أ. د. إبراهيم أبو محمد
الشهر وإدارة الذات:
* الإنسان منذ خلق وتركيبته الجسدية والعضوية واحدة حتى هذه اللحظة، فهو عبر الأجيال الزمنية والحدود الجغرافية يتمتع بوحدة بيولوجية عجيبة لا تفرق بين إنسان وإنسان، بين الفقير أو الغنى بين إنسان الشمال أو إنسان الجنوب.
* وكان يفترض أن تكون الوحدة البيولوجية الدقيقة والتي استمر قانونها الصارم يحكم تكوين النوع البشري عبر الأجيال دليلا واضحا على وحدة المصدر منذ الخلق الأول، وأنه وحده الذي أوجد من عدم وظلت رعايته وعنايته تصاحب مسيرة الإنسان وتمده بالفضل حتى بلغ أشده واستوى عوده ونضج عقله وظهرت مداركه وتحققت حريته في الاختيار.
* وهنا كان السؤال: أليس من حق الخالق أن يعرف؟ أليس من حق الرازق أن يذكر وأن يشكر؟ ومن ثم كان التكليف بالإيمان مطلبا طبيعيا يجيب نداء الفطرة ويتسق مع طبيعة التكوين ويتوافق مع الدور الذي ارتبط بالذات الإنسانية منذ وجودها الأول ممثلة في آدم ودوره في عمارة الأرض وإدارة الحياة على أسس وقواعد قاعدتها الأولى معرفة الله والإيمان به، ومساحة الحركة فيها تبدأ بأولويات تحقيق العدل ورعاية الحرية وحماية الكرامة الإنسانية ثم تتمدد وتتسع لتشمل كل خير وبذلك يتحقق للذات الإنسانية أعلى مستويات العدل والحرية والكرامة الإنسانية حين يمتزج في كيانها شرفان تنفرد بهما دون غيرها من كل الكائنات.
* شرف عبوديتها لله بعد معرفتها به وإيمانها بمنهجه رسالة ورسولا
* وشرف سيادتها في الكون خلافة عنه بتحقيق ذلك المنهج خدمة لعباده ورعاية لهم وتيسيرا عليهم وترشيدا لسعيهم وحرصا على سعادتهم.
* غير أن الناس قد شطحت بهم العقول شطحات في بحث بداية الخلق، خربت عليهم فطرتهم وتاهت بهم في فلسفات جعلتهم يتخبطون بين نظرياتٍ نسبة الخطأ فيها أضعاف أضعاف ما فيها من الصواب، وحجم الخرافة فيها أضعاف أضعافٍ ما فيها من الحقيقة، هنا يتدخل البيان الإلهي لينهى الجدل العقيم وليحمي طاقة العقل من التبدد والضياع في متاهات التخبط والظنون بغير يقين من العلم فيرصد هذا التخبط في صيغة سؤال أولا فيقول:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ.} (الطور ٣٥ـ ٣٦).
* وثانيا: بما أنه لم يٌعْرفْ من البشر عاقل ادعى أنه خلق نفسه أو أنه خلق غيره، ومن ثم فإن السؤال هنا ليس له إلا إجابة العاجز، ولذلك فالبيان الإلهي حسم القضية لصالح المنطق السوي بمقدماته الصحيحة ونتائحه الموحدة التى لا تختلف ولا حتى في جزئياتها ليشهد العقل السليم بالتسليم للخالق الأعلى مرتين:
* مرة بأنه هو الله وحده ولا شريك له، وأنه وحده المتفرد بالخلق والإيجاد.
* والمرة الثانية ليشهد العقل السليم فهما وتسليما وتعبدا بصدق البيان الإلهي بأن الكل هناك قد كان غائبا في العدم، حيث لا أحد ولا كل هناك غير الواحد الأحد.
* {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (الكهف ٥١)
* والوحدة البيولوجية تبقى دلالة على بصمة المصدر في الإيجاد من عَدَمٍ والإمداد من عُدْم تشهد بها الفطرة في الذات الإنسانية لتنبئ عن قدرة الخالق في وحدة الذات الإنسانية من حيث مصدرها الأصلي “{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (المؤمنون:١٢ـ ١٤).
* الوحدة البيولوجية هذه لا تمنع من تعدد الألوان واللغات والأجناس، وإنما تبقى شاهدة على إبداع الخالق في التنوع والاختلاف {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم ٢٢).
* وهو اختلاف يكون في الكم ويكون في الكيف، أي أنه اختلاف يكون في الكم عددا بالزيادة أو النقص، ويكون في الكيف تنوعا في القدرات والملكات والاستعدادات التى تميز شخصا عن آخر من البشر أو تميز مخلوقا عن آخر من المخلوقات.
* والتميز والاختلاف هنا لا يكون في أصل الجنس، وإنما يكون في الملكات والقدرات والطاقات و عمليات استخدامها وتوظيفها ، ومن ثم فهو سبحانه خالق كل شئ، وقد حمد نفسه نيابة عنا لأن العاجز الفقير لا يفي مهما أُوتى من بلاغة بحمد سيده والثناء عليه، وليعلمنا كيف يكون الحمد ويشرح لنا أيضا كم التنوع وحجمه في الإبداع الأعلى أرضا وسماء وما بينهما {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . (فاطر١)
* الملكات المتراصة والمتنوعة والمكونة للذات الإنسانية بين عقل وقلب، وجسد وروح ورغبات وشهوات قد تسمو بالإنسان وقد تسقط به.
* بين فكر يصيب فيرقي الحياة ويضيف إليها وتزدان به، أو بين فكر يشرد فيضل الحياة ويخزيها ويشقيها.
* بين عاطفة تتسع بالحب فتسع الناس والأحياء، أو تضيق بالكراهية والحقد فتكره كل شئ حتى نفسها.
* وحتى لا تتناقض هذه الملكات والقدرات في أدائها ولا تتصادم في توجهاتها ومسارها، ولكي تشكل منظومة متناسقة تعمل معا لابد لها من عملية تنظيم داخلى وخارجى أستأذن القارئ أن أسميها (إدارة الذات).
* وإدارة الذات كي تنجح وتحقق الهدف لابد لها من برنامج عملى ومحدد يتضح فيه المطلوب وكيفية تنفيذه والزمن والمكان المقرر والمفضل لذلك التنفيذ، ومن ثم كانت كل عبادة ترتبط بوقت معين، كما ترتبط بعض العبادات بأماكن معينة وفي زمن معين.
* هذا البرنامج لا يتم إعداده وصياغته منى أو منك ، فالفكر البشري مهما سما لابد أن يحمل بالضرورة طابع الأرض لأن كل شئ فيه يخضع لقانون الزمان والمكان ـ كما يقول المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي ـ فطابع الأرض ـ بموجب خضوعه لقانون الزمان والمكان ـ هو النقص والتناقض والتغيير والتحول، ومن ثم كان لابد لهذا البرنامج أن يأتى تشريعا من المصدر الذى خلق فسوى وقدر فهدى، ولكن تنفيذ وتطبيق إدارة الذات لابد أن يكون بإرادة الذات لا رغما عنها ، ومن ثم كانت التكاليف الشرعية مرتبطة بحرية اختيار الإيمان والقدرة على تنفيذها، وحرية اختيار الإيمان بالطبع عملية عقلية محضة، ولذلك كان العقل شريك النص في معرفة الحقائق ومن لا عقل له فلا تكليف عليه.
* وأمام هذا العقل تعرض أنواع الهداية بأدلتها التفصيلية الشارحة ليكون اختيار المرء على علم لا يداخله ظنون وعلى يقين لا يشوبه شكوك أو غموض.
* زمان العرض لأنواع الهداية بأدلتها التفصيلية كان شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
* هدى للناس في مجال العقيدة فيطرح تصور الالوهية بما يليق بالذات الإلهية من صفات الكمال والجمال والجلال، وبكل كمال في التنزيه بعيدا عن ضلالات التجسيم وضبابية التشبيه ، فهو سبحانه مخالف للحوادث فلا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس، وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير )، ويسوق القرآن أدلة الوحدانية والتنزيه من أقرب وجه وبأقوي حجة وأصدق دليل، ولا يكتفي البيان الإلهي في سوق الدليل والحجة بمخاطبة العقل وحده ، وإنما يحيط بالنفس من كل اتجاه ويدخل إليها من كل مدخل ويتسلل إليها من كل منفذ حتى لا يترك لها فرصة الهروب من مواجهة الحق.
مفتي عام القارة الأسترالية