بقلم أ.د. فتحي حسن ملكاوي(*)
زارني صديق قديم التقيت به أثناء دراستنا في برنامج الماجستير في علم النفس التربوي، قبل نصف قرن، فرأيته مهموماً، مغموماً، مكتئباً، فسلَّم فرددتُ السلام بأحسن منه. وجلس صامتاً لا يدري من أين يبدأ الحديث. وقطع صمتَ المجلس هديل حَمَامة خلف ستارة النافذة، فسألته: ماذا تقول هذه الحمامة يا ترى؟ فقال دعني بحالي ولا شأن لي بالحمام وهديله. فأنشدت له بيت المعري:
أبكت تلكم الحمامة أم غنّت على فرع غصنها المياد
وقلت له: ربما تغني بما تشعر به من سعادة غمرتك هذا الصباح، أو تبكي على فرصة ضاعت منك مساء أمس؟ فقال: يبدو أنها تبكي على حظي العاثر.
وأخذ يتحدث عما يعانيه من اكتئاب بدأ معه منذ فقد وظيفته بسبب مشكلات مع زملائه في العمل، فخرج بتقاعد مبكر، ويبدو أنه سيعيش بقية حياته بائساً. فسألته: ألا يعينك شيء مما درسته في علم النفس؟ فقال هذه هي المصيبة، فقد نصحني بعض الأصدقاء أن أذهب إلى طبيب نفسي، وليتني متُّ قبل ذلك وكنتُ نسياً منسياً، فذلك الطبيب وصف لي دواء الاكتئاب حتى أدمنت عليه، وأخذ ينبش في تاريخي القديم حتى ذكرني بكل ما نسيته من معاناة في حياة المخيم والأسرة المفككة، فزادني ضغثاً على إبَّالة. فقلت له: الحمد لله يبدو أنك عرفت فالْزم.
ثم كان مما تجاذبنا به أطراف الحديث عن موضوع الصحة النفسية وما يصيب الإنسان من اضطرابات أو أمراض، وهو موضوع أثير في علم النفس. وتصنف هذه الاضطرابات في درجات من القوة مثل انفصام الشخصية والوسواس القهري أو الضعف مثل تكدر المزاج والقلق. وثمة أنواع من الحالات النفسية يطلق عليها المرض النفسي. وعلى أساس المعرفة التي تتضمنها فروع علم النفس تقوم مصحات نفسية، وعيادات نفسية، ومتخصصون في العلاج النفسي، فيصيبون ويخطئون، ولذلك فإن الحاجة ماسّة إلى الاستئناس بتوجيهات الوحي الإلهي والهدي النبوي فيما يوصف بأنه اضطرابات أو أمراض نفسية.
قليل من الناس يتحدثون عما يعانون من مشاعر نفسية، لأسباب منها أن الواحد منهم لا يكون على وعي بوجود مشكلة نفسية لديه، ومنها أن من كان واعياً بوجود مشكلة نفسية لديه يشعر بالحرج من الحديث عنها.
وأقل من هذا القليل من يدرك الأسباب التي أدت إلى ما يعد لديهم من اضطراب في الصحة النفسية، وأقل من هؤلاء جميعاً من يدرك أن العلاج سهل قريب.
أكثر الاضطرابات النفسية سببها ضعف الشخصية وعدم الجرأة في مواجهة المواقف الصعبة بحكمة، وتحميل الأمور أكثر مما تحتمل. وبعض الأسباب تكون نتيجة المرور بحالات من عدم الرضا بالواقع، أو الفشل في تحقيق هدف معين، أو الصدمات العاطفية أو الخوف من المستقبل. وغالباً ما تبدأ هذه الحالات بسيطة يمكن تجاوزها بسهولة، عندما يمتلك الإنسان ناصية نفسه ويتخذ القرار المناسب الصادر من الثقة بالقدرة على الخروج من هذه الحالات، بتجاهلها ونسيانها، والإقبال على الحياة بروح الأمل والتفاؤل.
أما أذا استسلم الإنسان لليأس والضعف، واستمر يحدث نفسه وربما غيره عن حظه العاثر، وظروفه الصعبة، ووجد من يسليه ويعزيه ويشفق عليه وينقله إلى بيئة نفسية مماثلة، فإن المشاعر النفسية السلبية تتعزز، وتتحول إلى مرض يصعب الخروج منه.
ويُلاحَظ أن بعض الاضطرابات النفسية ناتجة عن التفكير في الماضي، حين يتصور الإنسان أن حياته السابقة كانت سلسلة من مراحل المعاناة، حتى لا يكاد يتذكر موقفاً سعيداً في ماضيه.
وأخطر ما في أساليب العلاج النفسي أن يُنصح الإنسان بتجربة اللقاء بأمثاله الذين يقدرون مشاعره ويستمعون لمعاناته، على أمل التخفيف من شعوره بها. والحقيقة أن العلاج الصحيح هو الخروج من مثل هذه البيئة، والانتقال إلى بيئة من السواء الصحي، فمعظم حالات الاكتئاب والحزن والمعاناة سببها تذكر أسوأ ما في الماضي ورفض ما كان فيه، وهذا الشعور الدائم بالرفض يسوغ للإنسان هذه المشاعر ويستأنس بها. والانتقال إلى بيئة السواء الصحي لا يعني إنكار الماضي، وإنما يعني الخروج منه، فقد مضى بما فيه، ولا سبيل إلى العودة إليه وتصحيحه، ومن ثم فالأسلم والأصلح والأصح هو الإقبال على الحاضر بتفاؤل وأمل وجدية في الانشغال بما هو مفيد. ومن نعمة الله على الإنسان أن ينسى، ويميل إلى الانشغال بالحاضر والإعداد للمستقبل.
ومن الحكمة التي بدأت الأمم تمارسها ألا تضع أصحاب العاهات الجسمية أو النفسية معاً، بل تعتمد سياسة دمج المعوقين مع الأصحاء، حتى يألفوا الصحة ويسعوا إليها، فعلاج المدمن على عمل معين هو مفارقة رفاقه المدمنين، وعلاج روح الإجرام مفارقة مجتمع المجرمين، وعلاج الكسل والقلق هو مفارقة أية بيئة ينتشر فيها الكسل والقلق. والتوجيهات الإسلامية في ذلك كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ففي القرآن يحذر الله سبحانه من الجلوس مع من يخوضون في آيات الله، من عمل المنكرات وممارسة أشكال من الفساد واللهو والعبث والسخرية بالدين والأخلاق، “فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره”، وحتى لا يألف الإنسان الذي يعيش في بيئة ظالمة، حياة الذل والاستضعاف، فهو مدعو إلى الهجرة إلى بيئة غيرها. وفي الصحيحين من حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم قصة التائب الذي قتل مائة نفس، ويسأل عن توبة له، فوجد عالماً صالحاً بشَّره بإن الله يقبل توبة التائب، ولكن عليه أن ينتقل إلى بيئة صالحة يعينه أهلها على الخير ولا يعود إلى بيئته السابقة التي اعتاد فيها على القتل، فمات في الطريق إلى تلك البيئة الصالحة، فقبل الله توبته، وغفر له.
وربما كان الشاهد هنا أن من يعاني من اضطرابات نفسيه عليه أن يبتعد عن أمثاله ممن يعانون هذه الاضطرابات، حتى لا يكرسون حالته واضطراباته، وعليه أن ينتقل إلى بيئة من سواء الصحة النفسية.
ويظهر عامل الزمن في الاضطرابات النفسية في حالات الملل والرتابة من ظروف الحاضر، فيشعر الإنسان برفض هذا الحاضر، وعملية الرفض هي المرض نفسه، الذي يسوغ للإنسان عدم بذل الجهد في التغيير والإصلاح، وإذا لم يخرج الإنسان من حالة الرفض هذه فإن المرض يتعزز، حتى يشعر الإنسان بالعجز ويستلم له. ومثل ذلك يقال عن حالات من الاضطرابات النفسية الخاصة بالنظر إلى المستقبل بمشاعر عميقة من الخوف والقلق والرعب مما قد يحمله المستقبل، ولذلك تتكرس هذه المشاعر مع رفض هذا الذي قد يأتي وكأنه حال في الحاضر.
وهكذا يبدو الرفض سبباً لكثير من الاضطرابات النفسية الناتجة من سوء التفكير في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. والتفكير السليم في الوقت هو عدم العيش في أحداث الماضي، وبذل الجهد في التوظيف النافع للحاضر، واستشراف المستقبل وإعداد ما يلزم في الحاضر المشهود لبناء المستقبل المنشود
والإنسان المؤمن يعطي لكل شيء حقه، ونظرته للزمن تتجاوز الماضي والحاضر والمستقبل من حياته إلى ما في الآخرة من جزاء على العمل الصالح في الدنيا، وبهذه الروح يَقْبل الأنسان المؤمن أقدار الله، ويتعامل معها بالرضا، وهو مطمئن إلى أن الله يعينه على الاستمتاع بطيب الحياة الدنيا وينتظره جزاء الله في الآخرة. ويتعزز لديه هذا الشعو عندما يقرأ قول الله سبحانه: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”
وقبل أن يخرج صاحبي من مكتبي بعد هذه المذاكرات، قال: خرجت من البيت هذا الصباح لموعد مع الطبيب النفسي، لكنني تذكرت أن أحد زملائنا في دراسة الماجستير في علم النفس ذكر لي مساء أمس أنك موجود في هذا المكان، فتذكرت الطرائف التي قلتها لنا عن أستاذنا الجامعي المتخصص في علم النفس، يوم كان معلماً لكم في مدرسة كلية الحسين. فأحببت أن أزورك بدل زيارة الطبيب. وأرجو أن يكون لهذه الزيارة ما بعدها. أما الآن فسأذهب إلى البيت حاملاً “أوقية” كنافة لزوجتي حلوان انقطاعي عن زيارة الطبيب النفسي.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(*) دكتوراه في التربية العلمية وفلسفة العلوم، تربوي وأستاذ جامعي أردني، مستشار في المعهد العالمي للفكر الإسلامي. البريد الإلكتروني: fathihmalkawi@gmail.com
اشعر، بالحزن والاكتئاب لظروف أمر بها وقد جاء هذا المقال ك بلسم خفف بعض للمعاناة وكأنها رسالة من الله
جزاك الله خيرا دكتور فتحي
مقالة رائعة. ممكن التواصل للاستفادة اكثر فانا اعاني من اضطرابات قديمة والان ايضا بسبب ظروف استجدت في حياتي. واحتاج للاستشارة وكما قال صاحبك اغلب الاطباء النفسيين يعطون مهدئات