قصائد الملاعب .. حديث القوة الناعمة والقوة الصلبة

بقلم مراد فياض(*)

من الإشكاليات أن يتكلّفَ الإنسانُ العيش خارج زمانه، ويحاول عبثًا أن يترفع عن مجالات زمانه الثقافية.
نعم لابد للأمةِ أن تخوض حالة مقاومة ثقافية للهيمنة الحضارية الغربية المادية الحاصلة في زماننا، لكن ذلك لا يلزم منه مقاومة لكلّ أدواتِ ومجالات التأثير الثقافي في ذاتها، بل حالة المقاومة نفسُها قد يلزم منها استعمال تلك الأدوات والمجالات.

حين قام الإسلام بإسقاط الجاهلية ومفاصلتِها عقائديًّا وحضاريًّا، لم يلزم من ذلك مفاصلة أدوات ومجالات التأثير الثقافي السائدة ما لم تكن محرمة في ذاتها.

قد كان الشعر العربي عريش الثقافة في الحقبة الجاهلية، وقد أنكر القرآن على الشعراء بنص صريح، مع استثناء في آخر الآية للذين آمنوا وعملوا الصالحات. إلا أن هذا الاستثناء للصّالح من الشعر كان في مجال التطبيق والعمل تحت ظلّ الإسلام أوسع بكثير من مجال المنكر من الشعر، و ظلّ الشعر فاعلًا ثقافيًّا أساسيًّا في رحاب الإسلام بشكل معلوم لا يحتاج كثير تفصيل ولا تأصيل. فلم يكن الاكتفاء بكونه مباحًا من منطلق حلاله حلال فقط، بل تبنَّى المجتمع الإسلامي الجديد منذ العهد النبوي وما تبعه هذا العريش الثقافي ووظّفه لخدمة العقيدة الجديدة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وحتى عسكريًّا، كما كان يستخدمُ سابقًا من قبل الجاهلية. بل الأكثر من ذلك صارُ الشعر من أهمّ أدوات حفظ وخدمة العلوم الشرعية من خلال ما بات يعرف بالمتون. قد ننظر لهذا الأمر بشيء من البديهية اليوم لتعوّدنا عليه، لكن من منظور سيسيولوجي من الخارج، تفاعل الإسلام وتوظيفه لهذا الفضاء الثقافي الذي كان قمّة خصائص الحقبة الجاهلية،  مسلكٌ يستوجب التّوقف عنده، ونموذج لطريقة تعاطي هذا الدين مع ما تعارف عليه البشر من ديناميكيات ثقافية واجتماعية.

ولذلك نقول من الإشكال ألا يُميّزَ المرء بين الجاهلية الحديثة اليوم وبين فضاءاتِها الثقافية المرتبطة بالزمان، بحيث إنه لا يفرق بين مقاومة هذه الجاهلية المهيمنة و عدم الانهزام لها من ناحية (وهو أمر يجب فعلا التّوعية به و التحريض عليه بقوة)، وبين التفاعل مع الفضاءات والأدوات الثقافية المعاصرة المحركة للجموع البشرية من ناحية أخرى.

فالفن والإعلام والرياضة والاقتصاد والتقنية في هذا الزمان ليست قضايا يكفي فيها توضيح ما هو الحلال من ممارساتها وما هو الحرام، بل هي أدوات تشكيل ثقافي وهُوِيَّاتي مركزية تُقَوْلب الأفراد والمجتمعات، لابد من امتلاكها في معركة التدافع العقائدي والحضاري القائمة. والنظر إلى أيٍّ منها على أنه ترفٌ زائد من قبل من يَحملُ همّ التدافع العقائدي، يجعله صاحب الهمّ هذا ‘كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح!.

لا يمكن إنكار أن التفاعل مع هذه الفضاءات والأدوات في ظل هيمنة الجاهلية الحديثة يحمل في ذاته من الأخطار ما الله به عليم، فخطر التّهجين للمصلحين باستدراجهم لدوامةِ هذه الفضاءات، ثم تذويبهم فيها بدل امتلاكهم لها، واقع حدث ويحدث، شاهدناه في ميادين سياسية، واقتصادية، وفنية، وإعلامية، مختلفة. كما شاهدنا في المقابل حالات نجاح استطاعت أن تصارع تلك الأدوات وأن تمتلكها، وتوظفها بنجاحات نسبيةٍ مُعتبرة يُبنى عليها خير كثير، ولذلك فالأصل حسن الإعداد لمسار التفاعل والامتلاك هذا.

 لكن المستفاد من الحالتين أن الزهد في هذه الفضاءات باعتبارها ملكًا خالصًا للحداثة الغربية اللادينية المادية المهيمنة بسبب أنها منشئة لها أو ارتبطت بها، يجرد من يريد مقارعة تلك المادية من إمكانية الحضورِ أصلًا في سباق الوصول إلى عقول، و أفئدة العالمين.
القول بضرورة خوض هذا المعترك كجزء من حالة التدافع الكبرى ليس فيه مبالغة نتجاوز فيها، فمن يعرف لعبة ‘صدام الحضارات’ القائمة يعلم الجولات التي خاضتها الأمم الكبرى المتنافسة في هذا الميدان.
فقد كان عقد الثمانينات من القرن الماضي شاهدًا على حلقات مهمة من تلك الجولات متعلقة بالألعاب الأولمبية، تمثلت في مقاطعة متبادلة بين قطبي الحرب الباردة آنذاك.

 ففي استضافة عاصمة الاتحاد السوفييتي موسكو للأولمبيات عام 1980 قامت دول المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة بمقاطعة البطولة، بذريعة الاحتجاج على غزو موسكو لأفغانستان. تبع ذلك بعد أربع سنوات مقاطعة دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي للأولمبيات المقامة في 1984 بمدينة لوس أنجلس الأمريكية كرد بالمثل. هذا بالإضافة إلى المنافسة الدورية في باقي نسخ الأولمبيات في تلك الحقبة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي للحصول على أكبر عدد من الميدليات كنوع من إظهار التفوق الثقافي بين المشروعين الثقافيين المتنافسين وقتها.

تلك المنافسة الأولمبية ظهرت ملامح منها مجددا بعد صعود الصين كمنافس اقتصادي وجيوسياسي للولايات المتحدة، خصوصا في النسخة التي استضافاتها العاصمة الصينية بيكين عام 2008 ، حيث كانت الصين حريصة على ألا تسمح لأمريكا بالتفوق عليها في أرضها في عدد الميدليات الأولمبية. ومن تابع تلك البطولة يعلم كم كانت المنافسة جديّة وعلى أشدّها لدرجة أن وسائل الإعلام ذلك العام اختلفت (بناء على تحيّزاتها) في كيفية احتساب الدولة صاحبة الترتيب الأول هل يكون وفق العدد الكلي للميدليات الأولمبية جملةً، أم وفق عدد الميدليات الذهبية تحديدا.

وكلنا شاهدنا هذا العام في أوج حالة الهيجان، والصراع السياسي الذي عاشته أوروبا بعد غزو روسيا لأوكرانيا، كيف امتدَّ ردُّ الفعل ضد روسيا لتتجاوز السياسي والعسكري، وتنهال بقوة في ميادين الثقافة المختلفة لتثمر منع روسيا من المشاركة في المحافل الرياضية بما فيها كأس العالم 2022، بل وصلت في ذروتها لمستوى محموم، سعى إلى استئصال كل ما يرمز لروسيا ثقافيا ولو كانت روايات القرن التاسع عشر الكلاسيكية!

وبالإشارة إلى كأس العالم، فقد كانت الحملات الأوروبية الإعلامية مؤخرًا ضد استضافة قطر لكأس العالم تمظهرًا آخرَ لمركزيةِ الأدوات الثقافية الحديثة كالرياضة في ميدان التّدافع العقائدي. فإصرار قطر على عدم الانصياع بشكل كليٍّ لمظاهر الثقافة المادية الغربية خلال استضافتها للبطولة، وتمسكها بقضية توظيف الحدث لإبراز والتعريف بالهوية العربية الإسلامية، اعتُبرَ ضمنيًّا تحدّيًا وتطاولًا غير مقبول من طرف دولة صغيرة من أمة مستضعفة في نظر قوى الاستكبار الثقافي المهيمنة. خصوصًا وأنّ هذا الطرح الهوياتي صاحبَه بُعدٌ عقدي وأخلاقي ولم يكن مجرد طرح تراثي فولكلوري كما تحبّ أن يكون قوى الاستكبار الثقافي هذه. وبلغت العنجهية في هذا الاستكبار، على سبيل المثال، أن القنوات الرسمية الناقلة لكأس العالم في بريطانيا شبكتي BBC و ITV تعمّدتا عدم نقل حفل الافتتاح، وهما من كان يحتفي طوال عقود في النّسخ السابقة بتسخير ساعات مطولة لتغطية تلك الافتتاحيات قبل وخلال وبعد كل افتتاح.

والمتتبع يلحظ كيف نجح الإعلام الغربي في خلق حالة شعبويّة لدى النخب والدهماء في بلدانهم ضد هذه النسخة من كأس العالم رغم ما قد يلحق وسائل الإعلام من خسائر مالية بسبب هذا التحريض، ممّا يوضح كما ذكرنا مركزية هذه الفضاءات والأدوات في معارك التدافع الهوياتي والعقائدي.

القوة الناعمة قطعا لا تغني عن القوة الصلبة لدى الأمم والعقائد المتنافسة، لكن القوة الصلبة كذلك لا تصل إلى الآفاق التي تصل إليها القوة الناعمة، لا من حيث المدى ولا من حيث تشكيل العقول وتغيير القلوب.

 ويبقى فهم وامتلاك متطلبات معارك القوة الناعمة واجبًا لا يقل عن واجب صناعة وحيازة أسلحة معارك القوة الصلبة، في ظل تدافع الأطروحات الحضارية، بالأمس واليوم والغد.


(*) باحث بالدراسات العليا في دراسات السلام والنزاع.

اترك رداً على حكيم ناصف الغاء التعليق

  1. يقول محمد فياض:

    راىع العادة في اختيار الموضوع أو الطرح
    لك تحياتي ،، وتمنياتي لك بدوام التوفيق.

  2. يقول محمد عبدالعزيز:

    عمق ومنطق جميل يبتعد عن التقليد الي التفاعل والحظور وفهم دور كل الادوات بشكلها الصحيح

  3. يقول حكيم ناصف:

    فتح الله لك يامراد
    وجهة نظر متبصرة وكتابة رائعة

  4. يقول Ahmed Elghol:

    ابدعت يا مراد
    سرد جميل وأوصل الفكرة

  5. يقول Alba:

    You’re in point of fact a excellent webmaster.
    The site loading pace is amazing. It kind of feels that you’re doing any unique trick.

    Also, the contents are masterwork. you have done a fantastic activity on this matter!
    Similar here: najtańszy sklep and also here: Zakupy online