بقلم: أ.د. جاسر عودة(*)
كل عام وأنتم بخير بمناسبة السنة الهجرية الجديدة ١٤٤٣، والتي أغتنمها مناسبة للدعوة إلى إبطال بدعة من بدع الاحتلال (الذي سمي زورًا استعمار) لبلاد العالم الإسلامي، وهي بدعة التقويم الشمسي. قال الله تعالى في محكم كتابه: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين – التوبة ٣٦).
المسلمون اليوم بين تقويمين:
ولكن هذه الآية – وما يتصل بها من آيات وبيان نبوي على صاحبه الصلاة والسلام – لابد أن نتخذها مفتاحًا للعودة إلى أصل التقويم الإسلامي الذي هو (عند الله) كما تقول الآية. لابد في سياق الحديث عن صحوة الأمة الإسلامية وعودتها إلى رشدها أن ندعو لتغيير بدعة التحول من التقويم القمري إلى التقويم الشمسي، والتي ابتدعها أهل الكتاب من ضمن ما ابتدعوا في تحريف دين الإسلام الذي جاء به الأنبياء كما أثبت علماء الملل والنحَل، ذلك لأن التقويم القمري هو التقويم السنني الطبيعي الأصلي الذي كان عليه الأنبياء في مواقيتهم صيامًا وحجًا حسب ما قضت الأحكام الشرعية في دين الإسلام الخالد، وهو الذي يتوافق مع السنة الإلهية التي تبينها هذه الآية الكريمة، وهو التقويم المعنيّ بـ (عِدة الشهور) المذكور في الآية وليس التقويم الشمسي ولا غيره من التقويمات النجمية والمناخية، والدليل أن الله تعالى قال بعدها (منها أربعة حرُم) إشارة للأشهر القمرية المعروفة.
والتقويم القمري كان ساريًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وبعدها – وإن بدأ عدّ السنوات بسنة الهجرة منذ عهد عمر رضي الله عنه، فقد ورد في حديث حجة الوداع حين خطب النبي وكان مما قال: (إن الزَّمانُ قَدِ اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ والأرْضَ، السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ، الذي بيْنَ جُمادى وشَعْبانَ)،[1] ويعبر عن نفس المعنى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب – يونس ٥)، مما يدل على أن علم عدد السنين والحساب من مقاصد خلق الله تعالى المنازل للقمر، والتقويم القمري هو الذي ارتبطت به كل الآيات والأحاديث التي تبين ما في الإسلام من أحكام ذات مواقيت،[2] كصوم رمضان وأداء الحج وحساب الزكاة وعدة الطلاق وهلم جرًا، والمواقيت من المقدرات الثابتة التي لا تتغير لأن المقصد منها هو التعبد المحض، أي الاتباع سمعًا وطاعة لله حتى لو تفكرنا في بعض الحكَم والمقاصد الأخرى، ويرتبط التقويم بالتأريخ للأحداث في الدائرة الأوسع من حياة المسلمين الفردية والجمعية على كل المستويات، فهو جزء من هوية الأمة وشخصيتها المتميزة.
أما التقويم الشمسي الذي يتبعه المسلمون تقليدًا لقوى الاحتلال القديمة فهو غير دقيق أصلًا وبه إشكالات في العدّ تحتاج إلى ”تقويم“ وتصحيح، وهو ليس تقويمًا مسيحيًا – ولو نسبوه لميلاد المسيح صلى الله عليه وسلم – بل هو تقويم روماني وثني شكلًا وموضوعًا، ولعل التنبيه على وثنية التقويم هو مقصد الإشارة إلى المشركين في نفس الآية، إضافة إلى عدم دقته العلمية وعدم ضبطه إلى يومنا هذا. فقد كان عدد أيام السنة في التقويم الروماني يقدر على ٣٦٦ يومًا وربع اليوم، ثم أراد البابا غريغوريوس الثالث عشر ضبطه فطرح يومًا ليصل إلى ٣٦٥ يومًا وربع، ولكن هذا التصحيح تطلّب زيادة يوم كل أربع سنوات في كل سنة ”كبيسة“ كما هو معروف، ولو أن هذه الزيادة اكتشفوا أنها غير مطردة فحذفوها في السنوات الدالة على القرون ولا تقبل القسمة على الرقم ٤٠٠، ثم عدّل الإنجليز إبّان عهد إمبراطوريتهم الاحتلالية السنة إلى ٣٦٥٫٢٤٢٢١٧ يومًا، ثم عدلته الهيئة الأمريكية للمعايير منذ عقود إلى ٣٦٥٫٢٤٢١٩٦ يومًا، ولكن وكالة الفضاء الأمريكية عادت به منذ سنوات إلى ٣٦٥٫٢٦ يومًا في حساباتها، ثم أقرت أخيرًا أكثر مراكز أبحاث الفلك هيمنة أن كل تلك التقويمات تقديرية، وأن الأخطاء التاريخية في التقويم قد راكمت بالفعل مئات الأيام الزائدة بالخطأ على التقويم الشمسي، وأن التغير والتمدد المستمر في الكون سيلاحق مصداقية الاعتماد على هذا التقويم الشمسي على أي حال مهما حاولت الهيئات المعنية تصحيحه.[3]
ثم إن سنة البدء في التقويم بميلاد المسيح عليه وعلى محمد الصلاة والسلام غير دقيقة كذلك، فقد تواترت الروايات التاريخية وروايات أهل الكتاب على معاصرة الملك هيرود للمسيح عليه السلام وأنه أراد قتله وهربت أمه عليها وعليه السلام به – مما قد يتعلق تاريخيًا بالآية الكريمة (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين – المؤمنون ٥٠) ويحتاج إلى بحث، بل إن هناك دعوى في إنجيل لوقا أن هيرود نفسه تولى محاكمة المسيح وهو شاب، وهذا كله على الرغم من أنه لا خلاف بين علماء التاريخ الروماني والمسيحي أن هيرود هذا قد مات في العام الرابع قبل الميلاد على حسب التقويم الميلادي الحالي، أي أنه مات قبل السنة التي يزعمونها سنة ميلاد المسيح عليه السلام أصلًا.
أسماء الشهور الميلادية:
ثم إن أسماء الشهور الميلادية فيها إشكالات عقدية ينبغي أن ينتبه لها المسلمون، فيناير اسم إله الأبواب عند الرومان بزعمهم، وفبراير معناه وقت القرابين للآلهة، ومارس إله الحرب، ومايو إلهة نمو النبات، ويونيو إلهة أخرى – بزعمهم، ويوليو على اسم يوليوس قيصر، وأغسطس هو اسم قيصر آخر، وهلم جرًا. صحيح أن معاني هذه الشهور غير معروفة أو متداولة في التعامل اليومي ولكنها كأصول لأسماء الشهور تصوغ الثقافة والوعي والهوية، وحري بأهل الإسلام أن يرفضوها.
الشاهد هنا أن التقويم السائد اليوم المسمى بالتقويم الميلادي الشمسي غير سليم عقديًا وعلميًا، وجدير بالذكر بالمناسبة أن التقويم القمري الصيني هو أيضًا تقويم يفتقر إلى الدقة نظرًا لأنهم يصرّون على بداية السنة في الشتاء، فيحرّفون العدّة الطبيعية بناء على تلك القاعدة عندهم، وبالتالي فالشهور القمرية عندهم ليست منضبطة وتارة تأتي السنة على اثني عشر شهرًا وتارة على ثلاثة عشر شهرًا في سنتهم الكبيسة، والتي تأتي سبع مرات في كل تسع عشرة سنة، مما يخالف عدّة الشهور في السنّة الإلهية الخالدة المذكورة في الآية الكريمة. وأما التقويم العبري القمري فقد نقلت بعض البلاد العربية من أسماء شهوره كشباط وآذار وأيلول إلى آخره، وهذه الأسماء منقولة من تقويم بابلي قديم وبعضها أيضًا أسماء لأوثان عبدها اليهود من دون الله كتموز، وكذلك أسماء الشهور القبطية المصرية – وهو تقويم شمسي – كانت جلّها أسماء لأصنام فرعونية قديمة.
أما إشكاليات التقويم العبري
الذي كان في أصله قمريًا – فخلاصتها أن اليهود بدّلوا سنّة الأنبياء في التقويم السنوي القمري واعتمدوا التقويم السنوي الشمسي، ولكنهم مع ذلك أمضوا الشهور داخل السنة على دورة القمر مما اضطرهم إلى التعويض بالكبس للسنين بطريقة قريبة من الطريقة الصينية التي ذكرناها آنفًا – أي سنة كبيسة تأتي سبع مرات في كل تسع عشرة سنة، ثم إنهم حرّموا شرعًا أن تقع أيام الأعياد يوم السبت – بزعمهم – فحرّفوا أيام التقويم نفسه من أجل تجنب ذلك، ناهيك عن أنهم بدأوا تقويمهم الشمسي الذي ابتدعوه بسنة ٣٧٦١ قبل الميلاد زاعمين أنها أول سنة في عمر الأرض نفسه، وهو ما لا يخفى خطله وتحريفه.
أما التقويم القمري الذي تشير إليه الآية كسنة إلهية مطردة منذ خلق الله تعالى السموات والأرض، فعدد أيام السنة فيه ٣٥٤٫٣٦٦٦٦٦٦٦ دون خلاف، وهو ما يعني العدّ التالي: سنتان في كل منهما ٣٥٤ يومًا ثم سنة كبيسة فيها ٣٥٥ يومًا، وهو تقويم أقرب للدقة من التقويم الميلادي، ذلك التقويم الذي سلخ المسلمين – منذ أيام الاحتلال للعالم الإسلامي ثم مرحلة ما بعد الاحتلال – عن تاريخهم وهويتهم ومناسباتهم كشهر رمضان، وأشهر الحج، والأشهر الحرُم، وعاشوراء، ونصف شعبان، والأيام التي يندب صومها شهريًا، وغيرها من المناسبات على التقويم القمري الهجري.
ومن آثار التقويم الميلادي سلبًا على الأحكام الشرعية إخراج بعض المسلمين الزكاة سنويًا بناء عليه لا بناء على التقويم الهجري كما هي السنّة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، وهذا معناه نقص في الزكاة المدفوعة بمقدار متوسط ثلاثة بالمائة تقريبًا بسبب فرق الأيام الأحد عشر بين التقويمين، فالسنة في الزكاة كما قضت السنّة النبوية تحسب شرعًا على التقويم القمري لا الشمسي، وهذا ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (لا زكاةَ في مالٍ حتّى يحولَ عليه الحَوْلُ)،[4] والطريقة الأحسن في إخراج الزكاة – إذا لم تجمعها السلطة المسلمة كما هو الأصل وأخرجها الفرد – أن يعيّن المزكِي كل عام هجري وقتًا محددًا – في أول رمضان مثلًا – يحسب عنده مقدار زكاته ويخرجها سنويًا.
الأصل في تسمية الشهور القمرية:
وأما تسمية الشهور القمرية فكان للعرب أسماء متباينة فاستقرت الأسماء منذ عصر الرسالة على صاحبها الصلاة والسلام على ما يتوافق مع شعائر الإسلام ومواسمه خاصة موسم تحريم القتال في الأشهر الحرم وموسم الصوم في رمضان وموسم الحج، وبعض الأسماء يشير إلى مواسم المناخ الطبيعي حرًا وبردًا، فالمحرم سمي بذلك لكونه شهراً محرماً، وذلك لتأكيد معنى الآية والحديث المذكورين ورفض ما كانت تفعله العرب من نسيء وقتال في هذا الشهر، ثم صفَر من صفُر المكان إذا خلا ليتوافق مع موسم الأسفار أو القتال بعد الشهر المحرم، وربيع الأول من الارتباع أي الإقامة بعد السفر، وربيع الآخر كالأول، وجمادى من جمود الماء ولعله كان في أول موسم لتسميته عند العرب قبل أن يدور الشهر مع تغيرات المناخ السنوية، وجمادى الآخر كالأول، ورجب من الترجيب أي التعظيم للشعائر ولأنه شهر حرام كذلك، وشعبان من التشعّب والانتشار قبل رمضان، ورمضان من الرمْض أي العطش مع الصيام، أو الحرّ ولعله كان في أول موسم لتسميته عند العرب قبل أن يدور الشهر مع تغيرات المناخ السنوية، وشوال من شالت الإبل إشارة إلى موسم التلاقح عندها، وكان للإبل ما لها من شأن عند العرب كما هو معلوم، وذو القعدة بفتح أو كسر القاف للقعود عن السفر والقتال لأنه من الأشهر الحرم، وذو الحجة لإقامة الحج فيه فسمّي على موسم الحج.[5]
متي بدأ التقويم الهجري:
وأما بداية التقويم بسنة الهجرة على صاحبها الصلاة والسلام وبشهر المحرّم كبداية للعام فلم يرد فيهما وحي، وإنما كانا حصيلة اجتهاد على عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتحديدًا في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وذلك بمشورة أهل الشورى في المدينة خاصة علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما اللذين أشارا على عمر بالبدء بالهجرة من مكة إلى المدينة، وكان التأريخ قبلها غير متفق عليه عند العرب ولو أنه كان غالبًا حسب ”عام الفيل“، وهي بالمناسبة نفس السنة ولد فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبدأت الفكرة برسالة من أبي موسى الأشعري إلى عمر وهو خليفة: أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرّخ بالمبعث – أي بنزول الوحي – وقال بعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا قال بعضهم ابدؤوا برمضان، فقال عمر: بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم. فاتفقوا عليه.[6]
ومن مقاصد الأشهر الحرم وقْف القتال بين الناس ولو كان لأسباب مشروعة ولو كانت هدنة مؤقتة بالأشهر الحرم، والهدنة حَريّة بأن تُفتح فيها فرص السلام وإقامة القسط بين المتحاربين دون مزيد من إراقة الدماء، وتقدم كذلك فرصة لمن أراد أن يقوم بأغراض سلمية في مناطق الحرب دون خوف من الوقوع على خط النار، ونرى في العلوم العسكرية المعاصرة وتطبيقاتها في الواقع كيف أن هدنات الحروب ولو لأيام معدودات تجنب البشرية شرًا كبيرًا وتنقذ حياة أعداد كبيرة من اللاجئين والمشردين والجرحى، وغير ذلك من المصالح التي هي من رحمة الله تعالى على الناس في هذا التشريع الذي اندرس العمل به عند المسلمين قبل غيرهم للأسف.
ثم إن تتابع الأشهر الحرم الثلاثة – ذو القعدة وذو الحجة والمحرم – يقصد إلى تطويل مدة تلك الهدنة وبالتالي يمنح السلام بين المتحاربين فرصة طويلة، ثم يأتي شهر بعد خمسة أشهر ليمنح فرصة أخري ويقطع المدة بين شهري المحرم وذي القعدة من السنة الجديدة بالشهر الحرام الرابع وهو رجب، وهو ما يتسق مع المقصد العام في الإسلام بالجنوح إلى السلام.
ولكن تشريع الأشهر الحرم لا يعني عدم رد اعتداء المعتدين، فقد مر قول تعالى في الآيات الأخرى ذات الصلة: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم – البقرة ١٩١-١٩٣)، فالحكم الأصلي هو تحريم القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام، ولكن إذا بدأ المعتدون الظالمون بالقتال واعتدوا على المؤمنين سواء في الأشهر الحرم أو في المسجد الحرام فردّ الاعتداء مشروع لأن عدم الرد يكون فتنة في الدين وهي أشد وأكثر إفسادًا في الأرض من القتل.
ومن القتال المحرم في الأشهر الحرم – من باب أولَى – القتل المدني، وبالتالي تزداد العقوبة تغليظًا في هذا الشهر، ولذلك فقد ورد عن الصحابة في عصر الخلافة زيادة الدية في الأشهر الحرم، كالذي روي عن ابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنْهُما أنَّهُ قالَ يُزادُ في ديةِ القتيلِ في الأشهرِ الحُرُمِ أربعةَ آلافٍ والمقتولُ في مكةَ يُزادُ في دِيَتِهِ أربعةَ آلافٍ قيمةُ ديةِ الحرمِ عشرِينَ ألفًا،[7] على ما في أحكام الدية من تفصيل كما يأتي في الآية (فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم – البقرة ١٧٨)، وكذلك (فدية مسلّمة إلى أهله – النساء ٩٢).
أما النسيء المذكور في الآية التالية: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين – التوبة ٣٧)، فكما قام اليهود بإنساء – أي تأجيل – أيام أعيادهم من مواعيدها الطبيعية حتى لا تقع في أيام سبت بزعمهم، فقد قام العرب في الجاهلية بتغيير الشهور كي يستحلّوا الأشهر الحرم، وقد دعا الجاهليون المعاصرون إلى نسيء من نوع مختلف، فرأينا بعض حكام العرب منذ عقود يدعو لنقل رمضان إلى أشهر العطلات عن العمل والدراسة حتى لا يتعطل الإنتاج، وتمسحوا في المقاصد الشرعية، وأن مصلحة الوطن مصلحة شرعية إلى آخر تلك الترهات، وقد تصدى لهم والحمد لله علماء الإسلام كالإمام المقاصدي محمد الطاهر بن عاشور وغيره.
ومن مقاصد قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الزَّمانُ قَدِ اسْتَدار) الحديث الذي ذكر مع الآية السابقة كما هو في رواية حبان وغيره، ثم بيانه صلى الله عليه وسلم للشهر واليوم على وجه التحديد، أن تتأكد للأمة دقة حساب شهر ذي الحجة واليوم العاشر منه الذي كانت فيه خطبة حجة الوداع على التقويم القمري، وأنه لم يكن في ذلك خطأ أو نسيء، وبالتالي تتأكد للأمة صحة الرجوع إلى التقويم الهجري من حيث الشهور والأيام: (قال صلى الله عليه وسلم: أيُّ شهرٍ هذا؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلمُ قال: فسكَت حتّى ظنَنّا أنَّه سيُسمِّيه بغيرِ اسمِه قال: أليس ذا الحجة؟ قُلْنا: بلى قال: فأيُّ بلدٍ هذا؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلمُ قال: فسكَت حتّى ظنَنّا أنَّه سيُسمِّيه بغيرِ اسمِه قال: أليس البلدَ الحرامَ؟ قُلْنا: بلى قال: فأيُّ يومٍ هذا؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلمُ قال: فسكَت حتّى ظنَنّا أنَّه سيُسمِّيه بغيرِ اسمِه قال: أليس يومَ النَّحرِ؟ قُلْنا: بلى قال: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا).
فهذه إذن دعوة في هذه المناسبة المباركة أن تكون العودة إلى شرع الله تعالى في التقويم من ضمن ما ننوي – كأمة الإسلام – أن نعود إليه حين تدول الدول وتدور الأيام وتعلو كلمة الحق، وما ذلك على الله ببعيد.
…………..
الهوامش:
[1] رواية ابن عباس: ابن العربي (ت ٥٤٣)، أحكام القرآن ٢/٥٠٣ • صحيح، ومثلها رواية أبي بكرة نفيع بن الحارث في صحيح البخاري ٣١٩٧.
[2] راجع كأمثلة: البقرة ١٨٥، ١٩٧، ٢٠٣، ٢١٧، المائدة ٢، يونس ٥.
[3] راجع: cfa.harvard.edu
[4] عن علي بن أبي طالب – العراقي (ت ٨٠٦)، تخريج الإحياء ١/٢٨٢ • إسناده جيد، وعن عائشة أم المؤمنين – ابن ماجه ١٤٦١ • صحيح، وعن أم سعد الأنصارية – السيوطي (ت ٩١١)، الجامع الصغير ٧٦٠٦ • حسن.
[5] راجع: تفسير مثلًا ابن كثير للآية.
[6] فتح الباري – ابن حجر: ٧/٢٠٩: أخرجه أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه والحاكم من طريق الشعبي.
[7] ابن الملقن (ت: ٧٥٠)، شرح البخاري لابن الملقن ٣٢/٣٤٩ – إسناده جيد.
_________________________________
(*) أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس معهد المقاصد.