كلمة العلامة الدَّدَوْ حول المعلوم من الدين بالضرورة في القضية الفلسطينية

فضيلة الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو(*)

الحمد لله ربّ العالمين، وأصلِّي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن المعلوم من الدين بالضرورة عند أهل الأصول والفقه هو: ما يعلمه المسلم من دين الله بديهةً من غير حاجة إلى نظر وتأمُّلٍ كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان، وحجّ البيت.. إلخ وكحرمة الربا والظلم والعقوق والخمر.. إلخ وهو يختلف باختلاف أحوال الناس، فالمعلوممن الدّين ضرورة بالنسبة لمن كان حديثَ عهد بالإسلام يختلف عن المعلوم بالضرورة لمن وُلِد مسلما، وعاش بين المسلمين، وكذا من نشأ في بيئة ينتشر فيها العلم بشرع الله والوعي بدينه يختلف عمّن نشأ في بيئة يعُمُّها الجهل والفساد.

ومعروف عند الفقهاء أن إنكار ما عُلِم من الدّين بالضرورة كُفرٌ مخرِجٌ للإنسان من الدّين ، لما فيه من انتهاك الحرمة وتكذيب الله ورسوله، كما قال السيوطيّ في الكوكب الساطع:

جاحدُ مُجمَع عليه عُلِما *** ضرورةً في الدّين ليس مسلِما

وإنّ مرادَنا في هذا الحديث بـ”المعلوم من الدّين بالضرورة في الفضيّة الفلسطينية” الحقائق الدينيّة الثابتة بالوحيِ، والمعطيات التاريخيّة التي شهدت لها نصوص الدين القطعية ممّا لا يقبل الطعنَ والتشكيك، ولا يجادلُ فيه إلّا جاهلٌ لا قولَ له، أو مكابرٌ لا عبرةَ برأيه.

فسنذكرُ جملة من هذه الحقائق المعلومة بالضرورة في القضية الفلسطينية:

فمن المعلوم من دين الله بالضرورة في قضيّة فلسطين: أن الظلم حرام، وأنه لا يقبل بأي وجه من الوجوه، حرمه الله على نفسه وجعله محرماً بين عباده فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: 40]، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]، وقال: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، وجعله محرماً بين عباده كما في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربّه عزّ وجلّ:

“يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”.  وقال الله عز وجل: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}.

ومعنى الظلم وضع الشيء في غير موضعه وأخذُه من غير وجه حقٍّ؛ وهو من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي، وفي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضِرارَ، من ضَارَّ ضَرَّ اللهُ به ومن شاقَّ شقَّ اللهُ عليه”.

   ولا ريبَ أن احتلالَ فلسطين وكلَّ ما نشأ عنه ظلم ظاهرٌ، والظلم بتعريفه الشرعي الصحيح جليٌّ فيه لا يخفى على أحد، وتحريم الظلم معلوم في جميع الشرائع السماوية، وفي جميع القوانين الوضعية، وفي سائر الأعراف البشرية، فلا يُعقَلَ أن يأتي يوم من الأيام يكون الظلم فيه مباحاً، ولا أن يكون الظلم فيه محموداً ممدوحاً، هذا لا يمكن أن يقع بحال من الأحوال، بل هو إجماع بين الإنس والجن والخلائق أجمعين، وهو مقتضى الوحي المنزل والعقل ومقتضى الفطرة ومقتضى القوانين التي اتفق عليها البشر والأعراف التي تعارفوا عليها.

فهل يُمكن أن يشكّك أحدٌ في حرمة ما هو واقع في فلسطين من احتلال الأرض وهدم البيوت على أصحابها، وتشريد الملايين من الناس عشرات السنين ظلما وعدوانا، وقتل الأطفال والشيوخ والنساء، والاعتداء على الأموال والأعراض وحصار المدن والقرى، وانتهاك حرمة المقدَّس من الأمكنة والأزمنة.. إلى آخر صنوف وألوان المظالم القائمة هناك.

إن التشكيك في حرمة ذلك وفي كونه ظلما صُراحا.. افتراءٌ على الله ومكابرة ما بعدها مكابرة.

  ومن المعلوم بالضرورة أيضا: أن فلسطين أرض إسلامية، وأنَّ جميع سكانها تقريبا من المسلمين، وهم من الدولة الإسلامية ومن رعاياها، وأن في فلسطين مقدسات إسلامية من المعلوم من الدين بالضرورة تقديسها، وبقاؤها تحت الحكم الإسلامي، وأهمُّ هذه المقدسات المسجد الأقصى، أكبر أسير في عالَمنا اليومَ، فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن المسجد الأقصى الذي تحدث الله عنه في كتابه وبارك فيه وحوله وأسرى إليه برسوله ﷺ وجمع له به الأنبياء، وعُرِج به منه إلى السموات العُلَى وما فوقها، هو المسجد القائم الآن في مدينة القدس في فلسطين، ومن أنكر شيئاً من ذلك فقد افترى على الله الكذبَ وكفر كفراً أكبر، مخرجاً من الملة؛ لتكذيبه نصوص الكتاب والسُّنّة الصحيحة القطعيّة المعلومة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وجابر وأبي سعيد وأبي ذرٍّ وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم الحديث عن المسجد الأقصى وأنّه بيت المقدس الذي في إيلياءَ، وهي مدينة القدس، جاء ذلك في أحاديث الإسراء وتحويل القبلة وغير ذلك، فهذا المسجد الأقصى هو قبلة المسلمين الأولى، وهو ثالث المساجد التي قال عنها الرسول ﷺ: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” ، وهو أيضا ثالث هذه المساجد من ناحية الفضل والتضعيف في الصلاة، وفي حديث أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ” قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ المسْجِدُ الأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً”.

   ومن المعلوم من الدين بالضرورة: أن الجهاد لرفع الظلم وإغاثة المستضعفين أمر واجب على المسلمين جميعاً، أوجبه الله تعالى في كتابه فقال فيه: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَا⁠نِ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِیࣰّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِیرًا، ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱلطَّـٰغُوتِ فَقَـٰتِلُوۤا۟ أَوۡلِیَاۤءَ ٱلشَّیۡطَـٰنِۖ إِنَّ كَیۡدَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ كَانَ ضَعِیفًا﴾ [النساء 75- 76]، ومن المعلوم من الدين بالضرورة في هذه القضية: أن المعتدين فيها الذين جاؤوا من أطراف الأرض ولم يكن لهم بها وجود ولا سكن ولا لآبائهم من قبلهم ولا لأمهاتهم، ولا لهم وجود في هذه الأرض طيلة القرون الماضية كلها، إنما جاؤوا وجيء بهم وجمعوا من أطراف الأرض لإقامة هذا المسلسل من القتل والخراب والتدمير، فلا يشُكُّ ذو عقل في ضرورة جهادِهم بالمال والكلمة والنفس.. لردّ عدوانهم وإخراجهم من الأرض التي اغتصبوها، وإعادة أهلها إليها، هذا أمرٌ معلومٌ في شرائع السماء، وقوانين الأرض، فالبشر اليوم متفقون على تمجيد المقاومين للاحتلال والإشادة بأسمائهم ومواقفهم، والجهادُ في ديننا ذِروة سنام الإسلام، وهو في قضيّة فلسطين واجبٌ لا مناصَ منه، ولا تحريرَ ولا كرامةَ إلّا به.

  ومن المعلوم من الدين بالضرورة في قضيَّة فلسطين: أن إنقاذ الأسرى واستخراجهم من أيدي العدو من الفرائض الواجبة التي تجب أولاً على حكام المسلمين، وإن عجزوا عنها أو تخاذلوا، فيجب على الأمة كلها، وإن تخاذلوا، فيجب على كل فرد فيها بما يستطيع سواءً كان ذلك بجهده أو بماله أو بوقته أو بلسانه أو بما يستطيعه من كل قوة هو قادر عليها.

وفي فلسطين المحتلّة الآلاف من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ، منهم من يعيش في سجون الاحتلال منذ عشرات السنين ظلما وجورا، يواجهون صنوف التنكيل والعذاب النفسيّ والبدني، فيجب على المسلمين أن ينصروهم وأن يعملوا لتخليصهم، كمال قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَا⁠نِ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِیࣰّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِیرًا﴾ [النساء 75] ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلّم: “المسلم أخو المسلم لا يظلمُه ولا يخذلُه”، وفي الحديث أيضا: “فكُّوا العانيَ وأطعموا الجائع” والعاني هو الأسير، فتخليص الأسارى واجبٌ على المسلمون بكلّ ما يُطيقون من المال والقتال وغير ذلك.

  ثمّ إنّ من المعلوم من الدين بالضرورة كذلك: صدق الأخبار النبوية؛ وقد أخبر رسول الله ﷺ بأمور تقع في عالَمنا، ومنها الحروب التي تكون بيننا وبين اليهود.

فتدور الدّائرة فيها عليهم، ويكون النصر والغلبة للمؤمنين، ومنها الحرب التي تكون بين المسلمين والمسيح الدجال.

وهذه الحرب يقود فيها المسلمين المسيح عيسى ابن مريم، ويقاتل المسيحُ الدجال ويقاتل اليهودُ معه، وقد تجمعوا على الدجال من مشارق الأرض ومغاربها، وعلى مقدمتهم سبعون ألفاً من يهود أصبهان على رؤوسهم الطيالسة، فيقتلهم المسلمون، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود.

ويتمكن المسيح بن مريم من قتل المسيح الدجّال فيُدركه بالرملة من باب اللد فيقتله، وهذا كله مما ثبت عن رسول الله ﷺ من الأخبار الصحيحة.

فنحنُ نعلم من نصوص السنّة والقرآن نهايةَ هذا الاحتلال وزوالَه بالضرورة، ليس لدينا في ذلك شكٌّ، والله غالب على أمره ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون.

 ومن المعلوم بالضرورة: أن هذه الأرض كانت أرض الهجرة الأولى؛ هجرة أبينا إبراهيم عليه السلام، عندما هاجر من العراق إلى الشام، وقال: إني مهاجر إلى ربي، وهي كذلك الهجرة في آخر الزمان، كما قال رسول الله ﷺ: “إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ النَّاسِ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ”، فلها في الإسلام منزلة عظيمة.

وكذلك من المعلوم من الدين بالضرورة: أن هذه الأرض أرض رباط وجهاد إلى يوم الدين فهي مباركة، باركها الله سبحانه وتعالى، ولا تختص البركة فيها بالمسجد الأقصى ولا بمدينة القدس بل بكل تلك القرى والمدن، ولذلك قال الله تعالى في قصة أهل اليمن: ﴿وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُوا۟ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ﴾ [سبأ ١٨]، وقال: ﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾ [الإسراء ١]، وما حوله هو فلسطين وقد باركها الله وبارك أرضها، فهي على صغرها متسعة لكثير من السكان ولكثير من الشعوب والأمم، وهي كذلك بركة في العبادة، فالعبادة فيها مضاعفة الأجر والثواب، وهي بركة في المال والرِّزق، فأهلُها مرزوقون برزق الله سبحانه وتعالى، وبالبركة التي جعل الله فيها، وهي أيضا أرضُ الرباط والجهاد إلى يوم الدين، وفي سُكَّانها وعُمَّارها البركةُ؛ فهم جبَّارون، والجبارون هم الأقوياء الذين لا ينحنون ويركعون ولا يذِلُّون، وإن الله سبحانه وتعالى فطرهم على ذلك، فالعرب الأوائل الذين سكنوا فلسطين وهم من أربع قبائلَ، أصولهم من لخمٍ وجُذامَ وعاملة وغسان، وبعد هؤلاء جاء الأوزاع، وجاء النبيط وهم من العرب أيضاً من المناذرة وغيرهم، كل أولئك العرب الذين سكنوا تلك الأرض قديماً عُرِفوا بالشجاعة والنخوة والقوة، وفي ذلك قالت بنو إسرائيل لموسى عندما أخبرهم أن الله أمرهم أن يدخلوا تلك الأرض:  ﴿قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ا⁠خِلُونَ﴾ [المائدة ٢٢].

 وعندما فتح المسلمون هذه الأرض أصبح من المعلوم من الدين بالضرورة أنها أرض فُتِحت فكانت غنيمة للمسلمين؛ وقد اتفق الصحابة رضوان الله عليهم وحصل الإجماع منهم على وقفها فبقيت وقفاً كلها بمساجدها وبكل ما فيها، فهي وقف بقرار أمير المؤمنين الذي هو الممثل الشرعي لهذه الأمة كلِّها في ذلك الوقت أميرِ المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن عمرو بن نفيل، فقد رأى هو والمهاجرون والأنصارُ أن تكون هذه الأرض وقفاً على المسلمين باقية لم يقسموها بين المجاهدين والمقاتلين كما هو الأصل لأن الله سبحانه قال: ﴿وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ..﴾ [الأنفال ٤١]، ولكنّ عمر رضي الله عنه رأى – وقد  وافقه الصحابة – أنّ البلادَ المفتوحة ليست غنائمَ للفاتحين كالأموال والأسلحة التي يغنمونها من عدُوّهم، فقرّر أن تبقى البلدان المفتوحة عنوةً وقفا وفيئا عامًّا للمسلمين، ولمن يأتي من الأجيال اللاحقة حقٌّ فيه، كما قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القُرى فلله وللرسول ولذي القربى..} الآية إلى قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا..} الآية، وما فعله صلى الله عليه وسلّم من تقسيم خيبر بين الفاتحين كان في بداية الإسلام، وشدّة فكان هو المصلحةَ يومئذ، ثمّ كانت المصلحة بعد ذلك فيما فعله الخلفاء واتّفق عليه الصحابة من وقف الأرض.

ومعلومٌ أنّ بلاد فلسطين من هذه البلدان التي فتحها المسلمون وعمروها بالإسلام والعدل، وبقيت وقفا عامّا لكلّ المسلمين يستوي فيها العربُ وغيرُهم.

 ومن المعلوم من الدين بالضرورة: أن موالاة أعداء الإسلام الظالمين الغاصبين إن كانت رضى بما يصنعون فهي من الكفر المخرج من الملة، وإنّ التطبيع مع العدوّ الصهيونيُّ ولاءٌ لأعداء الله ورسوله والمؤمنين، وكلّ أنواعه من الظلم والخيانة، لكن التطبيع المعاصر تطوّر إلى أن أصبح دخولا في المشروع الصهيوني وموالاة لأهله وانخراطا فيه بالكليّة، والله تعالى يقول في أهله: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ، فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرࣲ مِّنۡ عِندِهِۦ فَیُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَاۤ أَسَرُّوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ نَـٰدِمِینَ﴾ [المائدة٥١-٥٢]، وبين الله سبحانه أن الدخول في مثل هذا المشروع ورفض الولاء والبراء الذي هو عقيدة من عقائد المسلمين مناف للإيمان بالله ورسوله وبالكتاب الذي أُنزِل على رسوله، قال تعالى: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ (78) كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيراً مِّنۡهُمۡ يَتَوَلَّوۡنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ لَبِئۡسَ مَا قَدَّمَتۡ لَهُمۡ أَنفُسُهُمۡ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡ وَفِي ٱلۡعَذَابِ هُمۡ خَٰلِدُونَ (80) وَلَوۡ كَانُواْ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلنَّبِيِّ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِ مَا ٱتَّخَذُوهُمۡ أَوۡلِيَآءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيراً مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقۡرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنۡهُمۡ قِسِّيسِينَ وَرُهۡبَاناً وَأَنَّهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ﴾ [سورة المائدة: 78- 82].

 وفي الختام: إن من الواجب على الأمة أن تعرف عدوها من صديقها وأن تعرف أحوال أعدائها بالأصالة، وأعدائها بالتَّبعية من الذين يوالونَ المحتلِّين والقتلة الغاصبينَ، فالظلمُ في هذا المقام قسمان: الأوّل: ظلم المحتلِّين المعتدين الغاصبين، والثاني: ظلم الموالين لهم كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا یَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِینَ قَـٰتَلُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِیَـٰرِكُمۡ ﴾ [الممتحنة ٩]، وهؤلاء هم الغاصبون المحتلون الصهاينةُ المعتدون، ثم قال عزّ وجلّ: ﴿وَظَـٰهَرُوا۟ عَلَىٰۤ إِخۡرَاجِكُمۡ﴾ وهؤلاء هم المتصهينون من العرب وغيرِهم ممّن يوالون العدوَّ ويُطاهرونه بما يستطيعون.

نسأل الله تعالى أن ينتقمَ من الظالمين المعتدين ومن أعانهم وظاهرهم، ونسألُه أن ينصُر المجاهدين ويجمعَ كلمتَهم ويثبِّتَهم.

هذه إذا بعض الحقائق المعلومة من الدين بالضرورة في القضيّة الفلسطينية، يجبُ أن نراعيَها وأن نمتثلَ مقتضياتها، وأن نعملَ لنُكتَبَ ممن أسهموا في هذا الجهاد المبارَك بسهم.

اللهم ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وصلِّ اللهُمَّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(*) رئيس مركز تكوين العلماء في موريتانيا، وعضو الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس المجلس الاستشاري لهيئة علماء فلسطين.

اترك رداً على عبد العالي لقدوعي الغاء التعليق

  1. يقول هاله فتحي:

    بوركتم فضيلة العلامة محمد الحسن الددو بارك الله علمكم وعملكم ونفعنا والأمة بعلمكم وفضلكم

  2. يقول موسى بن صالح:

    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
    حفظ الله فلسطين و أهلها
    حفظ الله علماء الإسلام العاملين المخلصين
    اللهم انصر الاسلام و المسلمين

  3. يقول عبد العالي لقدوعي:

    كلمةٌ جامعةٌ مانعةٌ،بيّنت المعلوم من الدين بالضرورة في قضية فلسطين والمسجد الأقصى المبارك وما تعلّق بهما،وأسهبت في سرد الآيات والأحاديث التي تحرّم الظلم،وتقرّ الجهاد وسيلة لدفع ظلم الظالمين.
    نفع الله بهذه الكلمة قارئها،وجزى الله خير الجزاء كاتبها،فهي والله صدعٌ بالحق في زمن كثُر فيه السّاكتون.