بقلم فضيلة الشيخ المربي عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى
المنهاج النبوي
الحاضر خضم زاخر، تاريخ يعج بالتحديات. وجند الله لن يشقوا ذلك العباب إلى غد الإسلام إلا بعقيدة لا إله إلا الله، وأخلاقية لا إله إلا الله، وعقل تابع لوحي الله، ماض في تنفيذ أمر الله، على خطى رسول الله.
انقطاع كلي ضروري عن تفسخ الآخرين خلقا، وهجانتهم فكرا، وتبعيتهم حسا ومعنى.
وبقدر ما تكون وصلة جند الله بكلمة الله وسنة الله أقوى، تتضاءل في أعيننا العقبات والتحديات. ويكتسب الحاضر المعقد الثقيل الوطأة على الأمة إغراء فريدا للمجاهد الذي يجعل غاية أمانيه إحدى الحسنيين.
أعداء الإسلام يصفون لنا السم على أنه الدواء الناجع. يشيرون بِحِمْيَةِ «الانقطاع الإبستمولوجي» لِمَرِيضِنَا ليتم بتر الإسلام من كيان الأمة. ويجعلون هذا الانقطاع مقدمة ضرورية لنقلنا إلى منهاج اللاييكية والاشتراكية والثورية إلخ.
والمنهاج النبوي يبدأ أيضا بالانقطاع عن موارد الجاهلية فيما يرجع للعقيدة والخلق والذاتية ومنهاج العلم والعمل. ليكون الوحي مصدر فكرنا، وتكليف الله سبحانه وتعالى حافزنا للعمل، وسنة رسوله ﷺ رائدنا.
دع قِصار الفهم، عن غباوة أو تَغَابٍ، يُسِفُّون عندما يلقنون الناس أن الإسلام رجوع لحضارة الجمل، وفكر الحيض والنفاس، استخفافا لعقول الناس، واستهزاء بأحكام الله، ومنها أحكام الحيض والنفاس التي تحتل مكانتها، وتبقى خالدة ما تُلي القرآن. وكل حكم من أحكام الله عز وجل جزء لا يتجزأ من المنهاج النبوي.
وردت كلمة «منهاج» في الكتاب والسنة:
قال الله عز من قائل: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ (المائدة، 48). فسر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الشرعة بأنها ما جاء به القرآن، والمنهاج ما جاءت به السنة. فعلى هذا تكون الشريعة أو الشِّرْعَةُ أمرَ الله المنزل الضابط للتكليف وشروطه وأحوال المكلفين، ويكون المنهاج هو التطبيقَ العملي للشريعة، وإنزالَها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي الاقتصادي السياسي المتغير المتطور، الذي تمثل السيرة النبوية نموذجا فذا له، لكن نموذجا حيا قابلا للتجدد في روحه وإن تنوع الشكل. وبهذا الفهم الواسع المتحرك للسنة يمكننا أن نتجاوز ضيق من يفهم السنة تكرارا حرفيا تعبديا للشكل، تكرارا يضيع معه ومن جرائه روح السنة وأهدافها. فما كان من السنة تعبدا من أقوال الرسول ﷺ وأفعاله وتقريراته ثوابت لا يجوز عليها التحويل. وما كان منها سلوكا سياسيا ومعالجة لحياة الناس وسياسة للمال والجهاد دخل في حيز الصناعة التي تستقي الحكمة من معين الوحي والنبوة، والحكمة العملية من خبرة التاريخ.
وهي صناعة يساعد على فهمها صيغة «مِفْعال» التي جاء عليها «منهاج» الدالة في لغة العرب على الآلة كمسمار، أو مجال الحركة كمضمار، أو أداة القسمة والعدل كميزان. سنة إذا هي المنهاج بشمولية قابلياتها في الفعل والحركة ووضع الأمور في مسارها الشرعي.
وفعل نهج وانتهج في اللغة يلحق معنى كلمةِ شرع واشترع. إذ كلاهما يحمل معاني الطريق والسلوك والسير.
فلننظر كيف جاءت كلمة «منهاج» في كلام النبوة لنستخلص منها مفتاح الطريق في رفقتنا هذه التي تنطلق من الإطلال على حاضرٍ مُرٍّ، وتتبع ما رسمه الوحي لتاريخنا الماضي والحاضر والمستقبل.
الحديث الأول:
روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن حبيب بن سالم رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: «كنا قعودا في المسجد مع[1] رسول الله عليه وسلم، وكان بشير رجلا يكف حديثه. فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله ﷺ في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظُ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله ﷺ: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت. قال حبيب: فلما قام (أي وَلِيَ الأمر، وأحتَفِظُ باستعمالهم لكلمة قام فلنا معها شأن) عمر ابن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين، يعني عمر، بعد الملك العاض والجبرية. فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسُرَّ به وأعجبه».
من خلال هذا الحديث النبوي تدخل كلمة منهاج لتؤدي وظيفتها الحركية، إذ تربط تاريخ انبعاث الأمة بعد أطوار الخلافة الراشدة الأولى، فالملك العاض، فالملك الجبري، باتباع المنهاج النبوي. والحديث يتضمن الوعد الصادق بأن الخلافة الراشدة تعود. يتشبث وهم التاريخانيين بنظرية «الحتمية التاريخية» التي لا سندَ علميا لها والتي انتهى أجلها مع موت الإديولوجيات في عصرنا، ويملأ هذا الوهم في تفكير المادي فراغا خلَّفَه كُفْرُهم بالقضاء والقدر. وها هو هذا الحديث يجمع لنا:
-1 شرع الله الذي يضمن الخلافة في الأرض لمن اتبع الهدي النبوي.
-2 قدر الله الذي يَكشف أطوارَه الوحيُ، وتبلغُ بشارتُه عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيُسَرُّ، وتبلُغُنا فنُشَمِّرُ احتفاء بالبشرى، وتأهبا لورود القدر الموعود، توكلا منا، مع إعداد القوة، واتخاذ الأسباب، لا نعاسا وأحلاما.
الحديث الثاني:
نقل الإمام الشاطبي عن الحافظ البزار رحمهما الله رواية لهذا الحديث تشتمل على زيادة مهمة. جاء في كتاب الموافقات أن رسول الله ﷺ قال: «إن أول دينكم نبوة ورحمة. وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي، ويُلْقِي الإسلام بِجِرَانِهِ (أي يتمكن في الأرض) في الأرض، يَرْضَى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مِدْراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته« .
إن الفرق بين المؤمن الذي يسمع عن الله ورسوله ويعقل وبين صم العقلانية الكافرة أنَّ المؤمن العاقل بقلبه عن الله لا تنفصل في ذهنه ولا في عمله حركة الشرع الإلهي الآمر بالمغالبة والمقاتلة والجهاد والمدافعة لنصر الله عن سماعه بالإيمان والإيقان حديث القدَر المُنَزَّلَ به الوحي.
المحلل المادي لا يرى التاريخ البشري إلا صراع طبقات وعصبيات بمعزل عن السماء. والمسلم الخرافي يتحول إيمانه بالقدر انسحابا من ميدان العمل والمدافعة، فيتعطل لديه الحافز الشرعيُّ على عمل الصالحات. أما المؤمن الجامع بين النظرتين فلا تناقض لديه بين ما أمِرَ به وما قُدِّر عليه. يسعى جهده، ترتبت النتائج المنطقية على جهده أو تخلَّفَتْ. فهو بهذا طاقة فاعلة. وهكذا كان المرسلون والصديقون والشهداء والصالحون. ولا فرق بين خرافية الحالمين من المسلمين وخرافية معتقدي الحتمية التاريخية إلا أن عقيدة هؤلاء تُحْيِي فيهم جذوة الصراع وتُضْرِمُ ناره، بينما تقتل خرافية أولئك روح الجهاد.
حديث البزار رحمه الله يزيدنا توضيحا للخلافة الموعودة المرتقبة حيث يعرف المنهاج النبوي أنه: «عمل في الناس»، أي سياسة وحكم وتصرف اقتصادي وعدل اجتماعي، بسنة النبي. كما يزيدنا توضيحا لنتائج اتباع منهاج النبوة، من رضى ساكن السماء وساكن الأرض عنها، أي بركة الله واجتماع كلمة الأمة. ويصف لنا هذه البركة ازدهارا اقتصاديا ورخاء.
نكمل هذين الحديثين العظيمين بستة أحاديث لم تذكر فيها كلمة «منهاج» لكنها تبين للذين يؤمنون بالغيب فيهيئون له من الأسباب المشروعة ما يكفل نزول القدر مراحل تاريخ الأمة كما سُطِّرَتْ في الأزل وأخبر عنها الصادق المصدوق ﷺ:
الحديث الثالث:
روى الشيخان وأبو داود رحمهم الله عن حذيفة رضي الله عنه قال: «كان الناس يسألون النبي ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: نعم ! قلت: وهل بعد ذاك الشر من خير ؟ قال: نعم ! وفيه دَخَن. قلت: وما دخَنُه يا رسول الله ؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر. فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال: نعم ! دعاة على أبواب جهنم. من أجابهم قذفوه فيها. فقلت يا رسول الله ! فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: فاعتزل تلك الفِرَقَ كلّها ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
هذا الحديث الشريف يزيدنا بيانا لمرحلة الملك العاض، وهو، والله أعلمُ، الملك الوراثي من لدن نهاية الخلفاء الأربعة الراشدين إلى سقوط الدولة العثمانية. ويزيدنا بيانا لمرحلة الملك الجبري وهو، والله أعلم، الحكم المستبد الذي يعرفه زمننا، وقد وصف رسول الله ﷺ في الحديث الأول والثاني المرحلة التالية بأنها ملك عاض. صفتان تخرجان الحكم عن دائرة السنة من حيث كونُه ملكاً لا خلافة، ومن حيث كونُه عاضا أو عضوضا كما في بعض الروايات. والعض القهر والظلم. وفي الحديث الأول والثاني يصف المصطفى ﷺ المرحلة التالية بأنها ملك جبرية. ملك كالأولى وجبر هو أشد من العض. في حديث حذيفة رضي الله عنه يتطابق الملك العاض مع مرحلة الخير الذي فيه دخَن. والدخن الكدَر. ولا ريب أن من ملوك الوراثة السابقين أفذاذاً قليلين كانوا رجال الإسلام، دافعوا وجاهدوا. فهم الخير في سلسلة الوراثة العاضة وهي الشر. ولا شك أن تلك الدول لم تتنكر للإسلام جهارا، رغم الفسق المستخفي والمفضوح، كما يتنكر له حكام هذا الزمان الذين يجهرون بالكفر. هؤلاء الحكام المرتدون علنا أو ضمنا منذ أتاتورك أحق من ينطبق عليهم اسم الدعاة على أبواب جهنم.
في هذا الحديث الثالث يوصي المعلم المعصوم ﷺ كل مؤمن، من خلال وصيته لحذيفة رضي الله عنه، أن يلزم إن أدركه عهد أهل الجبرية، جماعة المسلمين وإمامهم وأن ينقطع عن تلك الفرق، عصابات الدعاة على أبواب جهنم. وانظر رحمك الله من حواليك كم حزبا لاييكيا لبراليا أو تقدميا اشتراكيا أو جماهيريا شعبيا يدعو الناس لنبذ الدين كِفاحاً أو يتلون على الدين نفاقاً، فمُعْضِل المؤمن الحريص على دينه أن ينجوَ من النار ودُعاتِها كما حَرَص حذيفة رضي الله عنه ألا يقع في الشر بعد الخير. هنا يُبَلِّغُ صوت النذير البشير ﷺ المؤمن أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فإن لم يكن جماعة وإمام فلا أقل من اعتزال فرق الضلال. وجماعة المسلمين اليوم وغدا لا تزال في طور التكوين وليداً ناشئا في أرجاء أقطار التجزئة. واجب المؤمن الحريص على دينه أن يساهم في إنشائها وتقويتها ودعمها استعدادا للمرحلة الموعودة، مرحلة ما بعد الملك الجبرية. وهي كما قرأنا في الحديثين الأول والثاني مرحلة الخلافة على منهاج النبوة. وللمؤمن الضعيف دائما رخصة الفرار بدينه يرعى غنمه في قُنَّة جبل ويدع الناس من شره كما جاء في الصحيح.
الحديث الرابع:
أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَر (أي سكان الحضر والبادية) إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ. إما يعزهم عز وجل فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها». ويروي الإمام أحمد رحمه الله الحديث من طريق آخر عن تميم الداري رضي الله عنه.
هذا الحديث يبشر بظهور الإسلام وعزته وانتشاره في الأرض انتشارا يعم ظهرها. وهذا ما لم يحدث بعدُ. ولعل الله عز وجل يذخر للآخرين رجال الخلافة الثانية مِثلَ ما يسر على يد الأولين.
الحديث الخامس:
أخرج الإمام مسلم وأبو داود والترمذي رحمهم الله عن ثوبانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ مُلكُها ما زوى لي منها». الحديث.
وهذا لما يحدث. لما يبلغ سلطان الإسلام -بعز عزيز أو ذل ذليل- مشارق الأرض ومغاربها. وسيحدث، وعد من الله ورسوله غير مكذوب. وينفسح أمام المؤمن أفق المستقبل مشعا. وما أشد ظلمة حسابات المستقبليين الذين يتخيلون «سيناريوهات» لمستقبل البشرية إذ يعتمدون على تدبيرهم وحذقهم. والمستقبلي المؤمن بين يديه وعد الله ورسوله ينير أمامه، فإنْ حَسَبَ وقدَّر واحتاط وخطط -وكل هذا واجب شرعي- فإنما يفعل على بينة من قَدَر ربه. وهذا فرق ما بين الذي يخبط في ظلام الأرقام والأوهام والذي تلقى كلمة الحق فهي له إمام.
الحديث السادس:
أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. فينزل عيسى، فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا! إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة«.
هذه الرواية أخرجها الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه. وفي كتاب الإمارة أخرج الحديث من تسع طرق يكمل بعضها متن بعض تفيد أن طائفة من الأمة لا تزال إلى يوم القيامة «ظاهرين على الحق» «لا يضرهم من خذلهم»، ولا من «خالفهم» ولا من «ناوأهم»، «قاهرين لعدوهم». وآخر رواية في كتاب الإمارة هي المسندة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة». وقد فسر المحدثون «أهل الغرب» بأنهم العرب، قاله ابن المديني رحمه الله. وفسروه بأنهم أهل الشام أو أهل بيت المقدس أو أهل الدلو. وقال عياض رحمه الله: هم أهل الشدة والجَلَد. وذكر التادلي رحمه الله في مقدمة كتاب التشوف أن الحديث ورد في مسند بَقِيٍ بن مَخْلَدٍ رحمه الله، وهو كتاب تحت الطبع في الكويت، وعند الدارقطني رحمه الله بلفظ المغرب بميم قبل الغين[2]. فهل هو ما يسمى اليوم بالمغرب. وهل يجوز أن نقصر الخير في قطر دون قطر؟ نعم جاء في أحاديث صحاح تأكيد فضل أهل اليمن وأهل الشام وغيرهما. لكن نرجو أن تكون هذه الطائفة الموعودة المقاتلة على الحق المنتصرة القائمة على جهادها خلافة المنهاج النبوي أوسع دائرة وأعمق أثرا من أن يحصرها قطر.
في حديث نزول عيسى عليه السلام أن بعضنا على بعض أمراء، ونحن يومئذ ظاهرون أي لنا دولة وشأن في العالم. هذا يزيدنا فهما للبشارة. وتخصص أحاديث كثيرة -بلغ بها بعض المحدثين سبعين حديثا و أكثر- فيها الثوابت الحسان، دولة الإسلام آخر الزمان بنعت الهداية، تخبرنا عن المهدي من آل البيت الذي «يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا». من هذه الأحاديث ما رواه أبو داود والترمذي رحمهما الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني -أو من أهل بيتي- يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما مُلئت ظلما وجَوْراً». وهو حديث ثابت لا يقل عن درجة الحسن. وله عند أبي داود والترمذي وغيرهما رحمهم الله ظهائر كثيرة تقويه.
لكن الخطرَ كلّ َ الخطر في الفهم العامي لقيام المهدي الموعود. رجال قاموا في تاريخنا وتسموا مهديين ونفع الله بهم. معذورون إن اشرأبت أعناقهم للمزية الفريدة، ومعذور من قاتل عن الإسلام إلى جانبهم. وما هي إلا هَبَّات متتابعة التقى فيها الداعي المقتنع بقضيته بجمهور ينتظر. أما الانتظار البليد فهو الخطر. أن تبقى العامة في أحلام الانتظار وخموله دون النهوض والتشمير. ومن الفهم العامي أن يتصور الناس رجلا -بلغ ما بلغ من التوفيق والعلم والشجاعة والحيوية- يبرز فجأة والناس من حوله نيام خاملون فتحدث المعجزة. ولن يبلغ أحد ولا معشار ما خص به محمد ﷺ من التوفيق وكل خصال الخير. ومع خاصية النبوة والرسالة والعصمة فإن قيامه ﷺ تدرج على سنة الله في النبيئين قبله، واندرج جهاده في تاريخ الأرض وهو صراع ومدافعة ومغالبة. ولن يكون المهدي الموعود، الذي نصدق به جميعا أيتها الأمة من شيعة وسنة، إلا لحظة من لحظات الجهاد والخلافة على منهاج النبوة. ربما يكون زمانُه قمة الجهاد والخلافة كما تدل على ذلك الأحاديث الثابتة عندنا وعند إخوتنا. لكن حياة رجل يجدد الله به أمة ويوحدها لا تكفي لتهيء الإحياء والتجديد والتوحيد. والفهم السليم لأخبار المهدي هو ذلك الفهم الذي لا يعزل القدرَ المنحدرةَ إلينا حقائقُه، روايةً، عن شرع الله الذي يطلب إلينا دراية الجهاد وضرورة إيقاظ الأمة وتعبئة الطاقات.
الحديث السادس الذي أوردناه يشد من عزمنا على طريق الخلافة على المنهاج النبوي، إذ أحْضَرَنَا مشهداً غيبيا يشهد لنا فيه المسيح عليه السلام أن إمامنا مِنَّا، تحقيقا لبشارة حبيبنا محمد ﷺ بأن طائفة من الأمة لا تزال «ظاهرة» على الحق إلى يوم القيامة. والحديثان الرابع والخامس يفسران الظهور بأن الإسلام يعم أهل المَدَر والوَبَر، ويبلغ ملكُ هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها. وفي إطار هذه البشارة لا تتفرد أحاديث المهدي عن سياق القتال عن الدين والقوة في ذلك، حتى «لا يضرهم من خذلهم وناوأهم»، وحتى يقهروا عدوهم. ففي هذا السياق لا تكتسي قيادة رجل موفق مهدي حلة السماوية المحلقة فوق الواقع المتعالية عليه. وإنما بعد جهاد تاريخي لأمة موعودة. ولحاجة الناس إلى تجسيد المعاني في رجل تبلورت همم أجيال المسلمين حول الانتظار. ونرجو أن يستيقظ هذا الانتظار من خمول القرون، وأن يتحرر من القفزات التاريخية باسم الهداية لينشط زحف الأمة إلى غدها المحقق وعدا من الله ورسوله.
الحديث السابع:
روى الإمام أبو داود والإمام أحمد رحمهما الله بسند جيد عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «يوشك الأمم أن تَداعَى عليكم كما تَدَاعى الأكَلَةُ على قَصْعَتِها. فقال قائل: ومن قِلَّةٍ نحنُ يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل ! ولَيَنْزِعَنَّ الله من صدور عدوكم المهابةَ منكم. ولَيَقذفنَّ الله في قلوبكم الوهْن. فقال قائل: يا رسول الله ! وما الوهْن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت«.
هذا الحديث يوقظنا من الأماني المستقبلية لحاضر نعرف ما فيه من اتفاق عدونا على قتالنا حتى إننا قصعةٌ هنيئة يُحَلِّقُون حولها. ما أنصع بيانك يا سيدي يا رسول الله ! ونعرف كثرتنا عددا وهواننا على عدونا هوانَ الغُثَاءِ. ونعرف جرأة عدونا علينا حتى يغزونا في عواصم أقطارنا فلا نحركَ ساكناً. يا لله لبَيروتَ ومظلومي فلسطين وضحايا أفغانستان! ونعرف الوهْن -وهو كلمةٌ مِفتاحٌ- على شكل تخاذل قادة العرب والمسلمين واستسلامهم للعدو، بل تملُّقِهِم المَهِينِ على الأعتاب لتبقى الكراسي عليها أصنام طاغوتية تتماثل لتعبدها أمة التوحيد. ينبغي أن نزداد معرفة بكل هذه الأدواء لنتعلم كيف نستخلص النار من تحت الرماد، كيف نأكل بدل أن نترُكَ قادة الجبر يقدموننا لقمة سائغة للعدو، كيف نجند هذه الكثرة لتنهض بأعباء البناء، كيف ننفخ في الأمة نفَس العزة بالله، كيف نقتحم صروح العدو مفضلين الموت في سبيل الله على عيشة الهوان.
هذا الحديث يرجعنا إلى الأرض والزمان والحالة المزرية. والمسافة بعيدة بين الموعود المشرق والظلام المحدق. بين الأمة المقاتلة على عهد رسول الله ﷺ وعهد الخلافة الراشدة الأولى وبين الأمة الغثائية اليوم. بدأ الانتعاش والحمد لله وبزغ فجر الصحوة. لكن الدعوة اليوم في طفولتها لا ترقى لرجولة المهاجرين والأنصار ومن زاحمهم في الصف واصطف بالمناكب. رغم بطولات مجاهدينا في أفغانستان وعرامة الثورة الإسلامية في إيران لا تزال السِّمَةُ السائدة في سواد الأمة الخمولَ والوهْنَ.
إن أمة الإسلام أمة تؤمن بالغيب، ولا هدي في القرآن لمن لا يؤمن بالغيب. وما آمن من آمن إلا بالغيب: بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. كل ذلك غيب. غيب ينفعل له عالم الحس والشهادة بالإيمان الفاعل المحرك. تخاف الله وعقابه فتنفعل. ترجو جنته ورضاه فتنفعل. يَحْيَى قلبُك بحب الله ورسوله وبتصديق وعدهما وترتفع همتك لتكون ممن يحبهم الله ويقربهم إليه فيَرتفع عملك وجهادك ليسامي جهاد السابقين وعملهم. والله عز وجل الفاعل لا غيره.
إن مما يثبط العزائم ويدخل اليأس في الأمة تراخيها عن منافسة السلف الصالح وتلذذها بذكرهم وتسليها بتقديس أمجادهم، تعويضا عن ضآلة الحاضر وهوانه، وتحولا عن مواجهة أنفسنا لنحملها محمل الرجال. يقرأ بعضنا الأحاديث النبوية التي تشير لفضل الصحابة وفضل القرون الأولى، وينسى أن يتلقى الأحاديث الواردة في فضل الأجيال اللاحقة بما تستحقه من فرح واستبشار وتحفز للجهاد. لذا نورد الحديث الثامن ونبرزه كما أبرزنا أحاديث الخلافة الثانية وقوة الطائفة المهدية الظاهرة، وانتشار الإسلام وانتصاره.
الحديث الثامن:
أخرج أبو داود رحمه الله عن أبي أمية الشعباني رحمه الله أنه سأل أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: «ما تقول في هذه الآية: ﴿ عليكم أنفسكم﴾ ؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا ! سألتُ عنها رسول الله ﷺ فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مُؤْثَرَةً وإعجابَ كل ذي رأي برأيه فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوام. فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيها مثل قبض على الجمر. للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله». قال أبو داود رحمه الله: وزادني غيره: قال يا رسول الله ! أجر خمسين منهم ؟ قال: أجر خمسين منكم».
هذا حديث صحيح أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة وابن حبان رحمهم الله. قال الترمذي رحمه الله: حديث حسن.
فيه حث على الائتمار بالمعروف والتناهي عن المنكر. وهما واجبان على الأمة وجوب كفاية، يُسْتثنَى من الوجوب من لا يستطيع أن يقوم نفسه وغيره. فذاك يفتح الحديث له رخصة التزام خُوَيْصَّةِ نفسه والابتعاد عن العامة. وتحت الحكم العاض والجبري انزلق مجال الوجوب الكفائي فأصبح استثناء وتحول الاستثناء المرخص للضعفاء قاعدة عامة. وهكذا عم الرضى بالظلم والخنوع لسلطان القهر والسيف.
في زماننا وصل الشح المطاع ذروته على شكل مستكبرين استأثروا بثروات الأمة. ووصل الهوى المتبع غايته بفشو الفجور والفسق والردة والفساد. واتسع الناس في الدنيا وتنافسوها ونسُوا الآخرة. وتنازعت السلطانَ على رقاب الأمة طوائفُ متشاكسة تستند إلى مدارس وثقافات دخيلة علينا. فما يجد طلاب العذر وملتمسو الرخص فرصة أبين من هذا ليستروا وَهْنَهم وراء تأويل الحديث النبوي.
أما من يحمل همم الرجال، ويتصدى لمهمات الرجال، ويحدث نفسه بمزاحمة الرجال على باب الله الكريم الوهاب، فهي الغنيمة المثلى: أن يصبر في الواجهة ويقاتل لنصر الله، مقتحما وهج نيران الفتنة، ولفيح التيار الجاهلي الغازي، فيفوز بالعمل الفرد بأجر خمسين منهم رضي الله عنا وعنهم.
من الناس من يقرأ شطر الحديث ويقف عند رخصة الانزواء عن العامة، أي تطليق هم مصير الأمة. وتلزم جهود لنضع في بؤرة اهتمام هذه الأجيال هذه العزمة النبوية على شد القبضة والصبر ساعة على مرائر الجهاد. وإنها لمأدُبَةٌ من الله ما أكرمها ! ولا ينهج منهاج النبوة من لا يصبر كما صبر الأولون ويعمل للذي عملوا.
[1] كذا في المسند. ولعل المتن يستقيم هكذا: في مسجد رسول الله ﷺ.
[2] في جل مخطوطات صحيح مسلم: لا يزال أهل المغرب بالميم.