القلة الرائدة صفاتها وسنن الله فيها في القرآن الكريم (4-4)

بقلم أ.د. رمضان خميس الغريب(*)

وعي القلة المحمودة بالسنن الجارية في الحياة والأحياء

 ومن أهم صفات القلة المحمودة والتي تظهر السننية في هذا الجانب أنهم على وعي ملحوظ بسنن الله (تعالى) في الحياة والأحياء، يظهر ذلك في الجيل القرآني الفريد الذي رباه الرسول – صلى الله عليه وسلم- ، كما يظهر في كل قلة تمنح النصر، والمتأمل للقلة مع طالوت يلحظ ذلك في غير موضع، في وعيهم بالدعاء، ومدى جلبه للنصر بعد الأخذ بالأسباب، وفي ترتيب الدعاء، كما مر، وفي اختيار الألفاظ ودقتها، وفي قولهم:(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)، فإدراكهم لما مضى على الخلق من نصر القلة العاملة على الكثرة النائمة، وذلك من خلال التعبير (بكم) التي تفيد التكثير، وقولهم (والله مع الصابرين)، وهذه سنة من سنن الله تعالى. يقول أبو حيان في البحر: (إنا لا نكترث بجالوت وَجُنُودِهِ وَإِنْ كَثُرُوا، فَإِنَّ الْكَثْرَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلِانْتِصَارِ، فَكَثِيرًا مَا انْتَصَرَ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ وَلَمَّا كَانَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ الْمَاضِيَةِ. وَعَلِمُوا بِذَلِكَ، أُخْبِرُوا بِصِيغَةِ: كَمْ، الْمُقْتَضِيَةُ للتكثير)([1])، وذلك هو عين إدراك السنن الربانية، والإفادة منها.

كما أن المتأمل لدعائهم يلحظ فيه بوضوح هذا الوعي الراقي، فهم سألوا الله –تعالى- بلفظ الربوبية، وهي مدار العطاء والرعاية والتربية والعناية، ولم يسألوه بالألوهية التي هي مدار التكليف، كما أنهم قالوا: ( أفرغ ) الذي يدل على الشمول والعموم والاستيعاب، كما أنهم ربطوه بلفظ: (على) الذي يدل على العلو وفيه من التمكن ما فيه، وتلك طبيعة القلة الواعية للسنن في كل زمان ومكان، والناظر في أدعية النبي (صلى الله عليه وسلم) والقلة المؤمنة معه يلمح هذا بوضوح، ويلمح مدى الترابط البديع بين صفات القلة على ترابط الزمن وتباعد الأمصار، ففي ندائِهِم بقولهم: «رَبَّنَا» ( اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط «الرَّبَّ» يُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأَتوا بلفظِ «عَلَى» في قولهم «أَفْرغ عَلَيْنَا» طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم، وشاملاً لهم كالظرفِ. ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم: ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا: {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران: 147] {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147]، وكذلك كان – عليه الصَّلاة والسَّلام- يفعل في المواطن.)([2])

 كما تلمح وعيهم بالسنن كذلك في طلبهم للصبر، وثبات الأقدام، وتوقع النصر بهذا التدرج، وتلك هي مطالب الفئة المؤمنة للنصر على العدو وخلاصتها في ثلاثة أمور:( الأول: الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}.

الثاني: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت، ولا يصير ملجأ إلى الفرار.

الثالث: زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره، وهو المراد من قولهم «وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ».)([3])

وهذا هو ترتيب العقل والواقع، بما يشعر بأنهم واعون واعبون لسنن الله – تعالى- في الحياة والحياء، ( وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ بَعْضُهَا مُرَتَّبٌ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ الْأَسْبَابِ الْغَالِبَةِ، فَالصَّبْرُ سَبَبٌ لِلثَّبَاتِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، وَأَجْدَرُ النَّاسِ بِالصَّبْرِ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْغَالِبِ عَلَى أَمْرِهِ،)([4])

عدم احتفالهم بالمال والمنصب والجاه والسلطان

 ومن الصفات الملاحظة في القلة، عدم احتفالهم بالمال فلا يشغل بالهم، وعدم تهيبهم بالسلطان، فلا يهز يقينهم، وعدم عنايتهم بالمنصب والوجاهة، فالنفوس الكبيرة لا تكثر في أعينها الأشياء مهما تكاثرت، ولا تشغلها لعاعات الدنيا مهما أبرقت، ف(صانع الحياة يدوس الألقاب برجله ويحطمها، ويمضي يصنع الحياة من موطن التخصص والفن والإبداع. هو مليء النفس ولا يحتاج أحداً لملئها. الذي يُطالب بالمسؤوليات والألقاب الدعوية والنقابة والإمارة على المؤمنين إنما هو العاجز الذي لا يُحسنُ علماً ولا تخصصاً ولا فنّاً، فيطلب التعويض بإنعام الألقاب عليه، ويعارك، ويختلف ، ويناضل دون مكتسباته السابقة، و يملأ الكواليسَ همساً وسعياً، وأما المقتدر فيتقدم تقدم الواثق)([5])

وداود – عليه السلام- رمز من رموز القلة التي أثرت الحياة وأنقذت بني إسرائيل من ويلات جالوت، والصفات التي بدا بها تؤكد هذه الصفة لدى تلك القلة المؤثرة في تاريخ الحياة، بدا ذلك في ثيابه التي لقي بها جالوت، وفي سلاحه الذي قتله به، وفي عدم احتفاله بوجاهته ومنصبه، وجنده وحاشيته، حتى أغاظ ذلك جالوت وكسر نفسه كسرا وهزمه هزيمة وقتله أولا روحا ونفساً قبل أن يقتله بنياناً وجسداً، (كَانَ غُلَامًا يَرْعَى الْغَنَمَ، وَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَلْبَسَ دِرْعًا وَلَا أَنْ يَحْمِلَ سِلَاحًا، بَلْ حَمَلَ مِقْلَاعَهُ وَحِجَارَتَهُ، فَسَخِرَ مِنْهُ جَالُوتُ، وَاحْتَمَى عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا كَلْبٌ فَتَخْرُجُ إِلَيَّ بِالْمِقْلَاعِ؟ فَرَمَاهُ دَاوُدُ بِمِقْلَاعِهِ فَأَصَابَ الْحَجَرُ رَأْسَهُ فَصَرَعَهُ فَدَنَا مِنْهُ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ فَأَلْقَاهُ إِلَى طَالُوتَ فَعُرِفَ دَاوُدُ، وَكَانَ لَهُ الشَّأْنُ الَّذِي وَرِثَ بِهِ مُلْكَ إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)([6]).

(شاء الله أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف، ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه إبنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود)([7])

إن قيمة المرء في نفسه، ومكانته هو الذي يصنعها، بعيدا عن زخرف الدنيا، وشارات الحياة، وواقع الناس ينبئ بذلك إنباءً، فأحرص الناس على وجاهتهم وتقدمهم هم أكثر الناس فراغا، فالممتلئ من داخله ليس في حاجة إلى من ينعم عليه بشارة أو عبارة، ولعل هذا من حِكَم الله – تعالى- في: (إلا من اغترف غرفة بيده)؛ رمزاً للتقلل مما يثقل البدن، ويُعتِم النفس، فالذي يتخفف من حاجاته الأساسية يكون على ترك غيرها أقدر، والميدان ميدان قتال ودماء، وبذل وأشلاء، والذي لا يصبر على ترك الماء لا يصبر على ملاقاة الأعداء، ومقارعة الأبطال، أما الذي يكرع حتى يمتلئ، ويعب حتى يتورم فلا يقوى على مقاومة نفسه، ومن لا يقوى على مقاومة نفسه لا يقوى على مقارعة غيره، (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ اغْتَرَفَ مِنْهُ بِيَدِهِ رَوِيَ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يُرْوَ.)([8])


(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعتي الأزهر الشريف وقطر.

الهوامش:

[1] – البحر المحيط في التفسير: (2/ 591).

[2] – اللباب في علوم الكتاب: (4/ 289).

[3] – اللباب في علوم الكتاب: (4/ 289).

[4] – تفسير المنار :(2/ 389).

 [5]- صناعة الحياة , للراشد: 64.

[6] – تفسير المنار: (2/ 389).

[7] – في ظلال القرآن: (1/ 269).

[8] – تفسير ابن كثير : (1/ 509).

اترك رداً على جزاكم الله خيرا على هذا العلم الذي أفادنا الغاء التعليق

  1. يقول جزاكم الله خيرا على هذا العلم الذي أفادنا:

    جزاكم الله خيرا