مفهوم الحاكمية عند سيد قطب .. عرض ونقد لمنتقديه (دراسة)

د. عبد النور بزا (*)

توطئة

الحديث عن مفهوم الحاكمية؛ هو عين الحديث عن المرجعية العليا الحاكمة تحديدا، وهذا يعني أن ما من أمة أو دولة أو جماعة أو أفراد إلا ولهم حاكميتهم / مرجعيتهم التي تؤطر حياتهم ويستمدون منها رؤاهم الكلية للكون بما فيه ومن فيه، وعلى أساسها ينظمون علاقاتهم الخاصة والعامة، ولا يقدمون على أي فعل كيفما كان، وفي أي مجال كان؛ حتى يعلموا حكمها فيه؛ فيستأذنوها في فعل ما يريدون ابتداء؛ فإن أدنت لهم فعلوا، وإلا أحجموا ولم يقدموا حتى تأذن لهم؛ هذه المرجعية الحاكمة أو تلك.

وعليه؛ فليس في الدنيا من لا حاكمية له ولا مرجعية له، كل ما هنالك أن المرجعية الحاكمة تختلف باختلاف مصدرها ليس إلا. وهي في محصلتها النهائية لا تخرج عن حاكميتين؛ وهما: الحاكمية الشرعية ذات المصدر الإلهي الواحد الأحد. والحاكمية الوضعية ذات المصادر البشرية المختلفة.

وما يهمنا في هذه الورقة هو بيان مفهوم الحاكمية الإلهية عند سيد قطب تحديدا. فنقول:
إن قضية الحاكمية الإلهية؛ ليست وليدة اجتهاده الفكري ابتداء، وليس هو أول من أثارها وتحدث عنها، وكتب فيها؛ بل هي قضية قديمة متجددة؛ بدأت بما تنزل فيها من الوحي؛ ( كتابا وسنة ). ومرت بما ثار بشأنها من خلاف منذ عهد الصحابة، ( رفع المصاحف على السيوف، وترديد الخوارج لمقولة: لا حكم إلا لله، ونقض عروة الحكم  ). وتوسعت الأنظار فيها مع علماء الكلام؛ في مبحث: ( التحسين والتقبيح العقليين )، وعلماء أصول الفقه؛ في مبحثي: ( الحاكم و الحكم )، وأئمة المقاصد في مبحث: ( قصد الشارع في وضع الشريعة لدخول المكلف تحت أحكامها ).

وتجدد النظر فيها مع رواد الفكر الإسلامي الحديث، ولما ينقطع إلى اليوم. وفيما يلي فصل المقال فيما قرره سيد قطب بشأنها تحديدا؛ بموازاة مع مراجعة ما تعرضت له من فهوم خاطئة، وما نسب لسيد قطب – بسببها- من ادعاءات واتهامات باطلة ولا أصل لها؛ ولا تمت إلى المنهج العلمي بصلة. وفيما يلي فصل المقال في نقدها بما ينقضها من الأدلة القطعية من فكر الشهيد تحديدا؛ رحمه الله. بدءًا بما نص عليه في مفهوم الحاكمية.

 وهم لا يفعلون هذا عن جهل، ولا عن ظن.. إنما هم يعلمون يقيناً ويعرفون تماماً، أن هذا الطاغوت محرم التحاكم إليه:﴿ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.﴾ .. فليس في الأمر جهالة ولا ظن. بل هو العمد والقصد.[1]

مفهوم الحاكمية عند سيد قطب:

مصطلح الحاكمية من أهم المصطلحات التي عني بها الشهيد سيد قطب؛ وأولاها من الاهتمام والبيان والشرح المفصل والكلام المتكرر عنها؛ ما لا مثيل له في جل ما كتب. وقد بادر إلى تحديد مفهومها وتوضيحه بما لا مزيد عليه، ولا نظير له، تحت عنوان: ( التصور الإسلامي والثقافة )؛ بما عبارته:” وفي هذا الفصل نوضح مدلول ” الحاكمية “ وعلاقته ” بالثقافة “.

ولا بد أن نبادر فنبين أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية – كما هو المفهوم الضيق في الأذهان اليوم لكلمة الشريعة – فالتصورات والمناهج، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد … كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه

إن مدلول ” الحاكمية ” في التصور الإسلامي لا ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من الله وحده. والتحاكم إليها وحدها. والحكم بها دون سواها…

  إن مدلول ” الشريعة ” في الإسلام لا ينحصر في التشريعات القانونية، ولا حتى في أصول الحكم ونظامه وأوضاعه.

إن هذا المدلول الضيق لا يمثل مدلول ” الشريعة ” في التصور الإسلامي !
إن شريعة الله تعني ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية

وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضاً.

يتمثل في الاعتقاد والتصور – بكل مقومات هذا التصور – تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وغيبه وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق كلها، وتعامل الإنسان معها.

ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده.

ويتمثل في التشريعات القانونية، التي تنظم هذه الأوضاع. وهو ما يطلق عليه اسم “الشريعة” غالباً بمعناها الضيق الذي لا يمثل حقيقة مدلولها في التصور الإسلامي.
ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية.

ثم … يتمثل في ” المعرفة ” بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة. وفي هذا كله لابد من التلقي عن الله، كالتلقي في الأحكام الشرعية – بمدلولها الضيق المتداول- سواء بسواء.” [2]

فهذه هي حقيقة “مفهوم الحاكمية” في نظر الشهيد؛ وهو يبدئ ويعيد في بيانها وتصحيح معناها باعتبارها المرجعية الشرعية الإلهية العليا الشاملة لكل شيء، بحيث لا يخرج عنها أي شيء في حياة الإنسان على جميع المستويات وفي كل المجالات العقدية والتعبدية والقيمية والعلمية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفنية والإعلامية والعسكرية وغيرها. وليست محصورة في جانب مخصوص كالتشريع القضائي مثلا، أو التدبير السياسي فقط، كما يتوهم البعض. وهو ما كشف عنه –رحمه الله- مفصلا مؤصلا في عشرات النصوص المبثوثة في مجموع ما كتبه في “الظلال” و”المعالم” و”الخصائص” و”المقومات” و”هذا الدين” و”نحو مجتمع إسلامي” … إلخ.

ونظرا لأهمية “مفهوم الحاكمية” وخطورته ومركزيته في الخطاب الإلهي، وفائدته في حياة المخاطبين به؛ ما فتئ -رحمه الله- يوليه من العناية الفائقة، ويخصه بما يستحق من شروح مستفيضة تند عن الحصر. ويشفعه بما ينفي عنه كل الدعاوى والمزاعم والافتراءات الموجهة إليه بغير علم، أو بتأويل متعسف لا دليل عليه غير أسلوب الانتقاء والتجزيء، بعيد عن النظر الكلي الشمولي لإنتاجه الفكري؛ وفيما يلي من مأثوراته ما يقطع بصحة هذا الملحظ، وبطلان ما يخالفها من الدعاوى التي لا دليل عليها:

قال رحمه الله:

إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله. فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين.. وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله، وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد …

لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإٍسلام ليقرر “وجوده” هي معركة الحاكمية وتقرير لمن تكون.. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة.

 خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده لا يدعيها لنفسه مسلم، ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم.. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة .. فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين.”[3]

وعليه؛ “فالعقيدة في الإسلام تقوم على أساس شهادة: أن لا إله إلا الله. وبهذه الشهادة يخلع المسلم من قلبه ألوهية كل أحد من العباد ويجعل الألوهية لله، ومن ثم يخلع الحاكمية عن كل أحد ويجعل الحاكمية كلها لله… والتشريع للصغيرة هو مزاولة لحق الحاكمية كالتشريع للكبيرة. فهو من ثَمَّ مزاولة لحق الألوهية، يأباه المسلم إلا لله …

والدين في الإسلام هو دينونة العباد في واقعهم- العملي- كما هو الأمر في العقيدة القلبية- لألوهية واحدة هي ألوهية الله، ونفض كل دينونة في هذا الواقع لغير الله من العباد المتألهين! والتشريع هو مزاولة للألوهية، والخضوع للتشريع هو الدينونة لهذه الألوهية.. ومن ثم يجعل المسلم دينونته في هذا لله وحده ويخلع ويرفض الدينونة لغير الله من العباد المتألهين!”[4]

لأن “الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين. هي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية الله المباشرة، الممثلة في شريعته، وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة.

كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر- جل أم حقر، كبر أم صغر- وربط أي شأن من هذه الشؤون بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين.. وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصرف أمر هذا الكون كله بلا شريك.[5]

فـ” هذه هي النظرية الإسلامية في الحل والحرمة؛ تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية، ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة … إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم، في نكاح، ولا في طعام، ولا في شراب، ولا في لباس، ولا في حركة، ولا في عمل، ولا في عقد، ولا في تعامل، ولا في ارتباط، ولا في عرف، ولا في وضع … إلا أن يستمد سلطانه من الله، حسب شريعة الله.

وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئاً في حياة البشر- كبر أم صغر- تصدر أحكامها باطلة بطلاناً أصلياً، غير قابل للتصحيح المستأنف. وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحاً واعتماداً لما كان منها في الجاهلية. إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام، مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام.”[6]

إن العبودية لله وحده- متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده- هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري. الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة، ومن سلطان السدنة والكهنة، ومن سلطان الأوهام والخرافات، ومن سلطان العرف والعادة، ومن سلطان الهوى والشهوة. ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي أعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار.”[7]

فـ” القضية الأولى لهذا الدين؛ ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله. ولكن حملهم على إفراده – سبحانه – بالألوهية، وشهادة أن لا إله إلا الله، أي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية- كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون– تحقيقا لقول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ.﴾ .. كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه…”[8]

” فهذا الدين. فليس هو مجرد عقيدة تستكن في الضمير ولا مجرد شعائر تقام وعبادات ولا مجرد تنظيم دنيوي منقطع الصلة بالعقيدة وبالشعائر التعبدية.. إنما هو منهج يشمل هذا النشاط كله، ويربط بين جوانبه، ويشدها جميعاً إلى الأصل الأصيل. وهو توحيد الله. والتلقي منه وحده- في هذا النشاط كله- دون سواه. توحيده إلهاً معبوداً. وتوحيده مصدراً للتوجيه والتشريع لكل النشاط الإنساني أيضاً.”[9]

إن رد الربوبية كلها لله سبحانه معناه رد الحاكمية كلها له. فالحاكمية هي مظهر ربوبية الله للناس- وهم من العالمين- وهي تتجلى في العالمين كذلك بخضوعهم لله وحده. فلا يكون الناس معترفين بربوبية الله لهم إلا إذا خضعوا له وحده والا إذا خلصت عبوديتهم لهذه الربوبية.. أو بتعبير آخر لهذه الحاكمية.. وإلا فقد أنكروا ربوبية الله لهم متى خضعوا لحاكمية أحد غيره. لا يحكمهم بشرعه.[10]

جاء الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله .. جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده؛ فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله. بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم.

فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه.. ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شؤون هذه الحياة، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني.”[11]

نقد منتقدي مفهوم الحاكمية عند سيد قطب:

فهذه النصوص –وعشرات غيرها -، نصوص بينة واضحة؛ قطعية الثبوت قطعية الدلالة؛ لا غموض في شكلها ومضمونها، وكلها تكشف بما لا يدع مجالا للشك أو التردد في أن قضية الحاكمية؛ هي قضية الإسلام الأولى التي خاض معركته الفاصلة من أجلها في مكة؛ حيث تم تقرير أصلها؛ ممثلا في عقيدة التوحيد ولا شيء غير عقيدة التوحيد؛ بما هي ترسيخ للاعتقاد بألوهية الله وربوبيته؛ وحاكميته ابتداء؛ بمفهومها الكلي الشامل لكل شيء، ولكل مجال من مجالات الحياة الخاصة والعامة في علاقتها بالاعتقاد منذ العهد المكي، قبل الانتقال إلى مزاولتها العملية على جميع المستويات في العهد المدني، حيث تم بناء الدولة وإقامة النظام وتطبيق الشريعة في بعديها السياسي والقضائي؛ باعتبار أن كلا منهما ليس إلا فرعا من فروع الحاكمية الإلهية الشاملة الجامعة الناظمة لكل ما بطن وما ظهر من أفعال المكلفين؛ في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم الخاصة والعامة على حد سواء؛ وذلك بحكم ” أن حدود العقيدة تتسع وتترامى حتى تتناول كل جانب من جوانب الحياة.. وقضية الحاكمية بكل فروعها في الإسلام هي قضية عقيدة. كما أن قضية الأخلاق بجملتها هي قضية عقيدة. فمن العقيدة ينبثق منهج الحياة الذي يشتمل الأخلاق والقيم كما يشتمل الأوضاع والشرائع سواء بسواء.”[12] وهو ما يقطع ببطلان ما أطلقه وحيد الدين خان[13] ، وأبو الحسن الندوي[14]، ومحمد يتيم[15]، من دعاوى باطلة بشأن مفهوم الحاكمية عند سيد قطب؛ مفادها:

1  – أن الحاكمية من البدع التي لا أصل لها في شرع الله، ولا في التراث الثقافي للأمة.!!
2 – أن كل ما كتب عن الحاكمية؛ ما هو إلا تفسير سياسي للإسلام ليس إلا!!
3   أن الحاكمية تنحصر في السلطة السياسية والتشريعات القضائية ولا تتعداهما إلى باقي المجالات !!

     والحقيقة بخلاف هذه الدعاوى كلها؛ لمن تأمل ما بذله سيد قطب من جهد في تصحيح معنى الحاكمية، وبيان حقيقتها في جميع أبعادها العقدية والتعبدية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمعرفية والفنية والثقافية والحضارية؛ وتأكيده المتكرر على أنها أخص خصائص الألوهية، وأنها هي عين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. أو قل بعبارة أخرى هي؛ شهادة أن لا حاكم إلا الله، ولا معبود بحق سواه، ولا مبلغ لحكمه سبحانه إلا رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون سواه.

فهذه هي حقيقة مفهوم الحاكمية عند سيد؛ بعيدا عن كل ما تعرضت له من تعطيل أو تحريف جزئي أو كلي على امتداد وجودها التاريخي. وهنا نتساءل كيف يسمح الأستاذ محمد يتيم لنفسه – وغيره ممن انتقدوا مفهوم الحاكمية عند سيد- أن يقول: ” مفهوم الحاكمية – بل الألوهية – عند سيد لا تعني شيئا غير السلطة السياسية وتطبيق الشريعة الإسلامية.”[16]  

والأدهى من هذا الادعاء المزعوم؛ أنه ذهب إلى الاستدلال عليه بقول الشهيد:” فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى: ” إله ” ومعنى: ” لا إله إلا الله ” .. كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا.. وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله- سبحانه- بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام، ورده كله إلى الله .. السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة .. السلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان .. كانوا يعلمون أن: ” لا إله إلا الله ” ثورة على السلطان الأرضي، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله..”[17]

كما استند في ما ذهب إليه على قول سيد أيضا:” إن هذا الدين إعلان عام لتحرير ” الإنسان ” في ” الأرض ” من العبودية للعباد – ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد – وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه – وربوبيته للعالمين..! إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور.. أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور.. ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.”[18]

وللإشارة فهذه الإحالة لا وجود لها ضمن مقالات الأستاذ يتيم، ولعلها سقطت أثناء الطبع. وبغض النظر عنها فلست أدري أين هو حصر سيد لمفهوم الحاكمية في السلطة السياسية، والقوانين التشريعية القضائية دون غيرهما فيما أورده عنه في النصين السالفين ؟ !!

إن دلالة النصين ليس فيهما ما يفيد حصر مفهوم الحاكمية، ولا مفهوم الألوهية فيما توهمه الأستاذ يتيم، بأي وجه من وجوه التأويل. حتى وإن حذفنا منهما ما تحته خط اقتداء بصنيعه، سواء قصد أو لم يقصد، وهو يستشهد بهما على نقيض مضمونهما.

بل؛ وعلى فرض أن ما توهمه من النصين هو ما يعنيانه جدلا؛ فهل هما كل ما كتبه شهيد الحاكمية عنها ؟ وهل من الأمانة والإنصاف العلميين الاعتماد على مقتطفات منتقاة من عبارات موهمة أو غير واضحة- على فرض وجودها- وترك مآت غيرها من النصوص الصريحة والعبارات الواضحة القاطعة الدلالة في بابها على المراد ؟

إن أول ما يقتضيه المنهج العلمي أن ” تحمل العبارات الموهمة – متى وجدت- على العبارات القاطعة فيزول ما بها من إيهام.”[19] ويتبين ما قد يكتنفها من غموض، أو إشكال. وذلك باعتبار أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتصور أي شيء لا يتم على الوجه الصحيح إلا بعد ” معرفته معرفة تامة، أو قريبة من الحصر والشمول وفق ما يقتضيه المنهج العلمي القائم على الاستقراء قبل الحكم، والمعرفة قبل التعميم والتقويم.”[20] الشيء الذي لم يلتفت إليه الأستاذ الفاضل في تقويمه لمفهوم الحاكمية عند سيد؛ مما أدى به إلى مجانبة الصواب إذ حصر المفهومين في السلطة السياسية وتطبيق القوانين الشرعية في بعدها القضائي لا غير !!  ولو أنه التزم بالمنهج العلمي المشار إليه قبل أن يراجع نصوص الحاكمية والألوهية عند الشهيد، واستقرأها؛ لعلم علم اليقين أن ما نسبه لسيد حولهما لا معنى له؛ ولتبين له بما لا يدع مجالا للشك أن الشهيد قد تصدى من زمان إلى التنبيه والتصحيح للفهم الضيق للألوهية والحاكمية والشريعة، فانتقده وراجعه وقومه بما يقتضيه المنهج العلمي الذي يشهد له الشرع والعقل بيقين.

ومن أراد التوسع في هذه القضية أكثر؛ فيمكنه الرجوع إلى الباب الثالث من الجزء الثاني من كتاب: طريق الدعوة في ظلال القرآن. عموما، وللفصول الثلاثة الأخيرة منه خصوصا وهي: “لا مشرع إلا الله” و”النظرية الدستورية الإسلامية ” و” لا حاكم إلا الله “؛ ففيها الكفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، وكيف لا، وقد أفرغ الشهيد فيها عصارة فكره، وتوجها بدمه الزكي فداء لها، فأبان فيها بما لا مزيد عليه عن حقيقة مفهوم الحاكمية والألوهية في التصور الإسلامي؛ فأقام الحجة بما فتح الله له فيها على الجميع دعاة وحكاما ومحكومين، فلم يبق لأحد منهم عذر ولا مسوغ لما هم عليه من فهم خاطئ وعمل فاسد، في الاعتقاد والتعبد والتشريع ونظام الحياة كلها بدون استثناء، ومن ثم فلا عذر للسيد أبو الحسن الندوي، والسيد وحيد الدين خان والأستاذ محمد يتيم – ولا لغيرهم ممن هم على شاكلتهم- فيما توهموه بغير بينة عن مفهوم الحاكمية عند سيد قطب، وليس لهم – ولا لغيرهم- من مسوغ لهذا الخطأ العلمي الفادح الواضح، إلا ” إعلان التوبة العلمية النصوح ” كتابة والتراجع عما صدر عنهم بغير حق في حق رجل أفنى حياته وقدم روحه في سبيل بيان ” حقيقة الألوهية ” و” حقيقة الربانية ” و”حقيقة الحاكمية” و”حقيقة العبودية” و”حقيقة الشرك ” و”حقيقة التوحيد الخالص لله رب العالمين” بما لم أقرأه لغيره من العلماء من قبل ومن بعد. حتى قضى نحبه شهيد في سبيل هذه الحقائق الشرعية الكبرى كلها؛ فنال بذلك وسام: شهيد توحيد الألوهية والحاكمية بحق، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحدا، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين والإنسانية خير الجزاء.    

 ولي اليقين أن كل ما كتبه –رحمه الله عن الحاكمية؛ ليس فيه نص واحد يفيد قصر مفهومها أو حصره في مجال معين؛ عقديا أو تعبديا أو تربويا أو أخلاقيا أو سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو قضائيا أو مدنيا أو عسكريا، أو دنيويا أو أخرويا … إلخ بدل أن يكون مفهوما جامعا شاملا لكل هذه المجالات برمتهما؛ دون تمييز ولا تخصيص لبعضها دون بعض.

وعليه؛ لو بحث كل من يدعي غير هذا؛ طول عمره؛ لم يجد غير ما يعنيه مفهوم الحاكمية من دلالات كلية شاملة لا يند عنها شيء في الخلق ولا في الأمر، ولا تعزب عنها صغيرة ولا كبيرة في أي مجال من مجالات الحياة الخاصة والعامة؛ ما ظهر منها في عالم الشهادة، وما خفي منها في عالم الغيب سواء بسواء.لقوله تعالى: ﴿ إِنِ الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلى إياه؛ ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا تعلمون.﴾ [ يوسف: 40 ] ﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله.﴾ [ الشورى: 10 ]. ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر؛ ذلك خير وأحسن تأويلا.﴾ [ النساء:59 ].

وإنما الأعمال بالمقاصد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


(*) باحث متخصص في مقاصد الشريعة – مكناس المغرب.

الهوامش:

[1] – في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت، القاهرة، ط 17، 1412ه، 2 / 694.

معالم في الطريق، دار الشروق، ط6، 1399ه/ 1979م، ص 108- 123، 124.[2]

[3] – في ظلال القرآن، م س،  3/  1217

 –  في ظلال القرآن، م س، 3 / 1211[4]

– في ظلال القرآن، م س 2 / 1018، 1019.[5]

– في ظلال القرآن، م س، 1 / 611.[6]

– في ظلال القرآن، م س ، 1 / 346.[7]

[8] – في ظلال القرآن، م س، 3/1497-1498.

– في ظلال القرآن، م س، 2 / 659.[9]

 –  في ظلال القرآن، م س، 3 / 1330[10]

 –  في ظلال القرآن، م س، 3 / 1555- 1565[11]

[12]في ظلال القرآن، م س، 4 / 2114.

[13] –  وحيد الدين خان، التفسير السياسي للدين، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1435ه/ 2014م.

[14] –  أبو الحسن الندوي، التفسير السياسي للإسلام، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1435ه/ 2014م.

[15] –  محمد يتيم، جريدة الراية، عدد 289، 290، ص 20.

[16] –  محمد يتيم، جريدة الراية، عدد 289، 290، ص 20.

[17]في ظلال القرآن، م س، 2 / 1005.

[18]معالم في الطريق، م س، ص 60.

[19] – محمد قطب، مقدمة مقومات التصور الإسلامي، دار الشروق، ط1، سنة 1406ه/ 1986م، ص 8.

[20] – نصرمحمد عارف، في مصادر التراث السياسي الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، 1415ه/1994م، ص 41.

اترك رداً على عبد الله نايت عطية الغاء التعليق

  1. يقول فتحي جودة:

    الدكتور الفاضل عبد الله بزا حفظه الله..
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خير الجزاء على عذا البحث القيم والرصين.. فقد وضعت النقاط على الحروف وابنت الحقيقة..
    وبالرغم من وضوح الحقيقة وجلائها الا ان هناك من يحاول ةضع الغربال امام الشمس في رابعة النهار..
    واذا سمحتم لي ان احيل حضرتكم الى شروح كتاب معالم في الطريق لأمير #جماعة_الصادعون_بالحق يرحمه الله وهو ممن شهد لهم الاستاذ سيد بأنه اول من فهم ممن تلقوا من الاستاذ الشهيد..
    #شروح_كتاب_معالم_في_الطريق
    رد فيه على ما ذكره الشيخ ابو الحسن الندوي عن الاستاذ سيد..
    اكرر شكري وامتناني وتقديري لبحثكم القيم..
    اخوكم فتحي جودة
    حسابي على الفيسبوك
    Dr.FathiGouda

  2. يقول خالد بن شولاق:

    شكرا جزيلا، بارك الله فيكم وجزاكم خيرا

  3. يقول عبد الله نايت عطية:

    إذا كان مفهوم الحاكمية عند سيد قطب رحمه الله يرادف الألوهية والربوبية أي ما يصطلح عليه بمباحث العقيدة في التراث الإسلامي فلماذا اضطر سيد قطب لاستعمال هذا المصطلح المستحدث وهو الحاكمية؟ لما لم يكتف بما هو موجود من مصطلحات ومفاهيم في العقيدة الإسلامية التي أشبعت بحثا حتى احترقت؟ الجواب فيما نحسب والله أعلم متعلق بالجانب السياسي. فلما كانت معركة سيد قطب بالدرجة الأولى سياسية أي العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم ونظرية السلطة والدولة وحتى يتميز خطابه عن الخطاب الديني بالمعنى الضيق ليتسع إلى السياسة اضطر رحمه الله استعارة هذا المصطلح من فكر أبي الأعلى المودودي الذي نحت هذا المصطلح بداية من عشرينيات القرن الماضي لنفس الغرض ونفس المعركة. المشكل هو في المصطلح وليس في المفهوم ابتداء. كلمة الحكم في القرآن الكريم لم ترد أبدا بمعنى السلطة وليس لها دلالات الألوهية والربوبية ولا المعنى السياسي أبدا، إذ تعني مجرد القضاء والفصل في النزاعات وهو معناها الأساس في اللغة العربية وهي من المنع. وقد صرح القرآن الكريم أن الله ليس الحاكم الوحيد بل أمر الخليفة بالحكم فقال: يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ ) [سورة ص] فالآية الكريمة أسندت حق الحكم بمعنى القضاء للخليفة وجعلت معياره الحق مطلقا سواء من دين أو عقل أو عرف وسبيل الله في الآية أوسع بكثير من معنى الشريعة. هذا المقال فيه كثير من المغالطات والخلط لا يتسع المقام هنا للرد عليها كلها. شكرا وتحياتي.

  4. يقول Junko:

    You are in reality a good webmaster. This web site loading pace is amazing.
    It sort of feels that you are doing any unique trick.
    Furthermore, the contents are masterwork. you’ve done a
    magnificent task on this subject! Similar here: najtańszy sklep
    and also here: Najtańszy sklep