مناهج التغيير والبناء الحضاري من خلال السيرة النبوية (4)

✍️ أ.د. أحمد محمد زايد (*)

 معالم المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري

جاء محمد ﷺ والبشرية عامة، والعرب بخاصة غاية في الضلال العقدي والتخلف الحضاري والعمراني، عاشت البشرية حالة فوضى سلخت من أعمارها عقودا بل قرونا متطاولة في العبث والضلالة، حتى في تلك الممالك التي برز فيها بعض العمران والتمدن رأينا كيف ساد فيها مع ذلك الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي والفساد الأخلاقي والجور الاقتصادي ، فلما بعث هذا النبي العظيم لم تكن بعثته لمجرد تصحيح تصورات وأفكار عقدية حول الإله أو الدعوة إلى جملة من المسائل الأخلاقية أو الشعائرية، أو تعديل بعض الأوضاع الاقتصادية إنما كان الهدف الوصول إلى الحالة الحضارية الشاملة مؤسسة على العقيدة السليمة والإنسان الصحيح وفق قوانين إلهية صارمة، هذا هو الإنجاز الحقيقي للرسالة والذي كشفت عن خطواته ومراحله وحركته السيرة النبوية، يؤكد ذلك د/ عماد الدين خليل قائلا:” لقد بشر عصر الرسالة بمشروع حضاري، وتمكّن تنفيذ العديد من حلقاته، ووضع شبكة من الشروط التأسيسية التي مكنت الأمة الناشئة من بناء حضارتها المتميزة بعد عقود معدودة من الزمن.”

السبرة النبوية إنجاز حضاري:

فمن الظلم للحقيقة أن تفهم السيرة على أنها جملة من المعارك والصراعات الحربية، أو مجموعة من التوجيهات الأخلاقية أو تشريعات فقهية فحسب إنما سيرته ﷺ، كانت إنجازا حضاريا غير مسبوق أو تأسيسيا لمشروع حضاري كبير استكملت مراحله بعد وفاة النبي ﷺ يقول عماد الدين خليل: “وعندما جاءت السنة التاسعة للهجرة، ونزلت آيات (أو إعلان) براءة في صدر سورة التوبة، لتصفية الوجود الوثني في جزيرة العرب، كان رسول الله ﷺ قد حقق، وصحابته الكرام رضي الله عنهم على مستوى الفعل التاريخي، المنجزات التالية التي ينطوي كل منها على بعد حضاري مؤكد:

أولا: التوحيد في مواجهة الشرك والتعدد.
ثانيا: الوحدة في مواجهة التجزؤ.
ثالثا: الدولة في مواجهة القبيلة.
رابعا: التشريع في مواجهة العرف.
خامسا: المؤسسة في مواجهة التقاليد.
سادسا: الأمة في مواجهة العشيرة.
سابعا: الإصلاح والإعمار في مواجهة التخريب والإفساد.
ثامنا: المنهج في مواجهة الفوضى والخرافة والظن والهوى.
تاسعا: المعرفة في مواجهة الجهل والأمية.
عاشرا: الإنسان المسلم الجديد الملتزم بمنظومة القيم الخلقية والسلوكية المتجذرة في العقيدة، في مواجهة الجاهلي المتمرس على الفوضى والتسيب وتجاور الضوابط وكراهية النظام.

جملة من القيم المنهجية وآليات العمل:

وكانت آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله ﷺ وتعاليمه قد أرست جملة من القيم المنهجية وآليات العمل التي مهدت للمتغيرات العشرة الآنفة الذكر، ودعمتها، ووضعت – إلى جانبها- شبكة من الشروط هيأت المناخ الملائم للفعل الحضاري، ومن بين تلك القيم والآليات:

1- المعرفة هي حجر الزاوية.
2- النزوع إلى الأمام.
3- التحذير من هدر الطاقة.
4- مبدأ الاستخلاف.
5- مبدأ التسخير.
6- التحفيز على العمل والإبداع.
7- مجابهة التخريب والإفساد.
8- التوازن بين الأضداد والثنائيات، وتوحدها.
9- التناغم والوفاق الطبيعة والعالم والكون. مع
10- تحرير الإنسان والجماعات والشعوب على المستويات كافة.

لقد جاء الإسلام لكي يتحرك وفق دوائر ثلاث: تبدأ بالإنسان وتمر بالدولة وتنتهي إلى الحضارة التي سيقدر لها أن تنداح لكي تغطي مساحات واسعة من العالم القديم.

والسؤال ما المنهج الذي اتبعه النبي ﷺ في هذا البناء الحضاري الهائل الذي بدأ بالإنسان ثم الدولة ثم انتهى إلى حضارة إسلامية قيمية عالمية هذا ما نجيب عنه في المقالات القادمة.


(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.

اترك تعليق