف بلسان قد ذاق طعم الإيمان واليقين: “ليس من بلدنا من لم يُدَمَّر بيتُه على أهله أجمعين”.
يا لها من مدينة حبيبة وموحشة معا، وبينما أنا أتيه في أفكاري إذ وقع بصري على طفل صغير، فقلت: هذا حديث عهد بربه، عسى أن يختلف عن هؤلاء جميعا، فلما دنوت منه رأيت مكتوبا بين عينيه: “لا يقربني من لم يشهد أبويه يقتلان وتقطَّع أجسامهما إربا إربا”.
إني على هيامي بأهل غزة وجدت نفسي تصاغرت أمام بسالتهم وشهامتهم، دنوت منهم لمَّا دنوت حبا لهم وتقديرا، وشحطت عنهم لمَّا شحطت تثبطا وبكاء.
يا أهل غزة! خُلقتم أشد قلوبا من الحديد، وقد بلِي الحديد وما بلِيتم، صمدتم في وجه العدوان الصارخ صمودا يفوق الوهم والخيال، واحتملتم ما لا يحتمل من مشاهد الموت والدمار والفتك والبطش ومفطرات القلوب ومخبلات العقول، لا تقرون بالذل، ولا تتجرعون كأس الضيم.
يا أصحاب العزة! قتل أطفالكم، واغتيلت نساؤكم، ونسفت دياركم، ومنع منكم الطعام والشراب والدواء، وحرمتم الأمن والسلام، وحوصرتم محاصرة، وتكالبت عليكم الأمم، وتواقعتْ عليكم الشعوبُ، يا لكم من أيام غر طوال عصيتم فيها الظالمين الغاشمين أن تدينوا لهم أو تركعوا لهم أذلة خاضعين، ويا لكم من ليال كأمواج البحار أرخت عليكم سدولها بأنواع من البلايا والمحن، وتلتها أصباحٌ مماثلة لها في الهموم، فما كانت منها أمثل ولا أوضأ.
يا ذوي الإباء! لو أن بعض هذا حدث لأمة غير أمتكم لملأت الأكوان صراخا وعويلا، ولكنكم صبرتم وصمدتم، فدهش الكفار والمشركون من صبركم وصمودم، وبحثوا عن سر ذلك في كتابكم الكريم، فأسلم منهم من أسلم، فما أسمى صبركم إذ به يهتدي الضالون، ويستنير المستنيرون.
يا أيها المؤمنون! إن الله هو الفعال لما يريد، والناصر عباده بقدر صبرهم وتوكلهم عليهم، وكلما دافعتم عن أنفسكم بما تيسر لكم من الأسباب مستغنين عن الخلق ومتبتلين إلى ربكم استوجبتم نصره، وإن صبركم وصمودكم من تأييده، وإن قذف الرعب في قلوب الظالمين من النصر الذي وعد به عباده المؤمنين.
واعلموا أن الذين تعشَّشت الوحشة في ديارهم ستؤنسهم الرحمة في ألحادهم، نصركم الله نصرا مؤزرا، وبيَّض وجوهكم، وكلَّل مساعيكم بالفوز والنجاح.
(*) من علماء الهند، وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
ما شاء الله
After all, what a great site and informative posts, I will upload inbound link – bookmark this web site? Regards, Reader.