د. عبد الله الغيلاني(*)
كل مواجهة عسكرية يحتف بها ويتولد عنها سلسلة من المعارك الأخرى، لعل أشدها بأساً وأعلاها خطراً معركة المفاهيم .
ومن المقرر شرعاً وعقلاً أن استقامة المفاهيم شرط لتحقيق النصر، تلك قاعدة قرآنية مطّردة، قد يتأخر النصر حتى يُستوفى الشرط، وقد يُحجب لفترة زمنية حتى يتم تصحيح المفهوم، كما حدث في حنين: حين اختل مفهوم “مصدرية النصر” وغلب الاعجاب بالكثرة “إذ أعجبتكم كثرتكم” فحجب النصر برهة حتى تم التصحيح واستقامت المفاهيم، وقد ينزع النصر وينقلب إلى هزيمة والمعركة في ذروتها، كما حدث في “أحد” حينما اختل مفهومان: الانضباط العسكري (لا تبرحوا أماكنكم ولو تخطفتنا الطير) والميل إلى الغنائم (منكم من يريد الدنيا).
[أهمية استقامة المفاهيم]
معارك فكرية ومفاهيمية ضارية تدور رحاها مع طوفان الأقصى، ويعزز صراع الأفكار ذاك سيل المعلومات الذي لا ينفك يغرق عقل المتلقي بوابل من المقدمات والأفكار والإيحاءات يمتزج فيها الغث بالسمين، ويختلط الرث والثمين، ثم يستقر ذلك الغث والرث في ثنايا العقل؛ فيشكل وعياً كسيحاً، وينتج تصورات شائهة.
ألم ترَ كيف كان الوحي يتنزل بطائفة من التعقيبات والتصويبات في أعقاب كل معركة من المعارك المفصلية! حدث ذلك بعد بدر وأحد، وكذا الأحزاب والحديبية، ثم الفتح وحنين وتبوك، كان الهدف المركزي لتلك الطائفة من الآي الكريمة بناء الوعي السنني وتحقيق استقامة المفاهيم.
أحوج ما تكون الأمة إليه وهي تخوض معركة حاسمة مع “الأحزاب” هو “استقامة المفاهيم”، ذلك أنه باستقامتها تستقيم المسالك وتستقيم الخيارات وتستقيم المشاعر.
نعم المعركة مع الأحزاب وليست مع اليهود وحدهم!! الفرق أن القائد الميداني لأحزاب العصر ليس أبوسفيان بن حرب (القرشي العربي)، ولكنه حيي بن أخطب (اليهودي)، أما أجزاء المشهد الأخرى، فكما هي لم يتغير منها شيء! وأما الذين قالوا “ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً “، فهم اليوم أعلى صوتاً وأوسع انتشارًا وأكثر ابتذالاً، ولكنه صوت نشاز وصخب أجوف ونفثة مصدور، وقريبا سيصدق عليهم قوله تعالى: “لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا”.
وكي لا ينتج ذلك السيل المعلوماتي وعياً زائفاً وتصورات شائهة، ويفضي بالتالي إلى علل مفاهيمية قاتلة، فلابد للمسلم أن يتسلح بمنهجيات فكرية تصون منظومته المفاهيمية، وتعصمه من العثرات الفكرية، وتقيه الوقوع في مصائد الإرجاف.
[ثلاثة موجهات منهجية]
ولعلي في هذه المساحة أضع بين يديك ثلاثة موجهات منهجية عسى أن تشكل أدوات لبناء وعي منهجي ورشد سياسي، وعسى أن يكون الاستمساك بها محققاً لاستقامة المفاهيم:
الموجه الأول: النظر إلى الصورة الأكبر: مع ضرورة الإحاطة بمستجدات الحدث والاقتراب من تطورات المشهد، فالأهم هو المآلات الكبرى، فلا تذهب نفسك حسرات على تراجع تكتيكي هنا وانكسار لحظي هناك، فهذه وتلك من طبيعة المعارك الكبرى والحرب سجال، الصورة في إطارها الاستراتيجي (حتى اللحظة) تنبئ بمخاضات عسيرة، وتشي ببشائر عظمى؛ ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله.
الموجه الثاني: التسلح بالوعي السنني القرآني: المنظور القرآني للحدث يكشف الحجب ويوسع الافق ويزكي الفهم، حزمة مباركة من نواميس التدافع يزودنا بها الوحي، منها اليقين بالنصر: “وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” ومنها الصبر الاستراتيجي: “ولا تهنوا في إبتغاء القوم”، ومنها الثبات على المنهج: “قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله”، حسبك أن تنظر في جملة التصويبات القرآنية التي تنزلت في أعقاب المنعطفات الكبرى؛ لتدرك كثافة التركيز على بناء الوعي السنني والحرص على استقامة المفاهيم، وهي ليست لذلك الجيل فحسب، بل لطلائع المجاهدين في كل عصر.
الموجه الثالث: المنظور العقدي للصراع: المعركة ليست وطنية (فلسطينية -إسرائيلية)، وليست قومية ولا عرقية، بل هي في الجوهر صراع بين منهجين ومرجعيتين وعقيدتين: خرجت إحداهما نصرة للدين ودفعاً الظلم ودفاعاً عن الحق وحماية للمقدسات، وخرجت الأخرى بطراً واستعلاءً، تحاد الله ورسوله، وحقيقة الصراع هذه تفسر الاصطفافات السياسية الجارية، كما تفسر صرخات المرجفين الذين يخشون تبعات الهزيمة عليهم، ضع هذا التمايز نصب عينيك وأنت تقرأ تداعيات المعركة وتفكك مكونات المشهد.
تلك منهجيات ثلاث أعرضها عليك؛ لتكون لك عونا على القراءة الموضوعية والاستشراف الرصين والاستبصار النافذ؛ تحقيقاً لضبط الأفكار واستقامة المفاهيم.
والعاقبة للتقوى.
(*) أكاديمي عُماني، وباحث في الشؤون الاستراتيجية. حصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة درهام في بريطانيا. والعناوين الداخلية من وضع المحرر.