بقلم د. محمد بن محمد الأسطل(*)
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنَّ الإسلامَ هو الدينُ الوحيدُ الذي حكم العَالمَ لقرونٍ متطاولةٍ بمنهج الرَّحمةِ والهدى، ومن المدهش أنَّ أكثرَ الأخلاقِ أُخِذَت من نبيِّنا – صلى الله عليه وسلم – وهو في أرض المعارك وساحة الحروب كما يُعلمُ ذلك من كتب السيرة النبوية بأدنى تأمل.
وباجتماع الرَّحمةِ إلى القوة دخل الناسُ في دين الله أفواجًا، وذلك حين رأوا أنَّ المسلمين يفتحون بلادهم من أجلهم هم لا من أجل مصادرة ثرواتهم والسيطرة على ممتلكاتهم، وحينئذٍ رأينا معجزةً تُبهِرُ كلَّ ناظرٍ تمثَّلَت في دُخولِ المغلوبِ في دين الغالب، بل وتنازله عن العناية بلغته وثقافته ليصبح شغله وعنايته بلغة الفاتحين وثقافتهم وهي لغة القرآن الكريم وثقافته!
وفي معركة التنافس الحضاري بين الأمم فإنَّ من أهم المعارك التي تخوضها الأمة الإسلامية اليوم هي التصدي لمحاولات الغرب الرامية لكسر مواضع القوة في هذا الدين، والتي تهدد المشروع الغربي في قيادةِ العالم تهديدًا حقيقيًّا لا مبالغة فيه.
وقد تناولت في كتابٍ لي لم يصدر بعد اسمه: “سبائك الشيطان” الخصائص التي جعلت الإسلام دينًا عصيًّا على التطويع فبلغت سبعًا، منها أنه دينٌ توسعي، يجمع بين الدعوة والدولة، ومن ثم فإنه ينتهج أن يتوسع ويسود ولكن على قاعدة الرحمة والهدى.
ومن لازم هذا أنه دينٌ لا يرضى بالطغيان في الأرض، ولو في الأمم الكافرة، ولهذا قامت سياسته على ألا يكون في الأرض إلا مسلمٌ أو مسالم؛ تقريرًا لرسالة الرحمة كما قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
ويلخص هذا المعنى بأجمل تعبيرٍ وأجوده ربعيُّ بن عامر t حين قابل رستم قائد الفرس في بدايات المعارك معهم، فقال له رستم: ما جاء بكم؟!
فقال: الله ابتعثنا وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قَبِلَهُ قَبِلْنَا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضَهُ يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله.
قال: وما موعود الله؟. قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي”([1]).
وإذا كان هذا سلوك المنهج الإسلامي مع الطغاة.. فإنه سيكون أكثر حزمًا إزاء تسلل الطغيان إلى المجتمع المسلم نفسه، ومن ثم قام التصور الإسلامي على تحصين المجتمع من ذلك تحصينًا تامًّا؛ لأنَّ الإسلام والطغيان لا يلتقيان.
وهذه المقالة تقف عند بعض التدابير الإسلامية التي تُحصِّن المجتمع من تسلل الطغيان إليه، وقد بلغت سبعة تدابير كما يلي:
أولًا: ذم الطغيان والتنفير منه وتوعد أصحابه:
فقد جاء ذمُّ الطغيانِ في بدايات القرآن المكي كما قال سبحانه في أوائل سورة العلق أول سورة في القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 1 – 8].
وهذا على مستوى الطغيان الفردي فكيف بالطغيان الذي يعم أقوامًا ودولًا ومجتمعات!
وأكثر القصص ذكرًا في القرآن الكريم هي قصةُ موسى u؛ لأنَّها السورة التي اكتملت فيها نظرية الطغيان بكامل أركانها وما ينبغي تجاهها، وهي الأزمة التي ستبقى الأمة في مدافعةٍ معها على امتداد تاريخها، فتناثر فقه التعامل مع الطغيان في جنبات القصة بمختلف أماكن ذكرها في القرآن الكريم.
والله سبحانه كان يرسل الوحي لأنبيائه بواسطة جبريل u، لكنه كلم نبيه محمدًا – صلى الله عليه وسلم – وكلم موسى u من قبل، ولا يكون هذا إلا لأمرٍ عظيم، وقد وجدنا أنه كلم محمدًا – صلى الله عليه وسلم – ليفرض عليه الصلوات الخمس، فضلًا عن أنَّ الكلام جاء في رحلة المعراج التي جاءت مواساةً له وتثبيتًا وتعزيزًا لليقين الذي عنده، ووجدنا أنه كلم عبده موسى u ليقول له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].
ولهذا من أعظم ما يشتغل به المرءُ في الدنيا كثرةُ الصَّلاةِ ومقاومةُ الطغيان، ليكون ذليلًا بين يدي الله، سيفًا على أعداء الله.
ومن التنفير عن الطغيان توعدُ الطغاة والتذكير بمصائرهم، خذ هذه العينة من الطغاة في قوله سبحانه: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 39، 40].
وهذا أمرٌ قد لا يردع الطغاة، لكنه يؤثر عليهم، ويجعلهم عبرة، ويبقون حديث الناس ليبقى شائعًا أن هذا مآل الطغاة ومصير الظالمين.
ثانيًا: العمل على استقلالية الأمة دون ربطها بأي سلطانٍ خارجيٍّ أو داخلي:
وبالمثال يتضح المقال: حين وصل النبي – صلى الله عليه وسلم – المدينة وجد أنَّ الماء العذب بيد اليهود، بمعنى أنَّ اليهودي صاحب البئر لو مكث أيامًا في سخطٍ علينا فيمكن أن يتحكم بالماء الذي نشربه!
وعندئذٍ أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تكون الأُمَّةُ ذاتَ استقلاليَّةٍ في شأن عيشها ومُقَدَّرَاتِهَا، فأعطى صفقةً فوريَّةً من أعجب الصفقات، تنص على أنَّ من يشتري البئر فإنَّ له الجنة التي وعد الله عباده بالغيب!
نعم؛ الجنة مقابل بئر؛ وذلك لئلا تبقى أساسيات عيشنا بيد عدونا يتحكم بنا كما يشاء.
ولكنه – صلى الله عليه وسلم – اشترط شرطًا في الصفقة التقطه بفطنتك من الحديث الذي سجَّل الواقعة:
روى الترمذي والنسائي أن رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ فَقَالَ: “مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلُ فِيهَا دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ“([2])، فاشتراها عثمان بن عفان t من صلب ماله.
ولعلك لاحظت أنه – صلى الله عليه وسلم – اشترط أن يكون دلو المشتري واحدًا مع دلاء المسلمين؛ وذلك لئلا يتحكم بأساسيات حياتنا أحدٌ من الناس حتى لو كان مسلمًا، فالتبعية تكون للمنهج، والمالُ والمقدرات تكون لمجموع الأمة، فلا تخنع لأحد، وتبقى محفوظةَ المنهج بذلك.
ثالثًا: تقرير نظام الشورى:
وذلك أنَّ أمر الأمة إذا خرج من الأمة فهذا عاصمٌ من الاستبداد والطغيان، وقد كان النظام السياسي في الجزيرة العربية قبل الإسلام يتمثل في النظام القبلي، فرأس القبيلة بيده الأمر، يسالم أتباعه من سَالَمَ ويعادون من عادى، لا يسألونه لم قاتلت كما لا يسألونه لم سالمت؟!
ولما جاء الإسلام جاء بالشورى، ليُعظِّم من شأن الأفراد، فلا تخضع الأمة كلها لشخصٍ واحد، ويظهر خطر هذا التفرد حين ضعف الأمة أو فسادها أو سريان الترف فيها، فتبقى محفوظةً معصومةً عن الضلالة بالرأي الناتج عن المجموع.
ومما ينبغي استحضاره أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حين جاء بالشورى وطبقها وصار لا يكاد يقطع أمرًا حتى يستشير الناس كان هذا مثار عجبٍ عند الناس؛ لأنه أمرٌ جديدٌ غيرُ متبعٍ فيهم.
وحين جاءت غزوة أحد وحصل الخلاف هل نخرج لملاقاة العدو أم نبقى في المدينة نتحصن فيها ونتصدى لهم؟.. كان رأي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن نبقى في المدينة، لكن الرأي الذي اجتمع الناس عليه هو الخروج.
وحين خرجنا وحصل ما حصل عاد بعض الناس بذم فكرة الشورى؛ إذ إنَّ مخرجاتها لم تُؤَدِّ لنصرٍ، بل أدَّت لوعكةٍ عسكريةٍ شديدة، ولكن العاقل يدرك أن عدد الخطأ في اجتهاد الفرد أضعاف عدد الخطأ في اجتهاد الجماعة.
ومن ثم نزل القرآن يأمر بالشورى حين اختلف الناس فيها، فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
إذن فالشورى أحفظ للأمة من اجتهاد الفرد، وقد سجَّلت لنا السيرة أكثر من اجتهاد للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم – لم يكن هو الأمثل، كما رأينا يوم بدر ويوم خيبر، يختار النبي – صلى الله عليه وسلم – مكانًا فيأتيه الحباب بن المنذر فيقترح غيره فيصير النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه.
ونختار واقعة بدر؛ فقد جاء الحُباب بن المنذر t للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: أرأيت هذا المنزل أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: “بل هو الرأي والحرب والمكيدة“.
قال: يا رسول الله؛ فإنَّ هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماءٍ من القوم فننزله ثم نُغَوِّر ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : “لقد أشرت بالرأي”، فنهض ونهض الناس معه حيث قال الحُباب t([3]).
وتخيل مشاعر المسلمين وهم يرون رجلًا مغمورًا منهم يمضي قوله على المجموع، ويتحرك الجيش كله بناءً على رأيه!
ورأينا النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم الأحزاب يفاوض غطفان على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة على أن يتركوا القتال؛ وذلك سعيًا منه – صلى الله عليه وسلم – لتفكيك جبهة الكفار، ولكنه علَّق إمضاء الاتفاق على استشارة أهل المدينة.
فالمنظومة التي تسودها الشورى الحقيقية، وتبعد عن نجوى السوء والتوافقات المصلحية الداخلية تستعصي على وجود طاغية يُرَدُّ إليه الأمرُ كله.
رابعًا: جعل اختيار الولاة موكولًا للناس بحسب ما في نفوسهم:
فالسياسة الشرعية تفتي بأن يلي أمرَ الناس من قامت زعامته في النفوس، فلا يتسلط عليهم أصحاب النفوذ والمال والبأس الشديد.
ومن شواهد ذلك: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم بيعة العقبة الثانية -وهي بيعةٌ سياسيةٌ- قال للأنصار: “أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم“.
فلم يتولَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – إخراجهم بنفسه، ولم يجعل معيار ذلك بحسب الأقدمية في الإسلام؛ وإنما جعل الولاية بحسب الذي من قامت زعامته في نفوسهم.
وسبحان الله؛ فإنَّ البراء بن معرور t كان ممن وقع عليه الاختيار وما مضى على إسلامه إلا أيام!
وهذا الأمر مركوزٌ في فِطَر الناس لا يمكن أن يُضبط.
وتقريبه: لو دَخَلْتَ ناديَ قومٍ وهو ما يُعرف في لسان الناس بالديوان.. فإنك تجد الذي يجلس في الوسط كبيرُهم، وبجانبه من يليه في الفضل، فإذا كان الأول بمنزلة الأمير فإن من بجواره بمنزلة الوزير، ويتسلسلون في المجلس بحسب رتبتهم في النفوس.
ويظهر هذا حين يدخل داخلٌ؛ فلو كان هو الكبير فإن مكانه في الوسط يكون محفوظًا، فإذا كان الوزير فسحوا له في الموضع الذي يوافق منزلته في نفوسهم، فإذا كان من غمر الناس جلس حيث انتهى به المجلس.
هذه الهرمية تشبه قوة الضوء حين يبدأ قويًّا ثم يتسلسل في الضعف حتى نصير إلى الظلام، ولا يمكن لهذا الأمر أن يُضبط بسهولة.
وزيادةً في التأكيد على هذا المبدأ وباعتماد نفس المثال: فإنك ترى من يريد السفر أو الزواج أو البتَّ في قرارٍ مهم.. فإنَّه يقصد كبير القوم ولو لم تكن له رتبةٌ معلومة، ولو لم يكن ذا علمٍ، بل لو فعل أحد الأفراد شيئًا من مهمات الأمور دون استشارته.. فلربما اعتذر إليه بأنَّ أمضى قراره على عجل لباعثٍ على ذلك!
وهذا الأمر جاء الإسلام بتقريره؛ فالمسلمون اختاروا أبا بكر t خليفةً وهو ليس من بني مخزوم مثلًا، بل كان من قبيلة تيم ولم تكن لها المنزلة، ولكن المنزلة كانت للفرد، ثم كان عمر t من بني عدي ولم يكن من بني مخزوم كذلك، ولكن كان يستقر في خلد الصحابة y أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فكانوا كذلك في الخلافة.
وأي منظومة تريد جمع الأتباع على قائدٍ ويمتثلون لكل ما يُطلب منهم.. فبوابة ذلك أن يختاروا أميرهم بحسب الذي في نفوسهم، من غير مؤثراتٍ تحجبهم عن تحقيق مرادهم.
ولو كان الذي اختاروه ضعيفًا شيئًا ما.. فإنه يقوى باجتماعهم معه، ومساندتهم له، ولو كان الذي فرض عليهم قويًّا.. لانفضوا عنه، ولما اتبعوه إلا في القدر الواجب عليهم وجوبًا لا سبيل للانفلات منه، وحينئذٍ فإن الأمير يَتعب ويُتعب، ويَتعب الأتباع ويُتعبون.
وهذا المنهج حين يُطبَّق فإنه يعصم من وجود طغاةٍ داخل المجتمع الإسلامي، ولو جاء طاغية وفرض نفسه فإنَّ سقوطه مسألة وقتٍ ولو طال الزمان؛ لأنَّ قرار إسقاطه يكون في الأذهان، ومستقرٌّ تمام الاستقرار في النفوس، ويبقى تهيؤ الأحوال ليتم في الواقع.
خامسًا: ربانية التشريع وتماسك المنهج التشريعي:
فالدستور في الإسلام ليس من شأن السلطان، بل استأثر الله تعالى بالتشريع، وهذا المعنى يؤخذ من كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله”، وهي أعظم كلمةٍ في تاريخ البشر، وهي تؤذن بأنَّ أمر الله هو الذي يحكم في كل شأن، في السلم والحرب، في السياسة والاقتصاد والأحوال الشخصية والعلاقات الدولية وغير ذلك.
وهذه الكلمة تقي من عبودية البشر للبشر، فلا يكون الإنسان عبدًا إلا لله، فالمسلم بهذه الكلمة يكون حرًّا تام الحرية، لا يخضع إلا لجهةٍ واحدة هي جهة الخالق سبحانه.
ونشأ التشريع على ذلك؛ أعني فقه الحلال والحرام المعروف بعلم الفقه، ومن هنا كانت المذاهب الفقهية عصيةً على التطويع، فلا يمكن أن يعبث بها سلطان ولو بلغت قوته ما بلغت، وسار المسلمون على ذلك.
ولهذا لا يستطيع طاغيةٌ أن يتسلل إلى الدين إلا من خلال علماء سلاطين يدَّعون أحقيتهم بالاجتهاد؛ ليتحللوا من سلطان المذاهب.
والأهمُّ من ذلك أنَّ علم الفقه تحصَّن بعلم أصول الفقه، ليبقى منهج الاستدلال عصيًّا على العبث، فلا يمكن أن يصل طاغيةٌ أو ظالمٌ إلى مراده إلا بتأويل القرآن أو برد السنة.
ولهذا نجد كل من أراد أن يُمَرِّرَ حكمًا لم يجد من بُدٍّ من مهاجمة الإمام الشافعي ورسالته في الأصول؛ لأنه دون فيه منهج الاستدلال الذي يحكم عملية الاستنباط والتأويل، فلم يعد الأمر متاحًا لكل ذي هوى، وكذلك مهاجمة الإمام البخاري؛ لأنَّه حصن مهمات مسائل الشريعة على مستوى التفاصيل؛ وذلك لما تشدد في شروط قبول الأحاديث ومن ثم تلقَّت الأمة صحيحه بالقبول، فكلما أراد صاحب هوى تمرير شيء وجد أمامه حديثًا تفصيليًّا يصعب تأويله أو العبث بمعناه.
والأمة بقبولها لرسالة الشافعي وصحيح البخاري تكون قد أغلقت الباب في وجه كل ذي هوى، فلم يبق مجال لأي طعن إلا ما يكون من اللغط الذي لا يضر إلا بصاحبه.
وقد حكم الإسلام أكثر من ألف سنة، وبنى المسلمون حضارةً ضخمةُ تتلمذ عليها العالم كله، وكان المسلمون طيلة ذلك على رسالة الشافعي وصحيح البخاري، فمن ادعى أن طريق النهضة والحضارة يمر بتجاوز هذين السِّفرين فقد أوتي من قبل التوهم النفسي ليس إلا.
سادسًا: العظمة للأفكار لا للأشخاص:
المنهج القويم أن يجتمع الأشخاص والأشياء في خدمة الأفكار، وعلى هذا جاءت التربية الشرعية، وبهذا يتسم منهج التفكير بالعمق والشمول، وتدور اهتمامات الأمة بالقضايا الكبرى، ويتسلم مراكز القيادة الأذكياء والمخلصون؛ لغلبة الفكرة في النفوس.
أما إذا صارت الأفكار والأشخاص في خدمة الأشياء.. فهنا تجف الروح، وتطغى المادة، وتصبح الغلبة للمظاهر والأمور الشكلية والشعارات المنمقة وغير ذلك من الإفرازات المهلكة.
وأما إذا صارت الأفكار والأشياء في خدمة الأشخاص.. فهنا ينتج الطواغيت ويحل الطغيان، وتصبح السمة الغالبة على المجتمع هي هيمنة محبي الجاه والنفوذ وأصحاب القوة، وهؤلاء يُسَخِّرُون الأفكارَ والأشياءَ لمصالحهم الشخصية أو لطوائفهم وخاصتهم.
ومن بركات التربية الشرعية على تعظيم الأفكار أنَّ الشخصَ لو طغى وبلغ من النفوذ ما بلغ.. فإنَّ المركزية تبقى في المجتمع، فيتداعى العلماء والدعاة وأصحاب الكلمة والرأي بالإنكار على صاحب المنكر.
فتزكية المجتمع من خلال فُضَلائِه وكبرائه هي عامل العصمة، فلا يمكن تمرير طاغية في ظل التربية التي تجعل العظمة للأفكار لا للأشخاص.
وقد شَهِدَتِ الساحةُ الإسلامية رفعة قومٍ سنين عددًا، ثم إنهم فعلوا أفعالًا وقالوا أقوالًا أسقطتهم بإسقاط المجتمع لهم.
ولو رجعنا إلى التاريخ فإنَّ معاوية بن أبي سفيان t هو الذي انتهى إليه الأمر بعد مقتل علي بن أبي طالب t ومع ذلك، ورغم أنه المنتصر وصاحب السلطة إلا أنَّ المجتمع العلمي زكَّى عليًّا t واعتبره أولى الطائفتين بالحق، بينما عدَّ معاوية t هو صاحب الفئة الباغية.
فالمجتمع يُشكِّل مناعةً خاصة، وهذا من فضل الله على هذه الأمة، ولو أن عالمًا واحدًا التحق بالسلطان وجاراه في أهوائه.. فإنَّ العالم هو الذي يسقط ولا يُمرَّر من قوله حرفٌ واحد.
ومن روائع التربية السلفية أنَّ العالم يتوقى مجالس السلطان، والسلطان هو الذي يسعى خلف العلماء ليأخذ التزكية لنفسه ولأعماله منهم، وما من طاغيةٍ إلا وحرص أن يحتف به قومٌ من المحسوبين على فئة أهل العلم ليمرر من خلالهم ما يريد، ولكن هَيهات هيهات؛ فإنَّ الارتفاع بباطلٍ يتبعه السقوط بحق.
سابعًا: رقابة أهل الحل والعقد وقوامة الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
هذان عاملان ولكنهما لما كانا يلتقيان عند نقطةٍ واحدةٍ جعلتهما معًا.
إنَّ من مفاخر الفقه السياسي وجود فئة لها الكلمة في العقد لأي سلطان، كما لها الكلمة في حلِّ هذا العقد، وبغض النظر عن مدى التطبيق في الساحة السياسية إلا أنَّ هذا المبدأ يجعل تفريخ الطغاة أمرًا متعسرًا.
فثمة فئة من العلماء وأعيان المسلمين تكون فوق المطامع هي التي تمثل رقابةً عليا على شخص الأمير والحاكم، ولو طغى فإنها بالإمكان أن تعزله.
فإن لم تقم بدورها فإنَّ الأمر لم يضع؛ لأنَّ الله جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا شرعيًّا متأكدًا لا يُحصر بفئة، بل هو أهم سمةٍ لهذه الأمة، كما يُشعِرُ بذلك قولُ الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
فالمسلمون يأخذون على يد من يتولاهم إذا بدل وغير، ولو أوذي المحتسب فإنه مأجور، ولو قتل فإنه من أعظم الشهداء مرتبةً عند الله تعالى؛ روى الحاكم في المستدرك عَنْ جَابِرٍ t عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ“([4]) صححه الألباني.
هذا وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
والحمد لله رب العالمين.
(*) من علماء فلسطين، وصاحب مؤلفات كثيرة منها: فقه الاستدراك، الرباط وأحكامه، وعدة الفقيه، والمقال تم تحريره عشية يوم الأحد الأول من ذي العقدة 1444 هـ الموافق 21 – 5 – 2023م.
الهوامش:
([1]) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء لأبي الربيع الأندلسي (4/173-174).
([2]) سنن الترمذي، رقم الحديث: (3703)، سنن النسائي، رقم الحديث: (3601). وقد صححه الألباني.
([3]) الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء لأبي الربيع الأندلسي (2/17).