معاملة الإسلام لأسرى الحرب صفحة مشرقة من إنسانية هذا الدين

بقلم أ.د. وصفي عاشور أبو زيد(*)

 

(نشر هذا المقال عام 2004م في مجلة المجتمع الكويتية، ورأينا من المناسب إعادة نشره الآن؛ لما يمثل موضوعُه من أهمية بالغة في ظل ما نعيشه الآن من صفقات تبادل للأسرى إثر معركة طوفان الأقصى، والله الموفق) المحرر.

 

باتت قضية الأسرى من القضايا المؤرقة للأمم والشعوب والحكومات بما يمليه الواقع من حروب وتدمير هنا وهناك، مما يعطي الحديث عنها أهميته في هذه الأيام خاصة مع وجود مئات الأسرى المسلمين في جوانتانامو منذ الحرب على أفغانستان، وآلاف الأسرى العراقيين لدى القوات الأمريكية والبريطانية الغازية.

وفي كل القضايا سواء كانت صغيرة أو كبيرة محلية أو دولية، نجد أن للإسلام كلمته، فما وقف الإسلام عاجزاً على مدى التاريخ أمام مسألة جديدة أو حادثة طارئة، إنما كان عنده لكل مشكلة علاج.

ويستمد الحديث عن الأسرى من أمور عدة أهمها:

أولاً: كثرة الحروب المعاصرة التي تؤدي إلى زيادة عدد الأسري.

ثانياً: كثرة عدد الأسرى الموجودين منذ فترة في المنطقة العربية والعالم.

ثالثاً: الانتهاكات الصارخة والتعذيب البشع بحق أولك الأسرى.

رابعاً: إظهار الجانب الإنساني لهذا الدين الذي بات متهماً بالإرهاب والعدوانية، وما أكثر الجوانب الإنسانية التي يجب أن تظهر في هذا

العصر على وجه الخصوص.

لقد لفت الانتباه مناشدة واشنطن للنظام العراقي – في بدايات الحملة على العراق- أن يعامل أسرى الأمريكان بمقتضى اتفاقية “جنيف” في معاملة الأسرى وأكد العراقيون آنذاك أنهم سيلتزمون بهذه الاتفاقية.

وكنت أتمنى من العراق، مع التزامه بالاتفاقيات الدولية – أن يصرح بأنه سيلتزم بما أوجبه الإسلام في معاملة الأسرى، ليلفت نظر العالم لا سيما وهو مترقب ومتيقظ ومتنبه ومتابع للأحداث؛ ليقف ويبحث في الإسلام عن معاملته لأسرى الحرب؛ لتنكشف له حقيقة الدين وتظهر له جوانبه الإنسانية السمحة الباهرة.

تعريف الأسير لغة واصطلاحاً:

قال ابن منظور يقال: أسَرت الرجل أسْراً وإساراً، فهو أسير ومأسور، والجمع أسرى وأساري، وتقول: استَأسر: أي كن أسيراً لي، والأسير: الأخيذ، وأصله من ذلك، وكل محبوس في قيد أو سجن أسير.

قال مجاهد: الأسير المسجون والجمع أسراء، وأُسارى، وأَسارى، وأسرى.

قال ثعلب: ليس الأسر بعاهة فيجعل أسرى من باب جرحى في المعنى، ولكنه لما أصيب بالأسر صار كالجريح واللديغ، فكُسِّرَ على فَعْلي، كما كسر الجريح ونحوه [1]

وعرَّف الماوردي الأسرى في الاصطلاح بقوله: هم المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء [2]

وهذا التعريف يخص حالة الحرب فقط، لكن بتتبع استعمالات الفقهاء لهذا اللفظ يتبين أنهم يطلقونه على كل من يُظفر بهم من المقاتلين ومن في حكمهم، ويؤخذون أثناء الحرب أو في نهايتها، أو من غير حرب فعلية، ما دام العداء قائماً والحرب محتملة، ويطلق الفقهاء لفظ الأسير أيضاً على من يظفر به المسلمون من الحربيين إذا دخلوا دار الإسلام بغير أمان، وعلى من يظفرون به من المرتدين عند مقاتلتهم لنا، كما يطلقون لفظ الأسير على المسلم الذي ظفر به العدو [3]

مشروعية الأسر وحكمته:

والأسر مشروع في الإسلام، ويدل على مشروعيته النصوص الواردة في ذلك، ومنها قول الله سبحانه: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) (محمد:4) ولا يتنافى ذلك مع قول الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (الأنفال:67) لأنها لم ترد في منع الأسر مطلقاً، وإنما جاءت في الحث على القتال، وأنه ما كان ينبغي أن يكون للمسلمين أسرى قبل الإثخان في الأرض، أي المبالغة في قتل الكفار.

والحكمة من مشروعيته كسر شوكة العدو ودفع شره وإبعاده عن ساحة القتال؛ لمنع فاعليته وأذاه وليُتمكن من افتكاك أسرى المسلمين به.

معالم.. للمعاملة

حسن المعاملة: وضع الإسلام معالم هادية لمعاملة الأسرى قبل أن نسمع بمعاهدة “جنيف” وغيرها، حري بالدنيا أن تقف أمامها متأملة لترى ما للإسلام من تعاليم نبيلة وإنسانية كريمة.

عقب غزوة بدر وبعد أن فرَّق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى على أصحابه ليحرسوهم في رحلة العودة إلى المدينة أذاع بياناً عاماً صار قاعدة كلية في التعامل مع الأسرى، وهو “استوصوا بهم خيراً”. فأصبح لزاماً على كل مسلم أن يعمم هذه الخيرية في كل مجالات معاملة الأسرى، سواء كانت خيرية مادية أو معنوية، وهي من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الإطعام: الطعام كما هو معروف ضرورة من ضرورات الحياة، وبالرغم من أن المسلمين الأوائل كانوا يعيشون في ضيق من العيش إلا أن ذلك لم يمنعهم من الإطعام والإيثار فيما بينهم ولأسراهم فحظي “المشركون”، و”أعداء المسلمين”، الأسرى من الطعام بما لم يحظ به المسلمون أنفسهم، والأصل في ذلك قول الله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان:8).

لقد جعل الله تعالى إطعام الأسير من صفات الأبرار الذين يشربون يوم القيامة من كأس كان مزاجها كافوراً، وهم لا يطعمون الطعام من سعة، إنما يطعمونه وهم في أمس الحاجة إليه كما عبر القرآن على (عَلَىٰ حُبِّهِ) ويبتغون بذلك وجه الله ويطلبون رضاه (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان:9)، ويلتمسون أن ينجيهم الله من كربات اليوم العبوس القمطرير.

نقل الإمام الطبري في تفسيره: عن سعيد ابن جبير، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) (الإنسان:9)، قال: أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب [4]

وقال الجصاص: وهذه الآية تدل على أن في إطعام الأسير قُربة، ويقتضي ظاهره جواز إعطائه من سائر الصدقات  [5]

ويروي الطبري في تاريخه هذه الحادثة: كان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى، قال فقال أبو عزيز مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: شد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها أن تفتديه منك، قال: وكنت في رهط من الأنصار حين اقبلوا من بدر فكانوا إذا قدموا غدائهم وعشاءهم خصوني بالخبز [6] وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها، قال فأستحي فأردها على أحدهم فيردها على ما يمسها[7]

الكساء: أوجب الشرع كسوة الأسير وستر عورته، وقد عنون الإمام البخاري باباً كاملاً أسماه “باب الكسوة للأسارى”، وهو دليل على أهمية ما يحتويه المعلم من معنى، قال: “حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا بن عيينة عن عمرو، سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدُر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه”

قال الحافظ في الفتح: قوله: (يقدر عليه) بضم الدال وإنما كان ذلك لأن العباس كان بيِّن الطول [8]

وهذا دليل على أنه لا بد من كساء الأسير الكساء المناسب له في الطول والعرض وغير ذلك، فلا يجزئ أي كسوة، ولعل كثيراً من أبناء المسلمين لم يكن يجد ما يواري به عورته.

المأوى: والمأوى كذلك من ضرورات الحياة، فلا يصح أن يعيش الإنسان بغير مأوى وقد كفل الإسلام للأسير في المأوى ما كفله للإنسان عامة، مسكناً صحياً يليق بإنسانية الإنسان.

وكان هذا المسكن إما في بيوت الصحابة، فعن الحسن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: “أحسن إليه” فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه [9]

وإما في المسجد، عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثُمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم..” الحديث [10]

وهكذا نرى أن مأوى الأسير كان موزعاً بين بيوت الصحابة والمسجد، وقد كانا أكرم مكانين عند المسلمين، أما ربطه في سارية المسجد فليس فيه شيء من الإساءة، إنما خوفاً من الهرب لأنه لم تكن توجد في حينها مبان مخصصة للأسرى.

عدم التعذيب أو الإكراه: وتعذيب البشر عموماً وإكراههم أمر محظور في شريعة الإسلام، إذ الإنسان له حرمة محفوظة، بل حرمته أشد عند الله من الكعبة، وقد كفل الإسلام للأسير ذلك وحفظه من الأذى.

وكيف يحض الإسلام على إطعامه وسقيه ويوفر له المأوى المناسب والكسوة المناسبة ويرتب الجزاء الكبير على ذلك ثم يستبيح تعذيبه ويهدر کرامته؟!

يروي الإمام السرخسي عن أسرى بني قريظة حينما كانوا في حر الشمس أنه: “جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حتى قتل من قتل منهم في يوم صائف، وسُمي ممن قتل منهم بين يدي رسول الله في المغازي: حيي بن أخطب وكعب بن أسيد، وجماعة، فلما انتصف النهار قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السلاح، قيلوهم واسقوهم حتى يبردوا” [11]

وتحريم تعذيب الأسرى يشمل عدم تعذيب الجرحى منهم بطريق الأولي، بل إذا كان الجريح لا تعينه قوته على المقاومة منع قتله وأمر بأن يبقى ويداوي ويفدي أو يمن عليه  [12]

وقد كان من المعتاد في الأزمنة الغابرة أن يُمثل المنتصر بجثث عدوه المغلوب بقصد التشفي، أما الإسلام فقد نهى عن ذلك تماماً، بل إن عموميات الأدلة الشرعية توصي بالإحسان إلى الأسرى كما مر، وألا يُمثَّل بهم إلا أن يكونوا مثَّلوا بالمسلمين؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ) (النحل:126)، وقوله أيضاً: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ) (البقرة:194)

ومن الإنسانيات العجيبة أن شريعة الإسلام لا تجيز إكراه الأسير للحصول على معلومات عن العدو، “قيل لمالك: أيعذب الأسير إن رُجي أن يدل على عورة العدو؟ قال: ما سمعت بذلك [13]

محادثته والرد عليه وتلبية ما يريد: ومن معالم معاملة الإسلام الطيبة للأسير أن يحدثه المسلمون ويردوا على استفساراته في حدود سياسة الدولة، وأن يلبوا رغباته في حدود الشرع لأن تركه وإهماله بعدم الرد عليه نوع من الإهانة وإهدار الكرامة التي نهى عنها الإسلام في معاملة الأسير وحوارات النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسرى معروفة ومشهورة.

عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق قال: يا محمد فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال: “إعظاماً لذلك أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف”، ثم انصرف عنه فناداه فقال: يا محمد يا محمد -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم- رحيماً رقيقاً، فرجع إليه فقال: “ما شأنك؟”، قال: إني جائع فأطعمني وظمآن فاسقني قال: “هذه حاجتك” … الحديث [14]

وهذه المحادثة والكلام والأخذ والرد مع الأسير وتلبية ما يريده في حدود الشرع، قد تؤدي به إلى الإسلام وفيها خير كثير لا سيما لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع ثمامة وهو مربوط في سارية المسجد.

خرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي خَيْرٌ يا مُحَمَّدُ؛ إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، وإنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ فَسَلْ منه ما شِئْتَ، فَتُرِكَ حتَّى كانَ الغَدُ، ثُمَّ قَالَ له: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: ما قُلتُ لَكَ: إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ علَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ حتَّى كانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ: ما عِنْدَكَ يا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ: عِندِي ما قُلتُ لَكَ، فَقَالَ: أطْلِقُوا ثُمَامَةَ. فَانْطَلَقَ إلى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، يا مُحَمَّدُ، واللَّهِ ما كانَ علَى الأرْضِ وجْهٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِن وجْهِكَ، فقَدْ أصْبَحَ وجْهُكَ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن دِينٍ أبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن بَلَدٍ أبْغَضُ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أحَبَّ البِلَادِ إلَيَّ …. الحديث [15]

تبعية الأسير: الأسير في ذمة آسره لا يد له عليه، ولا حق له في التصرف فيه، إذ الحق للتصرف فيه موكول للإمام، وعليه بعد الأسر أن يقوده إلى الأمير ليقضي فيه بما يرى وللآسر أن يشد وثاقه إن خاف انفلاته، أو لم يأمن شره، فمن حق المسلم أن يمنع الأسير من الهرب.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنُّ على بعض الأسرى، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسرى المسلمين وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة كما قال ابن القيم في زاد المعاد.

وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيره بنفسه، إذ الأمر فيه بعد الأسر مفوض للإمام، فلا يحل القتل إلا برأي الإمام اتفاقاً، إلا إذا خيف ضرره، ولهذا وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم يشدد على خالد ويبرأ إلى الله مما فعل؛ إذ أمر من معه من الجند أن يقتلوا من معهم من الأسرى.

عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا، وجعل خالد قتلاً وأسراً، قال: فدفع إلى كل رجل أسيره، حتى إذا أصبح يومنا أمر خالد بن الوليد أن يقتل كل رجل منا أسيره، قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يُقتَل أحد، وقتل بشر من أصحابي أسيره، قال: فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له صنع خالد فقال: النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد”، قال زكريا في حديثه فذكر، وفي حديث بشر فقال: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين” [16]

إعادة الأسير: تظل رعاية الأسير قائمة منذ وقوعه في أيدي المسلمين إطعاماً وإسقاء وكسوة ومأوى ومعاملة طيبة حتى يعود إلى قومه ويتسلمه أهله.

يروي الإمام الطبري في تاريخه وقوع ابنة حاتم الطائي في سبايا طيي، فجعلت في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن بها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه وكانت امرأة جزلة فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليَّ منَّ الله عليك، قال: ومن وافِدُك؟ قالت: عدي بن حاتم قال: “الفار من الله ورسوله.. قال قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، قالت: فكساني رسوا الله صلى الله عليه وسلم وحملني، وأعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام على أبيها ليسألها: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً فإن يكن الرجل نبي فالسابق إليه له فضيلة [17]

وبهذه الحادثة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المن على الأسير تأمين الطريق الذي يرجع منه، وتزويده بالنفقة والمال الكافي، وتوفير الكسوة والرفقة الآمنة له حتى يصل إلى قومه سالماً.

بعد هذا البيان لكيفية معاملة الإسلام لأسرى الحرب أترك للقارئ فرصة التفكر والتدبر في صفحة الواقع الدامية؛ ليقارن ذلك بما حدث مع أفغانستان والعراق، وينظر إلى أسرى المجاهدين الفلسطينيين في السجون اليهودية، وأسرى المجاهدين الكشميريين في السجون الهندوسية وأسرى المجاهدين الشيشانيين في روسيا.. وغيرهم من الأسرى المستضعفين الذين يعانون التعذيب والتشويه وصدق الله القائل (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف:20).


(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية، والمقال نشر في مجلة المجتمع الكويتية، في اﻟﻌدد رقم: 1548. ، ﺗﺎرﯾﺦ اﻟﻌدد: 26/04/2004.

الهوامش:

[1] – لسان العرب ۱۹/۱، وانظر مختار الصحاح.

[2] – الأحكام السلطانية للماوردي ١٦٧. دار الكتب العلمية.

[3] – راجع مثلا مجموع فتاوى ابن تيمية: ٢٥٥/٢٨، وبداية المجتهد ۲۸۲/۱، دار الفکر بیروت.

[4] – تفسير الطبري: ۲۱۰/۲۹. دار الفکر بيروت. ١٤٠٥هـ.

[5] – أحكام القرآن ،٣٧٠/٥، تحقيق محمد الصادق عرجون دار إحياء التراث العربي بيروت ١٤٠٥هـ.

[6] – كان الخبز عند العرب هو أفضل الطعام على الإطلاق

[7] – تاريخ الطبري: ۳۹/۲. دار الكتب العلمية بيروت، ط. اولى ١٤٠٧هـ

[8] – فتح الباري ١١٤/٦ بتحقيق فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب دار المعرفة بيروت ١٣٧٩هـ

[9] – صفوة التفاسير للصابوني: ٤٩٣/٣.

[10] – رواه مسلم كتاب الجهاد والسير باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، وانظر صحيح ابن حبان 42/4

[11] – شرح السير الكبير ٥٩١/٢. تحقیق د صلاح الدين المنجد الشركة الشرقية للإعلانات، ١٩٧١م.

[12] – راجع مثلاً شرح مختصر خليل: ۱۰/۸، الأشباه والنظائر للسيوطي ٥٢٦.

[13] – التاج والإكليل ٣٥٣/٢، دار الفكر، بيروت، ط ثانية. ۱۳۹۸م

[14] – رواه مسلم، كتاب النذر باب لا وفاء النذر في معصية الله.

[15] – رواه مسلم كتاب الجهاد والسير باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه.

[16] – رواه النسائي كتاب آداب القضاة، باب الرد على الحاكم إذا قضى بغير حق.

[17] – راجع تاريخ الطبري: ۱۸۷/۲ ۱۸۸.

اترك تعليق