✍️ أ.د. أحمد محمد زايد(*)
معالم المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري
أولاً: العناية بالإنسان:
عائد العناية النبوية بالإنسان:
➖ لقد أثمرت عناية الرسول ﷺ بأصحابه في كل شئونهم ثمارا عظيمة منها:
1️⃣ توريث الدعوة: حيث كان المثال واضحا أمام الصحابة رضي الله عنهم، فقد ورثوا الدعوة بحذافيرها ودقائقها منه ﷺ فاكتسبوا الأخلاق الفاضلة، والمعارف الراقية، والحركة الراشدة ،والعادات الحسنة، فتغيرت أحوالهم إلى عباد ربانيين ومجاهدين فاتحين، ودعاة هادين مهتدين، حتى إننا لنجد صحابيا كأبي بكر كأنه نسخة من النبي ﷺ في صفاته وحركته، ففي البخاري في قصة هجرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى الحبشة أنه لما خرج قاصدا الحبشة لقيه ابن الدغنة فقال له: أين تريد يا أبا بكر: فقال أبو بكر رضي الله عنه: “أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة، فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق ”
وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبي بكر وصف خديجة النبي ﷺ ما يدل أولا على عظمة الصديق، وثانيا: على مدى الاقتداء منه رضي الله عنه للنبي ﷺ حتى، كان أبو بكر -إن شئنا أن نقول– إنه نسخة محمدية سببها ذلك الاقتداء الدقيق.
ثم كان توريث العمل والممارسة من تعليم العلم والجهاد في سبيل الله، فكان لجابر بن عبد الله رضي الله عنه حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم منها، اقتداء برسول الله ﷺ، وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا صلوا الغداة قعدوا حلقا حلقا كما قال أنس رضي الله عنه
وفي البخاري عن منصور عن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي ﷺ يتخولنا بها مخافة السامة علينا
2️⃣ ومن ثمرات التربية والعناية بالإنسان شفافية المجتمع وصراحته، ففي الحديث الصحيح أن ماعزا والغامدية اعترفا أمام الرسول ﷺ بجريمة الزنا، يريدان أن يتطهرا من أمر اقترفاه، وتأتي امرأة من الصحابيات كما في البخاري وتقول يا رسول الله: “إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال النبي ﷺ: إذا رأت الماء، فغطت أم سلمة تعني وجهها وقالت: يا رسول الله ﷺ وتحتلم المرأة؟ قال نعم تربت يمينك ففيم يشبهها ولدها؟ ويأتي سيدنا حنظلة رضي الله عنه ليصارح رسول الله ﷺ بما يشعر في قلبه، وما يعتري حالته الإيمانية من تغير وتقلب ويقول: “نافق حنظلة”، أي صراحة هي تلك الصراحة التي يفصح فيها الجندي عما في نفسه بل عما في مكنوناتها لمربيه.
3️⃣ ومن عائد العناية بالإنسان معرفة أقدار الصحابة والوقوف على إمكاناتهم وحسن توظيفها في خدمة الأمة. روي مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتان يحبهما الله تعالى الحلم والأناة” وروي عن أبي ذر قال: “قلت يا رسول الله ألا تستعملي؟ قال فضرب بيده على منكبي، ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”
وقصة الأذان تظهر الدراية الجيدة بقدرات الصحابة وإمكاناتهم، وكيفية توزيع المهام على المؤهلين لها بناء على رصيد المعرفة والدراسة الذي يملكه القائد الأعلى محمد ﷺ
روي ابن هشام قصة الأذان وحكى رؤيا عبد الله بن زيد التي رآها بخصوص الأذان فلما أخبر بها رسول الله ﷺ قال: “إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن فإنه أندى صوتا منك”.
وفي البخاري أن رسول الله ﷺ قال: “استقرئوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل”
وأعمق من ذلك ما رواه البخاري وهو قول النبي ﷺ: “خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير”
إنها المعايشة المحيطة التي تنكشف بها أوضاع الدعوة، وأصولها، وأقدار الرجال ودرجاتهم، ومواهبهم ومؤهلاتهم حتى الدور والبيوت والعوائل.
4️⃣ ومن ثمار العناية بالإنسان في العهد النبوي: دفع التكلف، والتكلف يخرج الدعوة عن بساطتها، ويجعل العلاقات بين الناس ثقيلة مملة، وهو باعث التحمل والمجاملة، ويجعل الحواجز بين الناس سميكة تحجب الحب وتمنع القرب.
وقد رأينا أن رعاية الإنسان المسلم للجيل الأول أثمرت بساطة في كل شيء، فكان رسول الله ﷺ يعتمد البساطة مع أصحابه وبادلوه هذا الأمر، فلم يكتم فرد منهم شيئا عن نبيه ﷺ وكانوا يتكلمون بلا تزين ولا تكلف، فعن جابر بن عبد الله قال جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ: “فقال يا رسول الله: ثيابنا في الجنة ننسجها بأيدينا؟ فضحك القوم، فقال رسول الله ﷺ: مم تضحكون من جاهل يسأل عالما، لا يا أعرابي ولكنها تشقق عنها ثمار الجنة.
إن التقدير والعناية بالسائل التي تكسبه ثقة وطمأنينة بحيث لا تحجزه عن رسول الله ﷺ من إلقاء السؤال على أي كيفية أو بأي صيغة معبرا عما يجول في فكره، وما يستكن في ضميره طالبا المعرفة والبيان.
5️⃣ ثم يأتي الحب بل شيوع المحبة داخل عناصر المجتمع كثمرة كبرى من ثمار العناية بالإنسان، لقد كان رسول الله ﷺ يتحرك وسط أصحابه يزرع الحب ويجني ثماره، ويشيع الإخاء ليتمتع بآثاره المسلمون. ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال رأى النبي ﷺ النساء والصبيان مقبلين قال: حسبت أن قال من عرس، فقال النبي ﷺ: “ممثلاً فقال اللهم أنتم من أحب الناس إلى قالها ثلاث مرات”
وفي دلائل النبوة عن أنس كذلك قال: “قدم رسول الله ﷺ المدينة فلما دخل المدينة جاءت الأنصار برجالها ونسائها فقالوا: إلينا رسول الله فقال: دعوا الناقة فإنها مأمورة، فبركت على باب أبي أيوب رضي الله عنه. قال: فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن:
نحن جوار من بني النجار*يا حبذا محمدا من جار
فخرج إليهم رسول الله ﷺ فقال:” أتحبوني؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله قال: أنا والله أحبكم أنا والله أحبكم أنا والله أحبكم ” وفي رواية كذلك قال النبي ﷺ:” الله يعلم أنه قلبي يحبكم”.
لقد تجلت تلك الحقيقة حتى عرفها الأعداء فقد قال أبو سفيان وهو يومئذ مشرك: ” ما رأيت أحدا من الناس يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا”.
وقالت نسيبة بنت كعب بعد أن قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد شهداء فقالت لما أخبرت بذلك: ما فعل رسول الله ﷺ، قالوا: خيرا هو بحمد الله كما تحبين فقالت: أروني حتى أنظر إليه. فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل”
فالعناية بالإنسان كانت من أبرز المعالم المنهجية في التغيير والبناء الحضاري الذي قام به ﷺ، وهو أخطر ما في الحياة الإسلامية اليوم حيث الإهمال الظاهر للإنسان الذي هو محور الإصلاح والإفساد كما أشرت من قبل.
ثانيا: تأسيس الهوية وترسيخ القيم:
وأريد بالهوية هنا: “جملة الخصائص التي تمتاز بها الأمة بين الأمم في حركتها الحضارية في الحياة”، وحتى تقف الأمة موقف المتبوع المؤثر لابد أن تمتاز بخصائص تجعلها متميزة تشرئب الأعناق إليها، فتشعر بالتفوق والاستعلاء الحضاري بدلا من شعورها بالاستخذاء والضعف، لقد حرص النبي ﷺ على تأسيس “هوية الأمة” بكل أبعادها الداخلية والخارجية الأصلية والفرعية.
فعلى مستوى الفكرة (العقيدة) (الداخل) تأسست الهوية بأحلى وأصرم حالة وصورة.
وعلى مستوى (المظهر والسلوك) تأكدت معاني وخصائص الهوية بأحلى وأصرم حالة صورة.
وعلى مستوى (التعبد) كان الأمر كذلك، وهكذا في كل تفاصيل الحياة كانت الهوية تتأسس وتتمايز عن غيرها.
وكذلك على مستوى “التشريعات والقوانين” كان التميز وبروز الهوية.
والأمة القائدة المتبوعة لا بد أن تمتلك من مقومات الهوية ما يلفت الأنظار إليها ويغري باتباعها، وهذا يعني أن تكون في حالة قوة وتميز في شتى شئون حياتها، فالأمم الضعيفة لا يؤبه لها ولا تجذب غيرها إليها.
وهذا قانون في التغيير والبناء الحضاري يؤكده ابن خلدون في “الفصل الثالث والعشرون” من مقدمته تحت عنوان:
“في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”
والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غليها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادا فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضا يذلك عن الغلب وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائما وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية فحمد السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير”.
ولذا جاءت تشريعات الإسلام بالتركيز على “التوحيد” كأساس للهوية الحضارية، وركز على “الاستسلام” الذي هو مقتضى التوحيد، وكان التركيز على “المسجد والأذان والصلاة” كأبرز معالم الهوية، ثم جملة آداب وأعمال أمر بها الإسلام وحث عليها لتعزيز الهوية منها: التحية، ومنها البسملة، ومنها الأمر بإطلاق اللحي، وحجاب المرأة….الخ، ثم جاءت كذلك روايات صارمة في منع التشبه بغير المسلمين فيما يخص عاداتهم وأعمالهم الدينية، وحدث النبي ﷺ صحابته – وذلك من باب التحذير والتنبيه – عن زمن تضيع فيه معالم الهوية فيحصل ضعفهم فقال: “لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه”.
إن مثل هذه التشريعات والتحذيرات جديرة بأن تخلق أمة تعتز بفضائلها، وتثبت على مبادئها، وتحافظ على قيمها وخصائصها، وتقوم بعملية تمييز وفرز فيما تأخذ وتدع من ثقافة غيرها ومنجزاته، وتشعرها هذه الهوية بالاعتزاز بالذات والاستقلالية في الحركة والقرار، وتدفعها بكل قوة إلى تبليغ رسالتها دون خوف أو وجل.
وقد رأينا اليوم أمتنا في زمن تخلفها الحضاري كيف فقدت كثيرا من معالم هذه الهوية، فاتبعت الشرق والغرب بصورة مهينة على الرغم من امتلاكها عناصر هويتها الدينية والحضارية.
(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.