من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة

دراسة بقلم المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة (*)

كاتب هذه الصفحات، وإن لم يكن في يوم من الأيام قد انتسب إلى عضوية تنظيم من تنظيمات الحركات الإسلامية، إلا أنه ليس غربيا عن أن يكتب في هذا الموضوع، موضوع “الحركات الإسلامية: نظرة مستقبلية”، وعلى الأقل من خلال الزاوية والجزئية التي اختار أن يفرد لها هذه الصفحات.

فبحكم التكوين الفكري الموروث الذي اتخذه سبيلا للتعلم وللعلم: الدراسة في الأزهر ودار العلوم، وبحكم التخصص الأكاديمي في العلوم الإسلامية، والتفرغ لقضايا الفكر الإسلامي، كان الاهتمام بالحركات الإسلامية شاغلا أصيلا من شواغل كاتب هذه الصفحات حتى في حقبة من تاريخه السياسي والفكري كان فيها رافضا لطريق هذه الحركات، فبحكم العلائق، وبحكم هذا الرفض أيضا كانت هذه الحركات في بؤرة الاهتمامات.

ولقد زادت هذه الاهتمامات فبلغت مستوى المتابعة للكثير من أدبيات الحركات الإسلامية ومواقفها وأنشطتها، وللمد والجزر اللذين تناوبا على العديد من فصائلها، زادت هذه الاهتمامات في الربع قرن الأخير، وذلك منذ أن استخلص كاتب هذه الصفحات عقله ووجدانه وإسهاماته الفكرية لقضية البعث الإسلامي جنديًّا من جنود الفكر الذين يجتهدون لتجديد دنيا المسلمين بتجديد الفكر الإسلامي.

ولقد تجسدت حصيلةُ هذه الزيادة من الاهتمام بفكر وأنشطة الحركات الإسلامية المعاصرة في عديد من الكتب والفصول والدراسات التي قدمها كاتب هذه الصفحات إلى المكتبة الإسلامية، فبعد دراسة الأصول التاريخية والجذور التراثية في كتاب (تيارات الفكر الإسلامي) كانت الدراسة لـ (تيارات اليقظة الإسلامية الحديثة).

ثم جاءت الدراسات التي أنجزتُها عن الشيخ حسن البنا (1324 – 1368هـ 1909 -1949م) وجماعة الإخوان المسلمين، وعن أبي الأعلي المودودي (1321 – 1399هـ 1903 – 1979م) والجماعة الإسلامية، وعن سيد قطب (1324 – 1386 هـ 1906 -1966م)، وتيار الرفض الغضب الإسلامي، وعن جماعة الجهاد والفريضة الغائبة.

وبعد إنجاز هذه الأعمال الفكرية زادت اهتمامات كاتب هذه الصفحات بأدبيات فصائل تيار الرفض والغضب الإسلامي؛ فأخذ يجمع هذه الأدبيات على أمل أن يُفرد لفكر هذا التيار عملا يَفي بدراسته دراسة موضوعية إن شاء الله.

إذن، فكاتب هذه الصفحات وإن لم يكن عضوا في أى تنظيم من تنظيمات الحركات الإسلامية المعاصرة إلا أنه يرجو أن تكون لديه مؤهلات الحديث في هذا الموضوع.

وإضافة إلى ما تقدم وهي إضافة بالغة الأهمية في هذا المقال، فإن الاهتمام بفكر ونشاط الحركات الإسلامية المعاصرة ليس لمجرد الدراسة التي تستهدف أن تَصدر في كتاب أو عدد من الكتب والأبحاث، وإنما هي اهتمامات مجاهدٍ – سلاحُه الفكر – بإخوة المعركة الواحدة، ورفاق الخندق النضالي الواحد، الذي نجاهد منه جميعا لبعث هذه الأمة وانتزاع استقلالها السليب، وتحقيق نهضتها بالإسلام؛ فهو ليس اهتمام “الأكاديمية – الحرفية” وإنما هو اهتمام العضو الذي يمتلك بالفكر أعلي مستويات الحساسية بسائر أعضاء الجسد.، جسد الطلائع التي تقف على أرض معسكر البعث الإسلامي الجديد.

فهذه الحركات الإسلامية المعاصرة بالنسبة لى ليست مجرد مادة للدراسة، وإنما هي:

* الأمل الإسلامي المرشح والمؤهل لقيادة النهضة الإسلامية المنشودة لهذه الأمة والتي نأمل أن تحقق لها الاستقلال الحقيقي، والتقدم الحقيقي، والقوة العادلة، لتعود هذه الأمة ثانية إلى صدارة الدنيا وإمامة العالم تسهم إسهامها الطبيعي والمتميز في ترشيد مسيرة البشرية جمعاء.
* وهي المالكة الوحيدة “للشوكة الفكرية ” أى للفكر القادر – وحده ودون سواه – على تحريك جماهير الأمة وحشدها لتنتمي إلي الذات، ولتدفع العدوان عن هذه الذات ولتحقيق المشروع الحضاري الذي تتحقق به وتزدهر هذه الذات، ذات الأمة الإسلامية، إنها المالكة لهذه الشوكة الفكرية ولوقوفها إجمالا على أرض الهوية الحضارية الإسلامية، ومن ثم فإنها المالكة لزمام حركة وتحريك الجماهير الإسلامية مادة وأداة التغيير، وصاحبة المصلحة الأولي في التغيير الإسلامي المنشود، ولذلك كان – وسيظل – الانعطاف الجماهيري الكبير وتعاطفها المتنامي نحو هذه الحركات.
* وهذه الحركات الإسلامية هي الناهضة بالفريضة الإسلامية الكفائية والمحققة للواجب الشرعي الاجتماعي، فريضة وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والتواضي بالصبر على تبعات ومشاق طريق الحق، أى أنها الطلائع الإسلامية التي تنهض بهذه الفريضة نيابة عن العامة والجمهور مستعينةً بهؤلاء العامة وهذا الجمهور.
* وهذه الحركات الإسلامية هي الوعاء التنظيمي الذي يستوعب الطاقاتِ الإسلاميةَ النشطة والفاعلة؛ فيوظفها في المكان المناسب والنافع منقذا لها من التردي في أوعية تيارات العلمانية والتغرب والاستلاب الحضاري والمروق والإلحاد والانحلال واللامبالاة، إنها العاصم لشباب الأمة – مادة المستقبل وعدته – من التواكلية والانحلال ومن السقوط في المستنقعات التي تمد التنظيمات العلمانية بالمدد الجديد والدم الجديد.
* إنها نحن، ونحن منها، وبها، ومعها، نقف معا وجميعا في ذات الساحة وبذات المعسكر، ونجاهد متكاتفين من ذات الخندق، حتى وإن اختلفنا وخالفنا بعضَ فصائل هذه الحركات الإسلامية المعاصرة في بعض من الرؤي، وعدد من السبل والبدائل والتصورات.

هذا عن علاقة كاتب هذه الصفحات بالحركات الإسلامية والمعاصرة، وعن مكانه منها ومكانتها لديه؛ ولذلك، فإن النقد الذي تجتهد هذه الصفحات لتلمَس بعضا من جوانبه هو جزء من أداء كاتب هذه الصفحات لفريضة النصح والتناصح الإسلامية، تلك الفريضة الكفائية الواجب الشرعي الاجتماعي الذي افترضه الله علينا تجاه هذه الحركات، وهي تتعين على أهل الاختصاص والإمكانات؛ استهدافا لتقويم المسيرة وترشيد المسعي ضمانا لبلوغ الأهداف؛ فـ “الدين النصيحة ولله ولرسوله ولأمة المسلمين وعامتهم” رواه البخاري ومسلم، وهذه الحركات الإسلامية المعاصرة هي في موقع “الإمامة” السياسية والاجتماعية والفكرية شعبيا وجماهيريا بالنسبة لأمة الإسلام وعامة المسلمين.

ولأن هذا هو حال كاتب هذه الانتقادات لبعض من فصائل الحركات الإسلامية المعاصرة، كان معيار هذا النقد، الذي يحتكم إلى مقاييسه وضوابطه هو معيار المنهج الإسلامي وخصيصة النظرة الإسلامية: الوسطية الإسلامية الجامعة التي هي: عدل بين ظلمين، وحق بين باطلين، واعتدال بين طرفين، وتوازن وموازنة ينفيان الخلل والاختلال، ويضمنان النظرة الشاملة التي تبرأ من انحياز وتطرف وانغلاق النظرة الوحيدة الجانب التي تري في الظاهرة إلا أحد قطبيها، والتي تعجز عن الجمع والتأليف بين عناصر الحق ومكوناته دونما ميل أو هوى أو انحراف.

وصدق الله العظيم إذ يقول: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [البقرة: 143]، وصدق رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم إذ يقول: “الوسط العدل جعلناكم أمة وسطا ” [رواه الإمام أحمد].

فمواطن “الخلل” التي تتلمسها وتنتقدها هذه السطور هي المواطن التي غابت فيها عن الحركات الإسلامية المعاصرة موازينُ الوسطية الإسلامية الجامعة سواء أكان ذلك في “الفكر” أو “الممارسة” لدي هذه الحركات.

أما مواطن “الخلل” هذه فإننا نتخير منها نماذج هي على سبيل المثال:

1- الخلل في فهم “التعددية” وفي الإيمان بجدواها:

إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة، ولا نبالغ إذا قلنا أكثريتها، إنما تقف من مبدأ “التعددية” سواء في الرؤي الفكرية أو في الأوعية التنظيمية والتنظيمات الحركية موقف الرفض العدائي أو الريبة الشديدة أو الشك في شرعيتها أو في ضرورتها وجدواها.
وهذا الرفض لهذه “التعددية” ليس نابعا من مجرد الرغبة في الانفراد بالفعل وبالقرار وبالجماهير في الساحة الإسلامية، وهي رغبة مفهومة ومقبولة، وإنما هو رفض نابع من خلل جعل هذه الحركات لا تميز بين الأصول والمبادئ والقواعد الإسلامية التي لا يجوز فيها الاختلاف، والتي هي لخطرها وكليتها وثباتها الضامنةُ لوحدة الأمة في العقيدة والشريعة والروح الحضارية، الخلل في التمييز بين هذه الأصول الجامعة وبين الفروع والجزئيات والسبل والوسائل المتعلقة بالمتغيرات – والمتغيرات الدنيوية على وجه الخصوص – وهي التي لا تضر فيها تعددية الرؤي والمناهج، وتعددية الدعوات والتنظيمات، بل ربما تكون هذه التعدديةُ في هذا النطاق مصدرًا للثراء الفكري ودافعًا على تحريك العقل نحو الاجتهاد والإبداع، ومنبها على الأخطاء والانحرافات، ومرايا يري فيها الجميعُ العيوبَ والأمراض؛ فيسرعون إلى علاجها، والخلاص من مضاعفاتها.

لقد سن لنا تاريخ الفكر الإسلامي منذ عصر الصدر الأول سنة حسنة اهتدى فيها بمنهج “الإسلامية الجامعة”، وذلك عندما علَّمَنا أنه لا اجتهاد في الأصول والمبادئ والقواعد التي بني عليها الإسلام، اللهم إلا الاجتهاد في الفهم والتنزيل، وإلحاق الفروع بالأصول.

فهذه هي مساحة وإطار وحدة الأمة التي يمتنع فيها الاختلافُ ومن ثم فتمنع التعددية، أما في الفروع التي تقام أبنيتها على هذه القواعد فهنا يصح بل ويجب الاجتهاد، فإن هذه السنة الإسلامية هي بعينها الإعلان الإسلامي عن شرعية ومشروعية التعددية الإسلامية في هذه المساحات من الفكر وتطبيقاته، وفي الأدوات اللازمة لذلك ومنها التنظيمات.

تلك هي سنة الإسلام التي شرعت وقننت لمبدأ التعددية في الفكر الإسلامي، وفي الممارسات الإسلامية منذ صدر الإسلام، والتي بناء عليها وتطبيقا لمنهجها كانت تياراتُ الاجتهادات الإسلامي مصدرًا لثراء الفكر الإسلامي على عهد الازدهار الحضاري الذي سبق عصر التراجع والجمود.

وغيبة هذه السنة الإسلامية الحسنة والمتميزة عن وعي أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة هي في تقديري المصدر الأول في هذا “الخلل” إلى جعلها تتخذ من التعددية ذلك الموقف المتراوح ما بين التحريم والعداء والرفض والارتياب والنفور!

وإذا كانت الرؤية الصحيحة والواعية نسبيًّا لهذه القضية قد عصمت بعضا من الحركات الإسلامية المعاصرة من هذا العداء للتعددية كما هو الحال في السودان وتونس مثلا؛ فإن الإخوان المسلمين بمصر تجربة في “التعايش” مع “الجمعية الشرعية”، وهي إن لم تنبع من الإيمان بالتعددية على النحو الذي نتحدث عنه إلا أنها تستحق الدراسة كنموذج لأفق يرى اتساع العمل الإسلامي لتعددية في الحركات التي تركز كل منها على ميدان لا يكون موطن التركيز لدي الأخرى.

إنها نماذج إيجابية لكنها تظل جزئية، كما تظل الاستثناء الذي يؤكد سيادة قاعدة “الخلل” الذي أصاب ويصيب موقف الحركات الإسلامية المعاصرة في هذا المقام، مقام “التعددية” في الرؤى وفي التنظيم، وحظه من “الإسلامية” ومن “الضرورة” في واقع العصر الذي نعيش فيه.

2- الخلل في علاقة الذات بـ “الآخر”:

لو أن “الواقع في ديار الإسلام قد ظل إسلاميا خالصا” يسود فيه منهج النبوة على النحو الذي حدث في الصدر الأول للإسلام لما دعت الدواعي إلى قيام “الحركات الإسلامية”، لكن هذا التمني هو مما تأباه سنن الله في تطور المجتمعات، كل المجتمعات.

وفي حال “الواقع” الإسلامي، فالفتوحات الجديدة قد أدخلت إلى الأمة والدولة والفكر “آخر” شاب نقاء المنبع الإسلامي بشوائب، منها ما كان نافعا، ومنها ما كان ضارا؛ فأصاب التصورات الإسلامية والواقع الإسلامي بتشوهات أو غبش تفاوتت آثاره في الخطر والتأثير.

ولقد تزامل مع هذا الوافد، الذي أتت به الفتوحاتُ ومواريث أمم البلاد المفتوحة، ثمرات القرون التي تتوالى، والتي تأتي في صورة بدع ومستحدثات تطرأ على العقائد والشرائع، إنْ بالزيادة وإن بالانتقاص وإن بالتحريف والتشويه.

فلما جاء الحينُ الذي تراكمت فيه هذه الآثار وغيرها، فدخلت بعصر الإزدهار للحضارة الإسلامية منعطف التراجع والجمود والفقر في الإبداع تصادف أن كانت السيادة على ” الدولة ” في ذلك المنعطف للعسكر الترك المماليك؛ فساء في حضارتنا لعدة قرون ما تواجهه الحركاتُ الإسلامية الحديثة والمعاصرة من تحدي: “التخلف الموروث”.

ثم حدث أن عاجلت الغزوةُ الاستعمارية الغربية الحديثة بواكيرَ يقظة الاجتهاد الإسلامي التي نهضت لتخليص الأزمة من هذا “التخلف الموروث”، عاجلت الغزوة الاستعمارية بواكير يقظة الاجتهاد الإسلامي فأجهضتها، ثم أضافت إلى شوائب التخلف الموروث “شوائب” التغريب التي رعتها سلطاتُ الاحتلال ومؤسساتُه الفكرية والتعليمية والإعلامية.

فأضيف إلى تحدي “التخلف الموروث” تحدي “الاستلاب الحضاري” الذي يمسخ وينسخ ويشوه الهوية الإسلامية لفكر الأمة ولواقعها، فكانت “البلوي” التي استنفرت حدتُها – عندما أوشكت على العموم – ضمير الأمة وعقلها ووجدانها، فردتْ عليها ذلك الردَّ الإيجابي الذي تمثل في الحركات الإسلامية التي عرفتها ديارُ الإسلام، منذ جمال الدين الأفغاني و(العروة الوثقي)، وحتى الحركات التي نعنيها بالحديث في هذه الصفحات.

إذن، فالحركات الإسلامية المعاصرة لا تنفرد وحدها بالعيش والحركة في واقع ديار الإسلام، وإنما معها “آخر” يزاحمها في الفكر والواقع الذي تعيش فيه، وهنا نلمح خللا في علاقة هذه الحركات الإسلامية بهذا “الآخر”.

وعلى سبيل المثال، فإن هيمنة النموذج الحضاري الغربي على مؤسسات الفكر والتعليم والإعلام في بلاد الإسلام قد صنع من أبناء هذه الأمة تيارا متغربا، يتبني مذاهب الغرب الوضعية، ويدعو إلى علمانيتها، وهذا “الآخر العلماني” ليس كل من فيه “عميلا” يسعي إلى إلحاق ديار الإسلام بالمركز الغربي، ويعادي نهضة الأمة وقوتها واستقلالها.

فإلي جانب قلة من “العملاء”، وإلى جانب قلة من “العلمانيين الثوريين” الذين تطمح علمانيتهم إلى نقض الدين والتدين، وليس فقط إلى فصل الدين عن الدولة، والخلاف مع هؤلاء هو خلاف في “الأصول” وليس خلافا في “الفروع” إلى جانب هذه القلة من “العملاء” ومن الزنادقة وأعداء الدين والتدين، هناك في صفوف “الآخر العلماني  كثرة سلكت سبيل التغرب والعلمانية لأسباب كثيرة، منها: طبيعة النشأة والتكوين الفكري، ومنها رجحان كفة “الخيار الغربي” عندما قارنوه بصورة “الخيار الإسلامي” على النحو الذي كان سائدا في عصر التراجع والجمود، ولقد حسبوه هو الإسلام وظنوا أنه ” الخيار الإسلامي ” الوحيد، ومنها ذلك “الاجتهاد الخاطئ” الذي اعتقد أصحابه أن استعارة “النموذج الغربي” هو السلاح لمواجهة الغرب ولاستخلاص الوطن والأمة من استعماره.

وهذا القطاع من العلمانيين المسلمين هو الذي نقول إن علاقة الحركات الإسلامية المعاصرة به يسودها “خلل” كبير وأكيد.

إن الأغلبية الساحقة من الحركات الإسلامية قد أسقطت هذا القطاع من العلمانيين من حساب “الإمكانيات” التي عليها أن تتعامل معها، وأن تجتذبها إلى صفوفها، أو على الأقل الانتقال بهم من صفوف “الأعداء” إلى صفوف “الأصدقاء – المتفهمين” أو “المحايدين”!.

لقد وقفت أغلب الحركات الإسلامية من هؤلاء العلمانيين القابضين على أغلب وسائل التأثير والتوجيه في الواقع الإسلامي موقف الجهل بدوافعهم إلى العلمانية والتجاهل للإضافات الهامة التي يمكن أن يضيفوها إلى المشروع الإسلامي إن هم فهموا حقيقته، فكان الانصراف عن الجهد المطلوب لاكتشاف نقاط الاتفاق وتنميتها محاصرة، وتقليصا لنقاط الخلاف مع هذا “الآخر العلماني”.

كذلك يسود هذا “الخلل” في علاقة “الذات – الفكرية” لدي الحركات الإسلامية. بـ “الذات الفكرية” للآخرين، فعلاقة الأغلبية الساحقة من الحركات الإسلامية بنظريات الآخرين ومناهجهم في البحث والتفكير يسودها خللُ الجهل أو التجاهل أو هما معا!.

الأمر الذي يقف بهذه الحركات عند إطار وحدود “النقيض” و”رد الفعل” للحركات العلمانية ونظرياتها ومناهجها على نحو يتسم بالعموم والإطلاق، تجهل ما يعلمون وتعلم ما يجهلون؛ الأمر الذي يكرس ويؤيد هذا الانقسام الذي فُرض على عقل الأمة وطاقاتها والذي يجعل بأسها شديدا بين أبنائها، وكما يهدد طاقاتها بالتبدد عندما يقف الفريقان عند وضع “شد الحبل” هذا دون غالب أو مغلوب؟!

والأمر الذي لا شك فيه هو وجوب خروج الحركات الإسلامية من “رد الفعل” للحركات العلمانية إلى وضع “البديل” الذي لا يقنع بالجهل والتجاهل لما لدي “الآخر”، وإنما يسعي جاهدا لامتلاك “الوعي” بما لدي الآخر، سواء منه ما يدخل في إطار “النافع” الذي يُستلهم أو “الضار” الذي يعين الإدراك له على فعالية التحصن من الوقوع في حبائله، وعلى جدوي النقد له، ولننقذ من آثاره الآخرين!.

كذلك تشهد علاقة الحركات الإسلامية بـ “الآخر” الخارج عن عضوية تنظيماتها خللا متفاوت الدرجات لدي هذه الحركات، فمنها المغالي الذي يري في جماعته كل جماعة المسلمين! ومنها المعتدل الذي يري جماعته جماعة من المسلمين لكنه ينظر بالتجاهل أو الإهمال إلى كل من هو خارج دائرة “التنظيم”؟.

3- الخلل في العلاقة بين “المحلية” وبين “العالمية” الإسلامية:

إن الكثير من “تصورات الفكر” لدي الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة قد خلطت بين وحدة الإسلام الدين، كوضع إلهي في العقيدة والشريعة لم ولن يعرف التعددية في الأصول والقواعد والمبادئ والأركان، خلطت بين هذا الإسلام الواحد وبين “تصورات الفكر الإسلامي” التي من الممكن بل ومن الواجب الطبيعي أن تعدد المكونات والمنطلقات التي تسهم مع الإسلام الواحد في صياغتها وتحديد معالمها.

فإلى جانب وحدة الإسلام التي تثمر وحدة الفكر الإسلامي في العقيدة وفي الشريعة، هناك “الفكر الإسلامي” الذي يدخل “الواقع الإسلامي” عاملا من عوامل إفرازه وتحديد معالمه، وهو الفكر الذي تتميز تصوراته بتميز الواقع في ديار الإسلام عبر الزمان والمكان.

لكن الخلل الذي أصاب ويصيب تصورات كثير من الحركات الإسلامية للعلاقة بين هذين المستويين من مستويات النسق الفكري الإسلامي قد جعلت وتجعل الكثير من هذه الحركات في “الفكر” تنحو نحو “تجريد نظري” يتصور تبعا لوحدة دين الإسلام عالمَ الإسلام وواقعَ ديارِه نسقًا واحدًا منسقًا لا يعرف الفوارق في مستويات التطور، ولا اختلاف الأعراف والعادات والمذاهب والتصورات.

أما في “الممارسة والتطبيق” فإن هذه الحركات تستغرق إلى حد الغرق في “المحلية” التي تجعلها منكفئة على واقعها المحلي دون سواه، حتى لتقف بأغلب اهتماماتها عند خصوصيات الإقليم الضيق الذي تعيش فيه إلى عالمنا المتشابك صورة “القبائل” التي لا ترى أبعد من عالم مضارب الخيام التي تعيش فيها!.

وإذا كانت الحركات الإسلامية – وهي كذلك – “طلائع أمة” وليست “طلائع طبقة”، وإذا كانت هذه الأمة تعيش في وطن يمتد من “غانه” إلى “فرغانه”؛ مشتملا على تمايزات في الواقع والمواريث ومستويات التطور والمصالح والاهتمامات والطموحات والمشكلات والأعراف والعادات وطرائق العيش وأسبابه بل والمناخات، إلخ، الخ؛ فمن الطبيعي أن تكون هناك أهمية لعلاقة تبرأ من الخلل، وتقيم بين ما هو “واحد” وما هو “متعدد” في النسق الفكري للإسلام والمسلمين.

وبذلك تتزامل “المحلية و”العالمية الملية الإسلامية” دونما خلل أو إهمال لأي منهما لحساب الآخر أو على حسابه، كما هو حادث الآن عند الكثير من هذه الحركات.

4- الخلل في علاقة “التاريخ” بـ”العصر”، وفي علاقة “الأموات” بـ “الأحياء”، وفي علاقة “الموروث” بـ “الإبداع”:

كثير من الحركات الإسلامية المعاصرة تسيطر على نظرتها إلى التطور التاريخي فكرة “التراجع التاريخي”، ونظرة التدني والهبوط لخط بيان التطور والتقدم عبر هذا التاريخ.

وبعض الباحثين يقف في تعليل هذه النظرة الخاطئة إلى خط سير التقدم عبر التاريخ لدي هذه الحركات عند التفسير الذي تقدمه هذه الحركات للحديث النبوي الشريف الذي قال فيه الرسول صلي الله عليه وسلم: “خير أمتى القرن (أى الجيل) الذي أنا فيه” [رواه مسلم وأبو داود والإمام أحمد].

ورغم صدق هذا التعليل إلا أن هذا السبب ليس الوحيد في تكوين نظرة هذه الحركات التي تؤمن بتراجع التقدم والخيرية عبر التاريخ، وبمرور قرونه، فمع خطأ هذه الحركات في تفسير معني هذا الحديث الشريف تقف وتتزامل أسبابٌ أخرى، منها: المقارنة التي تجريها هذه الحركات بين حال الأمة وبين حالها في عصر صدر الإسلام، وهي مقارنة توهم بصدق هذه النظرة التي تؤمن بتراجع الخيرية والتقدم بمرور الزمن وتقادم التاريخ.

وفي اعتقادي أن مراجعة هذه النظرة لكشف الأخطاء القائمة في أسبابها ومنطلقاتها هو الكفيل بتصحيح الخلل السائد في فكر الكثير من الحركات الإسلامية التي تعيش في الماضي دون الحاضر أو أكثر منه.

والتي تستفتي “الأموات” في كل شئون الأحياء مُهملةً التمييزَ في القضايا الفكرية بين “الثوابت” وبين “المتغيرات”، والتي تقدس “الموروث” على النحو الذي يقلل إلى حد الازدراء من شأن “الإبداع” بل والذي يخلط بين “البدعة في الدين” وبين الإبداع في “الحضارة”؛ فيرفضهما معا! إن هذه المراجعة ضرورية لتصحيح هذا الخلل الملحوظ والسائد لدي قطاعات كبيرة في كثير من هذه الحركات.

فبالنسبة لتدني المستوى الحضاري للأمة الإسلامية اليوم عن نظيره في عصر ازدهارها الحضاري، وهو أمر غير منكور؛ فإنه تدنٍّ قد نبع وارتبط بتخلف شروط النهضة والازدهار الحضاري، أى أنه عارض يزول بزوال أسباب التخلف وليس “قدَرًا تاريخيًّا” ولا “حتمية” من حتميات توالي القرون.

أما عن الحديث النبوي الذي يقطع بأن خير أجيال الأمة هو جيل الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذه الحقيقة التي تحدث عنها هذا الحديث، تحتاج إلى عرض وإلى تفسير قد يقضيان بنا إلى فهم آخر غير الذي فهمتْه منه هذه الحركاتُ المؤمنة بتراجع الخيرية والتقدم بمرور التاريخ.

وفي اعتقادي أن هذا الحديث النبوي يستأثر بالخيرية “المطلقة” لجيل الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما هو يتحدث عن خيرية “التأسيس لقواعد النموذج الإسلامي”، وهي خيرية للثوابت والقواعد لا تنفي خيرية الفروع والأبنية التي يُقيمها الخلف على هذه القواعد والأسس مع بقاء خيرية الأسس متميزة باعتبارها هي التي تمنح الفروع والأبنية التي يقيمها الخلف على هذه القواعد والأسس مع بقاء خيرية الأسس متميزةً باعتبارها هي التي تمنح الفروع والمستجدات الروحَ والصبغةَ التي ميزت الأسس، فكأنما خيرية الجديد وهي غير منفية مستمدة من خيرية الأساس!.

ويشهد لهذا التفسير الذي نقدمه لهذا الحديث النبوي ما نراه من شهادات أخري تُزكية وتدعمه عندما تقول إن النظرة “التقدمية ” لخط سير التقدم عبر التاريخ وليست النظرة “النزاجعية” هي المعبرة عن حقيقة موقف الإسلام في هذا المقام.

فنظرة الإسلام إلى خط سير التطور الإنساني منذ آدم إلى محمد، وعبر رسالات الرسل ونبوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، تؤكد النظرة المتقدمة والمتصاعدة لخط سير الخيرية والتقدم عبر التاريخ؛ فالإنسانية قد بلغت برسالة محمد صلي الله عليه وسلم سن الرشد بعد أن كانت خِرافًا ضالةً في فترات سبقت ذلك التاريخ.

وموقف الإسلام المتميز من أدلة “العقل” و”الكون” شاهد على هذا الارتقاء الإنساني بمرور التاريخ، بل إن ختم الرسالات السماوية برسالة المصطفي صلي الله عليه وسلم، والاعتماد في التجديد الديني وتطوير القانون الإسلامي على الاجتهاد الإنساني هو أصدق الأدلة على أن هذه النظرة هي النظرة الإسلامية الحقة في هذا الموضوع.

ثم إن الأبنية الحضارية التي تزهو بها أمة الإسلام وإن قامت على الأسس التي شهدها عصرُ البعثة إلا أنها قد جاءت تالية لجيل الرسول عليه الصلاة والسلام، فعلوم الدين والدنيا التي مثَّلت جماعَ إبداع الإنسان المسلم متأثرا بالوحي ومسترشدا بمنهج النبوة قد تبلورت جميعُها بعد عصر صدر الإسلام.

وكذلك الحال مع الفتوحات الإسلامية التي نهض بها المسلمون، ومع تحقيق وتجسيد عالمية الإسلام ودعوته بنشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، كل ذلك خير وخيرية ارتباطا بتقدم وبتوالي قرون التاريخ.

وأيضا أليس رسول الله – صلي الله عليه وسلم – هو القائل أيضا في معرض الحديث عن تلقي فكرة النبوة: “رب مبلغ أوعي من سامع”؟ [رواه البخاري ومسلم وابن ماجة والترمذي والدارمي والإمام أحمد، وهو حديث لا يحصر الخيرية في الصحابة والشهود].

وأخيرا، فمن الحركات الإسلامية من ينكر أن حال الصحوة الإسلامية اليوم خير منه في عقد الخمسينيات من هذا القرن العشرين؟. وأن وضعها منذ ثلاثنيات هذا القرن هو خير منه يوم عموم بلوى الاحتواء الاستعماري وسيادة العلمانية والتغريب حتى لدي الأحزاب التي تقدمت لمقاومة الاستعمار في الحقبة التي شهدت زوال رمز الخلافة سنة 1924م؟.

إذن، فالخيرية التي تحدث عنها الحديث النبوي هي خيرية الجيل المؤسس، خيرية القواعد والأسس والسوابق الدستورية وفضلها لا ينكر حتى على الجديد الذي يرفعه الخلف فوق ما صنع الجيل المؤسس من قواعد وأركان.

كما أن خيرية الجديد بل وتعاظمها لا تناقُض بينها وبين خيرية الأساس والمؤسسين، وإلا فمن الذي ينكر علو مقام الخير فيما أنجز عمر بن عبد العزيز من العدل الاجتماعي، وهو قد أنجزه بعد أن ساد الظلم والجور وعمت الأثرة علو مقام الخير في هذا الإنجاز على نظيره في عهد الراشد الثاني العادل عمر بن الخطاب، والذي كان عدله استمرارا لعدل النبي والصديق، وفي مناخ مواتٍ يُعين عليه الصحابة الأبرار؟.

إن التعارض غير قائم، وكل خير يقدر بقدره بصرف النظر عن الظرف التاريخي الذي أنجز فيه، ومن ثم فإن جهدا فكريا يجب أن يبذل من قبل الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة لتصحيح هذا الخلل السائد وهو الخلل الذي جعلها ويجعلها تعيش في “الماضي” مديرة ظهرها في أحيان كثيرة “للعصر” وتحكم “الأموات” في “الأحياء” وتميل بالكفة لحساب “الموروث” على حساب “الإبداع”!

5- الخلل في علاقة “الحركة” بـ”الفكر”:

الحركات الإسلامية المعاصرة هي في جملتها إنما تمثل فصائل الصورة المعاصرة لحركة وتيار ودعوة الأحياء واليقظة والتجديد التي عرفها الشرق الإسلامي منذ دعوة الإمام محمد عبد الوهاب (1115 – 1206هـ 1703 – 1792م) والتي خطَتْ خطواتٍ نوعيةً في (الوعي والتأثير والعموم والعقلانية) منذ تيار الجامعة الإسلامية الذي قاده الرائد جمال الدين الأفغاني (1254 -1314هـ 1838 -1987م).

ولذلك فلقد تراوحت وتفاوتت مواقف هذه الحركات من الفكر (المجدد) و”العقلانية – المجتهدة” فمال بعضها إلى نصوصية الوهابية وزادت لدي بعضها جرعةُ العقلانية على نحو مما كان عليه الأمر في تيار جمال الدين، ولقد لعبت البيئة، حضرا أو بادية والموروث المذهبي، طبيعة التحديات بعملها في تحديد موقع الحركة من “النصوصية” ومن “العقلانية” إلى حد كبير.

لكننا نلحظ – ضمن مظاهر ” الخلل ” الذي تعاني منه أغلبُ هذه الحركات المعاصرة – تزايدَ جمودِ النصوصيين وتدني جرعة العقلانية لدي العقلانيين، وخاصة في العقود الأخيرة من هذا القرن العشرين، وفي اعتقادي أن عوامل عديدة تقف أمام ميل ظاهر “الفكر العقلاني” إلى الذبول في هذه الحركات بوجه عام.

فالعقلانية قد تألفت في حركة الإحياء الإسلامي يوم أن كانت حركة “صفوة، ونخبة” على عهد جمال الدين الأفغاني، فلما استدعت ضرورات مواجهة التغريب والعلمانية والاستلاب الحضاري استنفارَ الجماهير والعامة لتنخرط في موكب الداعين إلى شمول الإسلام للدولة والواقع وسائر مناحي الحياة، وذلك منذ مرحلة الشيخ حسن البنا (1324 _ 1368هـ / 1906 _1949م) وجماعة الإخوان المسلمين هبطت هذه العقلانية في هذه الحركة للتناسب مع مستوى العامة والجماهير، كذلك كان في اشتداد خطر التغريب والاستلاب الحضاري، وفي تبني الأحزاب القومية للنموذج الحضاري الغربي تعاظما للخطر على الهوية الإسلامية استدعي من هذه الحركات الإسلامية أن تقدم سبل وسائل الجمع والتأليف على أسباب الجدل والافتراق فكان “الحلول الوسط” و”الصياغات الفضفاضة” التي يتجنب أصحابها عادة التفكير العقلاني الذي يثير بجرأته الكثير من المشكلات!

كما كان لتزايد التفسخ الاجتماعي والأخلاقي والتشوه المعرفي والتي حدثت بفعل هيمنة النموذج الغربي على قطاعات واسعة من مصادر ومراكز التوجيه الفكري والثقافي والتعليمي والإعلامي، كان لتزايد هذا التفسخ دور “الفعل” الذي جعل بعض هذه الحركات الإسلامية تنفر من كل ما له شبه أو صلة بالحضارة الغربية والتي تُعلي من مقام العقل إلى حد المغالاة فلم تميز هذه الحركات بين “العقلانية الإسلامية” التي وعت “النقل” بـ “العقل” كما حَكَمَتْ “العقل” بـ “النقل” في المواطن والعوالم التي لا تستقل بإدراكها العقول.

لم تميز بين هذه “العقلانية الإسلامية” وبين عقلانية الغرب المتحررة من ضوابط “النقل” الديني منذ جاهليتها اليونانية وحتى نهضتها الأوروبية في العصر الحديث، فكان أن نفرت إلى حد كبير من العقل والعقلانية بإطلاق وتعميم!.

ولقد انعكس هذا الموقف من العقل والعقلانية والذي تراوح بين الإهمال أو النفور أو العداء أو التحجيم، انعكس في صور كثيرة، يهمنا أن نشير هنا إلى انعكاسها في صورة تقلص مساحة “الفكر” إذا ما قيس بـ “الحركة” والنشاط العملي.. وصغر حجم الجهد المبذول في “الاجتهاد والتجديد” إذا ما قيس بحجم الجهد المبذول في ” الواعظ” ذات الأساليب الشعرية والخطابية، وتواري مؤسسات الفكر وأعلامه من كثير من هذه الحركات لحساب “الدعاة” و”الحركيين”.. بل وضيق الكثير من الأوعية التنظيمية للكثير من هذه الحركات بجرأة الفكر وريادات المفكرين المجددين حتى لقد رأينا في العقود الأخير أن كوكبة من المفكرية المجددين المجتهدين لم يستطيعوا أن تثبت أقدامهم في هذا الميدان فيثبتوا وجودهم فيه إلا بعد أن تخلصوا من “قيود” رقابة الأوعية التنظيمية لهذه الحركات؟!.

ولقد زاد من وضوح هذا الخلل وضاعف من تأثيراته عجز الكثير من هذه الحركات حتى الآن عن إقامة العلائق والخيوط التي تصنع وتقنن للتمايز بين “مؤسسات الفكر وأعلامه” وبين “تنظيمات الحركة وجهودها” على النحو الذي يتيح لأهل “الفكر” المناخ المهئ لجرأة التجديد والإبداع كما يتيح لأهل “الحركة” إمكانات الاستفادة الكاملة من ثمرات هذا التجديد والإبداع.

نعم، لقد وازنت بعض الحركات الإسلامية بين “الحركة” وبين “الفكر” فبرئت من هذا الخلل، لكنني أخشي أن يكون سبب نجاحها هذا هو تصادف أن زمام قيادتها قد كان بيد مفكر مبدع ومجدد أكثر من أن يكون السبب هو الاهتداء إلى القواعد المنظمة للعلاقة الصحية بين “الحركة” وأهلها وبين “الفكر” وصُناعه!. لذلك أراه خللا قائما يستدعي بذل الجهد لعلاجه، ولاقتلاع الآثار القاتلة التي يفرخها بقاؤه في هذه الحركات.

6- الخلل في علاقة “التربية الروحية” “بالتربية السياسية “لأغلب” كوادر هذه الحركات:

لأن هذه الحركات الإسلامية المعاصرة تؤمن بشمولية الإسلام لكل مناحي حياة الإنسان، في البدء .. والمسيرة .. والمصير.. ولأنها تدرك أن النهضة التي تتغياها إنما تحتاج إلى إعادة صياغة هذا الإنسان صياغة إسلامية تنقذه من التشوه المعرفي والسلووكي اللذين أصاباه تحت هيمنة التغريب.

كانت تلك السنة الحسنة التي استنتْها هذه الحركات عندما اهتمت بالتربية الروحية لهذا الإنسان .. فهذه التربية الروحية تصاغ الكتائب المعدة الإعداد المناسب لما أمام أصحابها من معارك ومشكلات وتحديات.

لكنني أعتقد أن قصورا وتقصيرا قد حدثا في “التربية السياسية” لأغلب “كوادر” هذه الحركات .. إما بدعوى تأجيل ذلك لحين الحاجة إليه يوم أن تكون الدولة والسلطة قاب قوسين أو أدني من قبضة هذه الحركات، وإما بسبب فقر هذه الحركات في الفكر، وقلة بضاعتها من صناعته وصناعه، وإما لانغلاق هذه الحركات عن الفكر السياسي ونظرياته وخبراته لدي العلمانية والعلمانيين وهو مزدهر وغني في هذا الميدان، وإما لهذه الأسباب مجتمعةً مع غيرها مما قد يكون أقل أهمية منها.

لكن ثمرة هذا الخلل في علاقة “التربية الروحية” بـ “التربية السياسية” قد ظهرت للعيان فقعدت بكثير من “كوادر” هذه الحركات عن بلوغ مؤهلات وإمكانات البراعة في السياسة وميادينها.

وإذا كان طراز “الساسة” و”السياسة” المجردين من قيم الدين وضوابطه الأخلافية هو مما لا يرضاه الإسلام، ولا يصح أن يوجد في الحركات الإسلامية، فإن صورة التدين الذي يُفقد صاحبه الكياسة والمهارة والحذق والدهاء هي الصورة غربية عن التدين المطلوب لكوادر الحركات الإسلامية؛ فالتدين الذي لا تُصاحبه تربيةٌ سياسية وحذق لنظرياتها ومعرفة بتياراتها ودروبها وفنونها قد يثمر غفلة إن ناسبت بعض طيبي القلب، فإنها لا تناسب الذين يتحملون مسئوليات مصائر الأمم في هذه الميادين، وقديما حبذت كل تيارات الفكر السنية إمامة وخلافة المفضول دينيا إذا كان أفضل في حذق شئون الدنيا، وأبرع في الإمكانات التي تعينه على أداء رسالة الخلافة والإمامة، وأقدر على مواجهة ما يفرضه عصره على أمته من تحديات، إن رهبان الليل في الحركات الإسلامية لابد وأن يكونوا بحق فرسان النهار وأن يكونوا الساسة المهرة أيضا!.

وإذا كان طراز السياسة الميكيافيلية كما عرفته وارتضته الحضارة الغربية، طراز أن السياسة هي فن الممكن في الواقع بصرف النظر عن الصلاح الديني والأخلاقيات الدينية إذا كان هذا الطراز مرفوضا إسلاميا، فإن تعريف الإمام ابن قيم الجوزية (691 -751 هـ 1350 م) للسياسة الإسلامية باعتبارها: “الأعمال التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد” .. هو تعريف يتطلب في الساسة أن يجمعوا إلى فقه الواقع، والدربة على فنون القيادة والخبرة بالتعامل مع التطورات والفرقاء الآخرين، أن يجمعوا إلى ذلك – بالتربية الروحية – أخلاقيات الإسلام.
والذين يدرسون حركة الإحياء الإسلامي كما تمثلت في مدرسة “الجامعة الإسلامية” وجمعية “العروة الوثقي” يرون كيف تخلَّق أعلامُها بخلق الإسلام، حتى لقد استعانوا بلون من أساليب الصوفية وقدر من مجاهداتهم في تهذيب النفوس.

والذين يتأملون الفكر السياسي في مقالات جريدة ” العروة الوثقي ” التي عبرت عن فكر هذا التيار يرون ذلك المستوى الراقي والعميق والحصيف في فهم السياسة والدراسة بمساكلها ومنعرجاتها ودروبها، محلية كانت تلك السياسة أم دولية في تلك الحقبة التي تعقدت فيها شئون تلك السياسة بتزايد مطامع المد الاستعماري الغربي، وتعدد أطرافه، وتنامي التناقضات والمصادمات والمؤامرات بين هذه الأطراف.

إنه نموذج يستحق الدراسة من الحركات الإسلامية المعاصرة؛ لتري وتحدد السبل الكافلة لصناعة رجل السياسة المسلم، ذلك الذي لا يكون التدين لديه مساويًا أو مفضيًا لطيبة الغفلة، ولا تكون السياسة لديه ميكيافيلية مجردة من أخلاقيات الإسلام، وحتى نتجاوز ذلك الانقسام البائس والشاذ الذي أشار إليه أبو العلاء المعرى عندما قال: اثنان أهل الأرض: ذو عقــلٍ بلا ديــن ** وآخر ديِّنٌ لا عقل لهْ

7- الخلل في علاقة “الطاعة” بـ”الحرية”:

إن الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة قد بالغت في ترويض أعضائها على طاعة القيادات أكثر مما دربتهم على محاسبة ونقد وتقويم هذه القيادات، وليس يكفي أن يقال إنها طاعة في غير معصية؛ ذلك أن الخلل في علاقة “الطاعة” بـ “الحرية” على النحو الذي لا ينمي في الأعضاء ملكات النقد والفحص وشجاعة الاعتراض عند توفر دواعيه، إن هذا النمط في تربية أعضاء هذه الحركات هو بالقطع معصية من معاصي التربية في هذه الحركات؛ لأنها تثمر – ولقد أثمرت – وحدانية الرأي، رأي المرشد والأمير والإمام، بل وأثمرت العديد من ألوان التفكك والقصور والتشرذم التي أصابت العديد من هذه الحركات عندما غاب المرشد فغاب عنها الرشد لافتقارها إلى قيادات مدربة وحكيمة وحصيفة في صفوفها التي تقف وراء المرشد والأمير والإمام، الصفوف الثانية والمتوسطة والقاعدية.

إن هذا الخلل الذي أصاب ويصيب الكثير من الحركات الإسلامية المعاصرة هو آفة شرقية قديمة، جعلت العامة تعلق كل الآمال، وتضع كل الأحمال على عاتق “القطب” و”الوتد” الذي يصبح هو المفكر الأوحد، والزعيم الملهم، والقائد الوحيد، وليس غير تراث الإسلام في الشوري وتراث المدرسة النبوية في تربية الرجال وصناعة القادة منبعا إسلاميا تستلهمه الحركات الإسلامية لعلاج هذا الخلل وللبُرء من هذا المرض الفتاك.

لقد كان المعصوم صلوات الله وسلامه عليه أكثر الناس مشاورة لأصحابه، وأول الناس التزاما بالشوري، بل إنه هو القائل لأبي بكر وعمر: “لو اجتمعتما في في مشور ما خالفتكما”! [رواه الإمام أحمد]، وهو الذي سن لأمته الشوري في كل شئون الدولة وولايتها حتى وإن كانت قيادتها بيد المعصوم، وذلك عندما قال: “لو كنت مُؤمِّرا أحدا دون مشورة المؤمنين لأمّرت ابن أم عبد”. (عبد الله بن مسعود) [رواه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد].

إن تراث الإسلام وتراث مدرسة النبوة في صناعة الرجال وتدريب القادة معين لا ينضب، وهو الكافل بمعالجة هذا الخلل القاتل والمتفشي في الحركات الإسلامية المعاصرة.

أمّا أنْ تظل هذه الحركاتُ تروض أعضاءها على “الطاعة” دون “الحرية” بدعوى أن بيعة هؤلاء الأعضاء للمرشد والأمير والإمام إنما تقتضي ذلك؛ انطلاقا من حديث الرسول صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه: “من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصي أميري فقد عصاني” [رواه مسلم]، أو من حديثه الذي يقول فيه: “من رأي من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية” [رواه مسلم].

أما أن تظل هذه الحركات تقتل في أعضائها ملكاتِ الحرية والنقد والإبداع والقيادة؛ استنادا إلى مثل هذه الأحاديث، فإنه هو الآخر لون من الخلل في تنزيل النصوص في غير منازلها، فالاستدلال بمثل هذه الأحاديث على طاعة أمراء الحركات الإسلامية أو أمراء الدول الإسلامية هو قسر للنصوص على أن تشهد فيما لم تنشأ للشهادة عليه وفيه.

فأمراء الرسول – صلي الله عليه وسلم – الذين طلب منهم هذه الطاعة كانوا هم أمراء الجند وقادة الحرب والقتال، وغير متصور عندما يحتدم القتال ويحمي وطيسه أن تخضع أوامر أمراء القتال للشورى والأخذ والرد وعد أصوات المطيعين والمعترضين؟.

هؤلاء هم الأمراء الذين ألحت الأحاديث على طاعتهم، حتى وإن رأينا منهم كجنود ما نكره، وتلك هي مواطن هذه الطاعة التي وجبت لهؤلاء الأمراء، أما أمراء قادة الدول والتنظيمات فإن سنة الإسلام وسنة نبيه في الشوري وتربية القيادات هي المنبع والأسوة لمن شاء الورود والاقتداء!.

إن هذا الخلل الذي يغلب “الطاعة” على “الحرية” قد غدا – في الحركات الإسلامية المعاصرة – السبيل إلى فقرها الشديد في القيادات المشاركة لأمرائها ومرشديها والمؤهلة لملء الفراغ الناشئ عن غيبة هؤلاء الأمراء والمرشدين، كما غدا السبيل الذي يدفع رافضيه والمتمردين عليه إلى الانشقاق على هذه الحركات، الأمر الذي أشاع ظاهرة الانقسام والتشرذم في كثير من هذه الحركات.

***

تلك بعض من أهم مظاهر “الخلل” في الحركات الإسلامية المعاصرة، أشرت إلى معالمها، ونبهت على آثارها؛ وفاء كما أسلفت لفريضة النصح والتناصح التي فرضها الله سبحانه وتعالي على المؤمنين فريضة (كفائية – اجتماعية) تبلغ في الأهمية والتأكيد المستوى الذي يعلو على فروض العين “العين – الفردية”.. ذلك أن تخلف “فرض العين” إنما يقع إثمُه على ذات الفرد دون سواه، أما تخلف “الفرض – الكفائي – الاجتماعي” فإن إثمه واقع على الأمة جمعاء، وهذه الفروض الكفائية إنما تتعين على أهل الاختصاص حتى تؤدى وتؤتي ما لها من ثمرات.

فإذا أسهمت هذه الصفحات في الوفاء بشيء من ذلك، وإذا أسهمت في ترشيد مستقبل الحركات الإسلامية المعاصرة ،ورفعت من كفاءة أدائها، كان ذلك فضلا نحمد الله علي التوفيق فيه.

لقد علَّمنا رسولُ الله – صلي الله عليه وسلم – أن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ولما كان خلاص هذه الأمة من التحديات التي تُمسك بخناقها – تخلفا موروثا كانت هذه التحديات أو استلابا حضاريا وافدا – إن خلاصها ونهضتها معلقة آماله على رشاد الحركات الإسلامية المعاصرة، وذلك حتى لا تصاب فصائلها بإحباط جديد كما حدث لسابقين سبقوهم على ذات الطريق.

من هذا المنطلق، ولهذه الغاية، وبهذه الروح كانت الإشارات التي قدمتها إلى هذه المظاهر لمواطن الخلل في عدد من هذه الحركات الإسلامية المعاصرة.

والله أسأل أن ينفع بهذا النصح، إنه سميع مجيب.


(*) كانت هذه الدراسة في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، ونشرت ضمن كتاب: “الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية” بتحرير وتقديم د. عبد الله النفيسي، ونعيد نشرها اليوم لأن الحاجة لها ما زالت قائمة.

والدكتور محمد عمارة، رحمه الله تعالى، مفكر إسلامي، ولد بمصر سنة 1931م.
– درس بالأزهر تسع سنوات حتى نهاية المرحلة الثانوية ثم في كلية دار العلوم جامعة القاهرة ومنها نال درجة الليسانس في اللغة العربية والعلوم الإسلامية.
– أنجز دراساته العليا بكلية دار العلوم في الفلسفة الإسلامية وكانت أطروحته للماجستير عن ” المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية”، أما موضوع الدكتوراه فكان عن ” الإسلام وفلسفة الحكم”.
– تفرغ للعمل الفكري؛ حيث قدم للمكتبة العربية الإسلامية أكثر من مئتين كتابا ما بين تأليف وتحقيق لتراثنا القديم منه والحديث، وتبرز في أعماله الفكرية اهتماماته بالفكر الإسلامي وتراث الاستنارة والعقلابية الإسلامية والتمايز الحضاري، وإلقاء الضوء على صفحات التاريخ التي تسهم في صياغة المشروع الحضاري العربي الإسلامي البديل والمنافس لمشروع التغريب.
– كما تتميز كتاباته بالنظرة النقدية لتراث حقبة التراجع والجمود في تاريخنا الحضاري، وبقراءة جديدة لأصولنا الفكرية في ضوء متغيرات العصر، وبمنطق العقلانية الإسلامية المتميزة.
– من أحدث كتبه (الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري)، و(الإسلام وحقوق الإنسان)، و(الغزو الفكري وهم؟ أم حقيقة؟)، و(الطرق إلى اليقظة الإسلامية)، و(الاستقلال الحضاري)، و(من معالم المنهج الإسلامي)، الذي يقدم فيه اجتهادا لصياغة منهج الإسلام البديل عن منهج التغريب.

– توفي في القاهرة، ودفن بمسقط رأسه في محافظة كفر الشيخ 29 فبراير 2020م.

اترك تعليق

  1. يقول AMR:

    جهد مشكور . بارك الله في من قام به ، وسعى لنشره . إنها نصيحة صادقة من الكاتب المخلص لدينه ولأمته . ما أحوج الأمة الإسلامية إلى مثل هذه الدراسات لتصحيح مسارها نحو تصحيح المفاهيم الخاطئة في الحياة الإسلامية ، وإعادة الوعي الإسلامي للأمة الإسلامية التي عانت من بعض المسلمين المخطئين أكثر مما عانته من أعدائها الظاهرين . نحن المسلمين بحاجة إلى فهم ديننا من امصدريه الصحيحين ، وفهم مقاصده وغاياته طبقا للعصر والزمن الذي نعيش فيه. وأخطر ما يعاني منه الإسلام هو الجهل بالدين والتفرق وقلة الوعي السياسي بالمخاطر التى تهدد الإسلام والمسلمين . اللهم فقه المسلمين في دينهم ، وألف بين قلوبهم .