مناهج التغيير والبناء الحضاري من خلال السيرة النبوية (3)

✍️ بقلم أ.د. أحمد محمد زايد (*)

ثالثا: المنهج المنشود في دراسة السيرة النبوية


بعد التعرض لبعض المناهج في تناول السيرة النبوية، يتأكد لدينا أن دراسة السيرة والتعامل معها كمصدر علمي تاريخي شرعي للفكر والمعرفة الإسلامية، لا تزال في حاجة إلى نهوض في عملية “المنهج”، ولكي نستخرج منهجا واضحا وفعالا من خلال السيرة النبوية في عملية التغيير والبناء الحضاري للأمة في واقعنا المعاصر لابد أولا من توافر جملة من القواعد والضوابط والأصول المنهجية بعضها في الباحث، وبعضها الآخر في منهجية البحث نجملها فيما يلي:

أولا: فهم طبيعة الإسلام الشامل الذي مثلته السيرة النبوية تطبيقا:
➖إن عدد آيات القرآن الكريم (6236) آية، وعدد أحاديث النبي ﷺ عشرات الآلاف من الأحاديث، ومعها من المواقف العملية في حياته ﷺ ما لا يحصى عددا، هذا الكم الهائل من النصوص والمواقف لا يمكن أبدا أن يكون منصبا حول بعض الممارسات الشعائرية التعبدية، وإنما هو منهاج حياة للفرد والأسرة والجماعة والأمة بل للبشرية جمعاء، ولذلك قال الشيخ حسن البنا معبرا عن هذا الشمول: “الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء”.
➖إن إدراك هذا المعنى الكبير العميق الذي يؤخذ من طول النصوص الشرعية وعرضها يفسر لنا طبيعة حركة النبي ﷺ وأصحابه من أول لحظة في الرسالة إلى آخر لحظة في حياته، فهو يتحرك لإقامة الحياة الإسلامية “بدءا بالفرد ومرورا بالدولة وانتهاء بالحضارة” كما يقول عماد الدين خليل، فهناك التربية الإيمانية التي هي أساس الحياة الإسلامية، وهناك العمل الاقتصادي من شراء أسواق في المدينة وحث على العمل وتحديد لمنهج الكسب والاستثمار والإنفاق، وهناك العمل العسكري الرادع للعدو المدافع عن منجزات الدعوة والدولة، وهناك العمل السياسي من المراسلات والتفاوض والأحلاف واستقبال الوفود، وهناك الجانب العلمي من الفتوى والتعليم والتوجيه الذي وصل إلى التخصص كما تخصص أُبي وابن مسعود في القرآن والقراءات، وكما تخصص زيد في الفرائض واللغات السيرانية والعبرانية، وكما تخصص معاذ في الحلال والحرام وهكذا، وكان العمل الإعلامي من شعر حسان وخطب النبي ﷺ، وهناك العمل الاستخباراتي المعلوماتي حيث يلفت نظر الباحث في السيرة كلمة مكرورة بين سطور حوادثها وهي قولهم “بلغه ﷺ كذا” “وبلغ رسول الله ﷺك ذا وكذا”، كانت هناك عناية خاصة بالشباب والمرأة، ورعاية للأطفال وغير ذلك.
➖إن إدراك الباحث هذه النظرة الشمولية يشرح له معنى الاقتداء المأمور به في قوله تعالى:”لقد كان لكم في سول الله أسوة حسنة”، فليس الاقتداء مقصورا على تعبدات فردية أو تصرفات أخلاقية جزئية وإنما الاقتداء بأعماله ﷺ الشاملة الذي ربت الأفراد، وبنت الأسر، وأقامت الدولة وأسست الحضارة، ومن نظر إلى السيرة من هذا الفهم الشامل سيدرك خطة إقامة الحياة الإسلامية.

ثانيا: صحة المنطلق والمنظور:
فقد يقرأ السيرة يهودي أو نصراني فيتعامل معها بخلفيات دينية خاصة، فيبتعد في فهم السيرة عن مقاصدها، ولا يدرك أهداف التصرفات النبوية الإسلامية، وقد يقرأ السيرة علماني فيفسرها كذلك تفسيرا علمانيا يقضي على روحها ويطمس حقائقها، ولو قرأها صوفي منحرف أو شيعي ضال لحمل التصرفات النبوية وفسرها وفق رؤيته ومعتقده، فهؤلاء جميعا كالذي يشرب الماء الزلال وهو مريض وكالذي ينظر إلى نور الشمس وهو أرمد.
إن صحة المنطلق العقدي والفكري شرط في صحة فهم المنهجية النبوية في الحركة والبناء، والدعوة والتغيير، وقد ذكرت من قبل كيف كانت تصرفات المستشرقين وأذنابهم تجاه السيرة النبوية.

ثالثا: الاستعانة بالقرآن في فهم السيرة:
معلوم أن القرآن الكريم مصدر أساس في معرفة السيرة النبوية وتلقيها، فهو يورد أبرز وأهم حوادثها ومواقفها ويعلق عليها ويوجه إلى دروسها ومنهجيتها، كما رأينا في حديث القرآن عن الغزوات مثل بدر وأحد والأحزاب وحنين وغيرها، وكما رأيناه كذلك في حديثه عن الهجرة، عن مواقف المنافقين ومنهجية التعامل معهم، والحديث عن اليهود وما وقع منهم تجاه رسول الله ﷺ كل ذلك درس استراتيجي لكل مهموم بالنهوض بالأمة في كل عصر، فنحن إذا نتذوق القرآن باطلاعنا على السيرة ونفهم السيرة بدوام اطلاعنا على القرآن.

رابعا: تعظيم النبي ﷺ وتفخيم شأنه وصحة الاعتقاد فيه:
➖إن صحة العقيدة في شأن النبوة الشريفة يمكّن الباحث في السيرة من فهم وقائعها وتفسير حوادثها على الوجه الصحيح، فيرى الكمال البشري في النبي ﷺ يصاحبه العون الإلهي والتسديد الرباني، ويقدر قيمة الوحي في المواقف المختلفة كالأمر بالهجرة، والحماية في الغار، ونزول الملائكة في الغزوات، وأسرار انتصار الفئة المؤمن القليلة، ونزول الوحي بمسائل صلح الحديبية، والإخبار بأشياء لا يعرفها إلا نبي، كل ذلك لا يضعه المرء موضعه في الفهم والتفسير ما لم يكن صاحب اعتقاد جازم بصحة النبوة الشريفة، ولذلك رأينا تخبط المستشرقين الذين لا يصدقون أصلا بعقيدة النبوة في محمد ﷺ، وفي مقابل ذلك رأينا المبالغين في شخصية النبي ﷺ كيف فسروا حوادث وأضافوا أبعادا غير موجودة وغير مقصودة في تصرفاته ﷺ.
➖إن الخلل في فهم النبوة، والضعف في تعظيم شأنه وحبه ﷺ يفسد على المرء نظرته واستفادته من سيرته وهدية في بناء الأمة وتأسيس الحضارة، فصحة العقيدة وتوفر المحبة والتعظيم للنبي ﷺ مفتاح هداية في إدراك المنهجية الراشدة في إقامة الدين ونشر الحق.

خامسا: تفعيل التخصصات المختلفة في فهم السيرة وتحليلها:
➖يقول الدكتور عماد الدين خليل: “ولا بد من أجل التحقق برؤية كهذه، من استدعاء المؤرخ والمفسر والمحدث والفقيه والجغرافي وفيلسوف التاريخ والأديب لتوسيع نطاق الفضاء المعرفي عن العصر.. هاهنا حيث يصير النص القرآني والحديث النبوي الصحيح والممارسة التاريخية لعصر الرسالة التي يقدمها المؤرخ والفقيه، والملامح البيئية التي يقدمها الجغرافي، والخبرة الذاتية والموضوعية التي يقدمها الشاعر أو الأديب، فضلا عن الدلالات المحددة للكلمات والتعابير التي يحددها اللغوي.. هاهنا المصادر الأساسية التي يكمل بعضها الآخر من أجل تحديد ملامح المشروع الحضاري الذي وعدت به ومهدت له، ووضعت شروطه التأسيسية، ونفذت بعض حلقاته، «سیرة» رسول الله ﷺ”.
➖وهذا منطق سديد وقاعدة هامة في التعامل مع السيرة لتشكيل رؤية كلية شاملة بعيدة عن التموضع والتجزيء المخل، فالسيرة حياة والحياة متعددة الأبعاد والزوايا والتخصصات وبالتالي لا يمكن فهمها من زاوية واحدة أو بتخصص واحد.
ومن هنا فالاقتصاديون يستخرجون نظريات ومنهج اقتصاد راشد من السيرة، ويستخرج العسكريون خطط وفنون العسكرية، وكذلك السياسيون والمربون وهكذا حتى تنضاف خبرات راشدة وكاملة في الرؤية الإسلامية المعاصرة ونحن في طريق نهضتنا الإسلامية.

سادسا: التركيز على جانب الدراية والفهم والتحليل واستخلاص العبر:
➖سبق القول أن منهج الإخباريين اعتمد على نقل النصوص سواء دخلت في دائرة القبول أو لم تدخل، ونحن نؤكد على أهمية الرواية (أي الجمع) لأنها حفظت لنا الوقائع من الضياع والنسيان، لكن لا بد من تفعيل قوانين الرواية في الإسلام من حيث (القبول أو الرد) لنخرج بنصوص صحيحة أو مقبولة، وبخاصة إن كانت في محال اعتقادي أو فقهي، ثم تأتي المسالة الأهم المكملة لعملية النقل والتمحيص وهي مسألة التحليل والعناية “الدراية”، بحيث تستخرج من السيرة العبرة والعظة والقوانين والنواميس والمنهجية الصحيحة لحركة الحياة لنبني عليها ونهتدي بها باعتبار ذلك هو المقصود الأعلى من دراستها.

➖وفي مسألة التحليل واستكشاف المنهج نبه الباحثون إلى أمرين أحدهما: “الاهتمام بتحرير مصطلح المنهج النبوي” حيث يشير بعضهم قائلا:” إن استخلاص المنهج مطلب ضروري، بيد أنه ليس بالأمر اليسير، خلافاً لما قد يتوهمه بعضهم حين ظنوا أن (المنهج النبوي) على طرف الثمام، وأن نظرة عجلى على السيرة العطرة، أو جزء من السنة المطهرة، أو انتقاء مقاطع من هنا أو هناك كافية للإحاطة بهذا المنهج الفذ، وبناء حتميات تاريخية على تلك الأفهام العجلة، وتصور البعض أن بالإمكان إعادة إنتاج العهدين المكي والمدني، أو تمثيلهما في أي واقع يعد مجازفة كبيرة.
➖إن المنهج حين يطلق في إطار معرفي إنما يراد به قانون ناظم ضابط يقنن الفكر ويضبط المعرفة التي إن لم يضبطها المنهج فقد تتحول إلى مجرد خطرات انتقائية مهما كانت أهميتها لا يمكن تحويلها إلى ضوابط فكرية وقوانين معرفية تنتج الأفكار وتولد المعارف وتضبط حركاتها وتميز بينها؛ فبالمنهج يمكن أن تحدد طبيعة المعرفة وقيمتها وحقل عملها واتجاهها وكيفية البناء عليها والتوليد منها.
إن أي فكر تتضارب مقولاته وتتناقض لا يعتبر فكراً منهجياً حتى لو تمكن أصحابه من تقديم مختلف التأويلات التوفيقية: كالتأويل، والمقاربة، والتلفيق، وغيرها. ولذلك فإن إطلاق مصطلح: (منهج النبي ﷺ) و (المنهج الإسلامي) على ما يصل الباحثون إليه باجتهاد شخصي أو فردي لا بد أن يحتاط فيه، كأن يقال: على ما نراه، أو على ما توصلنا إليه… الخ”.
مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى قراءة السيرة ودراستها دراسة استراتيجية في مختلف الحالات الاجتماعية والتربوية والعلمية والإدارية والسياسية والاقتصادية والحركية والأمنية والثقافية. ففي السيرة بيان لجميع الحالات أو أصولها؛ خلافاً لصنيع بعض كتاب السيرة حين يصورون حياة النبي ﷺ على أنها صراع وحروب وغزوات وسرايا، ويغفلون عن الجوانب الأخرى” وهذه لفتة جديرة بالرعاية والتحقق.
➖وثانيهما: العناية بمواطن الاقتداء وإبرازها والتفريق بينها وبين غيرها، وذلك للتفريق بين أحواله ﷺ ودلالة هذه الأحوال على التشريع أو غيره من الصفات على النحو الذي ذكره القرافي وفصله ابن عاشور في كتاب المقاصد، حيث نبه العلماء إلى ضرورة تمييز مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عنه ﷺ والتفرقة بين أنواع تصرفاته، ومعلوم أن تصرفات النبي ﷺ أنواع متعددة فبعضها تشريع دائم للأمة، وبعضها كان منه كتصرف جبلي لا على سبيل التشريع، وبعضها خرج على وقائع أعيان، وهكذا، فلا ينبغي تعميم حكم التصرفات النبوية وإنما المطلوب إبراز مواطن الاتباع والاقتداء.

سابعا: التركيز على البعد الحضاري الشامل والبعد عن التجزيء:
➖وهذا هو جانب العطاء السخي الذي ظل حلقة مفقودة في النظر والاستقصاء والتحليل كما يذكر د/عماد الدين خليل إذ يقول في ذلك: “ولكن رغم هذا العطاء السخي، ظلت هنالك حلقة لم تنل حظها من البحث والدرس والاستقصاء والتحليل، بالمقارنة مع الحلقات الأخرى؛ تلك هي الحلقة الحضارية، أو بعبارة أكثر دقة، محاولة متابعة البعد الحضاري للسيرة، وتقديم تصور متكامل عن معطياته الأساسية.
ورغم أن العقدين الأخيرين شهدا عددا من المحاولات في هذا الاتجاه لا تتجاوز -ربما- أصابع اليد الواحدة، فإن الحاجة لا تزال تتطلب المزيد من المحاولات، من أجل إعطاء هذا الجانب من السيرة حقه، والإلمام بجوانبه كافة.
➖لقد بشر عصر الرسالة بمشروع حضاري، وتمكن من تنفيذ العديد من حلقاته، ووضع شبكة من الشروط التأسيسية التي مكنت الأمة الناشئة من بناء حضارتها المتميزة بعد عقود معدودة من الزمن.
ولعل المدونات الأولى لأخباريي ومؤرخي السيرة كمغازي الواقدي، وسيرة ابن إسحاق، وطبقات ابن سعد، وأنساب البلاذري، وتاريخ الطبري … الخ، بإعطائها مساحة واسعة للمغازي -وأحيانا للرجال أو الشمائل- ضيقت الخناق على البعد العمراني أو الحضاري لعصر الرسالة الذي تمكن بعد كفاح مرير من إقامة دولة الإسلام، ووضع التأسيسات الأول لحضارته المتميزة.
عشرات السنين ومئاتها، ونحن نتحدث عن هذا العصر من الداخل، وبرؤية تجزيئية تتمركز عند الغزوات، والشمائل، والمفردات الفقهية. ولقد آن الأوان لاعتماد «رؤية الطائر» إذا صح التعبير، لاستشراف الملامح الأساسية للعصر، والإنجازات الكبرى لرسول الله ﷺ وصحابته الكرام رضي الله عنهم”.


(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.

اترك تعليق