بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)
٢- معرِّفات الإنسان في القرآن
نظراً لعلو شأن الإنسان، ومحورية دوره في الوجود؛ فقد ظل “المحور الأساسي في البيان القرآني يدور عليه القول في سائر الأغراض، وتعود إليه المعاني في سائر المقامات، وليس ذلك في مجال الخطاب التكليفي فحسب مما يبدو بدهيا؛ إذ القرآن خطاب من الله تعالى للإنسان، ولكن في كل مقامات الشرح الوجودي في مختلف الأغراض، وهو ما يشهد بأن للإنسان مقاماً في القرآن الكريم يغاير في النوع مقام الموجودات الأخرى جميعا”[1]. وبيان هذا المقام بما يلي:
أ- الهوية الأولى
لما أخبر الله تعالى لملائكته عن مقدم الإنسان، عرفه بقوله:﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة:٣٠، أي سماه حصراً “الخليفة في الأرض”. بهذا الإعلان تبدأ قصة الإنسان في القرآن، ليبرز مركزه الرفيع، وميزته الأولى في الوجود، ودوره المركزي في الحياة والعمران، ما أثار تساؤل الملائكة:﴿قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ البقرة:٣٠.
ويتأكد تميزه ورفعته في معنى استخلافه؛ وهو “الخلافة عن الله تعالى لتنفيذ مراده في الأرض وإجراء أحكامه فيها، وهذا معناه أن يكون الإنسان سلطاناً في الكون بغاية تطبيق المهمة التي كلفه بها المستخلِف-الله- ائتماراً بما أمر وانتهاءً عما نهى”[2]. أي أن استخلافه اقتضى أن يسلَّم مقاليد الأرض، ويطلَق فيها يده، ويوكل إليه إبراز مشيئة الخالق في عمارتها بشتى ألوان النشاط الحيوي، عبر كشف ذخائرها وإمكاناتها، لتسخيرها في مهمته لتحقيق “إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها.كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي” [3].
ومفاد ذلك أن موقع هذا المركز الإنساني الرفيع ضمن التصور الكلي للوجود؛ أي من الله ومن الكون هو”موقع ‘الوسط، العدل، الحق’، فهو ليس محور الكون وسيده، وإنما هو خليفة الله فيه، وسلطانه في عالمه، وسيادته على الطبيعة ليس مطلقا، ولا هي بالسيادة المطلقة، وإنما يحكمه ويحكمها إطار وبنود عهد الاستخلاف”[4]، لتضبط حركته الاستخلافية العمرانية. وتتمثل فيما شرعه الله تعالى من أحكام وتشريعات، عليه اتباعها ليفلح في مهمته، وقد قال سبحانه في ختم مشهد إعلان استخلافه:﴿قُلۡنَا ٱهۡبِطُوا۟ مِنۡهَا جَمِیعࣰاۖ فَإِمَّا یَأۡتِیَنَّكُم مِّنِّی هُدࣰى فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ البقرة:٣٨؛ فقوله:﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾،”هو في معنى العهد أخذه الله عَلى آدم، فلزم ذريته أن يتبعوا كل هدىً يَأتيهم مِن الله … وأولى الهُدى وأجدرُه بوجوب اتِّباعه الهُدى الذي أتى من الله لسائر البشر، وهو دِين الإسلام الذي خوطب به جميع بني آدم”[5].
وحين قضى الله تعالى باستخلاف الإنسان، زوده بلوازم ذلك وخصائصه؛ فوهبه الملكات والصفات التي “لابد منها لتتكامل لديه القدرة على إدارة شأن هذا الكون وتعميره واستخدامه” [6]. وعلى رأسها ملكة “العقل”، مناط تكليف الإنسان وسبب تميزه عن جميع الخلق، ولعلها المقصودة حين أجاب الله تعالى الملائكة:﴿قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَالَا تَعۡلَمُونَ﴾ البقرة:٣٠؛ فبين أن ميزة هذا الخليفة ما يملكه من القدرة على العلم والتعلم وإدراك ما يتعلمه:﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَاۤءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِی بِأَسۡمَاۤءِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ﴾ البقرة:٣١. ولعلو قيمة هذه الميزة العقلية فيه، كان أول الوحي في الرسالة الخاتمة للبشرية: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ …﴾ العلق:١. فالقراءة والعلم أولى الفرائض القرآنية، وفي ذلك دلالة قوية على أنها الأساس والعمدة لإنجاز كل ما يأتي بعدُ من المسؤوليات والتكليفات.
إن العقل هو أداة الخليفة الكبرى للقراءة في آيات الله في الكتابين الوحي والكون [7]، ليحصل معارفه اللازمة (تيسيراً وتسخيراً) [8]، لاستثمارها في إنجاز استخلافه:﴿كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦلعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ البقرة:٢٤٢. فالمقصود بالعقل “تلك القوة الإدراكية المعيارية في الإنسان التي على أساسها حمل أمانة الخلافة، والتي على أساسها خوطب بالوحي ليتحمله فهماً وتطبيقاً. وهذا المفهوم يتجه في التحديد وجهة المقابلة بين وسيلة إلهية للكشف عن الحقيقة هي الوحي، ووسيلة إنسانية هي العقل الذي يتسع بهذا المفهوم ليصبح
مستجمعاً لكل قوى الإدراك والتمييز في الإنسان، وهو ما يشير إليه قوله تعالى:﴿إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا﴾ الإسراء:٣٦”[9].
فيتبين أن الإنسان جُعل مستخلفاً على أساس ميزته العقلية، ومعناه “ابتداءً أن منهج الخلافة بأسره متأسس على العقل الإنساني في تنزيله على الأرض، فهو وسيلة ذلك التنزيل، ولولاه ما كان وجد منهج للخلافة أصلا. وهذا الوضع الذي تبوأه العقل في التنزيل الأرضي لمنهج الخلافة يجعل دوره عظيماً في إنجاز ذلك التنزيل، لما يستلزم ذلك الإنجاز من التحرك بين ذلك المنهج في صورة الوحي الإلهي المتعالي، وبين الواقع المادي لحياة الإنسان في دائرة الكون حركة تجعل من ذلك الوحي الإلهي في صورته المجردة واقعاً حياتياً نافذًا، وهو ما يقتضي استيعاب الوحي من جهة، وتكميل ما تركه للتفصيل بحسب المنقلبات المستمرة من جهة أخرى، والعمل على سوق هذا وذلك في سبيل التنفيذ العملي من جهة ثالثة”[10].
ب- معرفات كبرى للإنْسان:
مما تقدم تبرز “الخلافة في الأرض” هويةً للإنسان الأولى في القرآن [11]، لتأتي المعرفات القرآنية الأخرى تفاصيل تخدُمها؛ تنضم إلى سياقها وتتسق معها، وتعبر كل واحدة عن جانب من جوانبها، وصورة من صور أدائها [12]، وهي ترد كحقائق أساسية كبرى، يتشكل بمجموعها كامل التصور الكوني الكلي حول الإنْسان وموقعه في الكون ودوره في الحياة. نذكرها مختصرة فيما يلي:
المعرف التكويني: يوفر لنا القرآن الكريم عرضاً شاملاً ويقينياً لمسألة خلق الإنسان وطبيعة تركيبه، يجمله قوله سبحانه:﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ﴾ التين:٤، ويفصله في قوله:﴿ٱلَّذِیۤ أَحۡسَنَ كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقَهُۥۖ وَبَدَأَ خَلۡقَ ٱلۡإِنسَـٰنِ مِن طِینࣲ * ثُمَّ جَعَلَ نَسۡلَهُۥ مِن سُلَـٰلَةࣲ مِّن مَّاۤءࣲ مَّهِینࣲ* ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِیهِ مِن رُّوحِهِۦۖ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ﴾ السجدة ٧-٩. فهذه هي البنية الخِلقية الإنسانية المسواة؛ جانبها الأول مادي من طين الأرض؛ والثاني نوراني من روح الله. والإنسانُ هو الكائن الوحيد الذي يلتقي فيه الجانبان في أحسن تقويم وقَوام، “أي عدل وتسوية، وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة”[13].
وهذا القوام الأحسن الذي تفرد به الإنْسان وتميز، يأتي ليتطابق مع اسمه “إنسان” -كما سبق- تناسباً مع ما أوكل إليه من الأدوار الأساس في المهام الاستخلافية؛ إذ يساعده على تأديتها على الوجه الأصح والأكمل؛ فجانبه الروحي يمكنه من السمو والعلو نحو الأفق الإلهي ليقبس منه مضمون الخلافة أمراً ونهياً على سبيل الإدراك والاستيعاب والتحمل، وجانبه المادي الأرضي يمكنه من مباشرة الأرض بالسعي فيها لعمارتها [14].
معرِّف قيمته في الكون: مما يبرز مركزية دور الإنسان في إعمار الأرض، هذا الجانب المتعلق بقيمته في الكون وعلاقته به؛ فمعلوم أنه يتساوى معه من حيث المخلوقية والمعلولية لله تعالى، لكنه يتميز عنه قيمةً؛ ويستقل بسلم قيمي خاص، يجعله يتبوأ فيه مركزاً مستعليا عليه، متصرفاً فيه بمقتضى مقام الخلافة [15]؛ إذ جُعل استخلافه متعلقاً بالمسرح الكوني؛”بارتباطات شتى مع السماوات ومع الرياح ومع الأمطار، ومع الشموس والكواكب … وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة”[16].
ولهذا، يرد الحديث القرآني عن الكون دائماً مرتبطاً بوظيفة الإنسان ببعديه؛ فجاءت مقيسةً عليها الإنسان خادمةً لها، بما هي “مباشرة الإنسان للكون بالروح وبالجسم: اعتباراً به، واستثماراً لمنافعه وخيراته”[17]. وهكذا تتحدد الوظيفة الكونية بمستويين:
* مستوى التدليل: حيث تعرض عليه آيات الكون في سياق الاستدلال على سائر مسائل الإيمان وحقائقه، لقوله تعالى:﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ فصلت:53؛ فلقد جعل سبحانه ملكوته أكبر دليل على ربوبيته وألوهيته، وهو ما يمثل مصدر التزويد بالحاجات الروحية والمنافع الإيمانية للإنسان. فـ”وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى، المعرفة التامة، أن يفحص عن منافع الموجودات” [18].
* ومستوى التسخير: وذلك في سياق المن بالنعم، والأمر بالسير فيه لكشف نواميسه، لتوظيفها في القيام بالأداء العمراني، وتلبية حاجاته المادية، كقوله تعالى:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾ الجاثية:١٣. ومعنى التسخير أن الله تعالى “هيأ العالم بحيث يكون صالحاً لاستقبال الإنسان، وسخر موجوداته لخدمته تسخيراً، فحدد الأبعاد والقوانين والأحجام بما يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان في الأرض، وما يستجيب لقدرته على التعامل العمراني مع الطبيعة تعاملا إيجابيا فعالاً”[19]. فهو بمثابة تفويض الإنسان حق التصرف في خيرات الطبيعة والكون بما يرضي الله، ليلبي حاجاته ومصالحه المادية.
وهكذا، يبرز البيان القرآني الكون خادماً للإنسان مهيأ ليلبي حاجاته الروحية والمادية، وهو كتاب الله المنظور الذي تُقرأُ فيه حقائق الوجود والإيمان، فضلاً أنه يوفر له ما يلزمه لممارسة فعله العمراني. إنه “مسرح العمل الإنساني، إن بالمباشرة الفعلية، وإن بالتأمل والتدبر”[20].
جـ- معرِّف الغرض الوجودي
يعتبر الغرض الوجودي للإنسان أهم حلقة في سلسلة التصور القرآني الكوني المبيَّن في قوله تعالى:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، الذي يتناول أضخم الحقائق الكونية التي لا تستقيم الحياة الإنسانية بدون إدراكها واستيقانها. إنها العبودية لله وحده، فلسفة القرآن للحياة والأحياء التي بها يفهم الوجود كله؛ فتحدده كثنائية طرفاها خالقٌ وكونٌ (إنساناً وطبيعةً)، أي مقام الألوهية بخصائصها، الصادر منه كل شيء وإليه يرجع، ومقام العبودية بخصائصها، مقام كل مخلوق. فتتنوع صور هذه العبودية تبعاً لهذه الثنائية؛ كل طرف يعبد الله على شاكلته التي جبل عليها، فيصبح لها صورتان:
*الأولى: تخص كل الموجودات ما عدا الإنسان، تعبد الله بالتسخير؛ فلا حرية ولا اختيار ولا إرادة:﴿إِن كُلُّ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّاۤ ءَاتِی ٱلرَّحۡمَـٰنِ عَبۡدࣰا﴾ مريم:٩٣،﴿وَلِلَّهِ یَسۡجُدُ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعࣰا وَكَرۡهࣰا وَظِلَـٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡـَٔاصَالِ﴾ الرعد:١٥. فقَدَرُها أن تظل ساجدة لله على الدوام، آخذة بموقعها ثابتة منذ لحظة خلقها [21].
* الثانية: تخص الإنسان المخلوق المتميز، الذي يعبد ربه عبادة خاصة؛ تتناسب وامتيازاته وخصائصه من حرية الإرادة والاختيار، وخلقته المزدوجة التي ركب بها، عبادة ارتكزت على الكدح والمكابدة:﴿لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِی كَبَدٍ﴾ البلد:٤،﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدحࣰا فَمُلَـٰقِیهِ﴾ الانشقاق:٦. فقدره “أن يكدح ويكابد ليتبوأ موقعه، ويقوم بتعريف نفسه، قدره أن يعمل لتحقيق السجود، ويقتحم كل العقبات المانعة له من ذلك:﴿أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَیۡنَیۡنِ * وَلِسَانࣰا وَشَفَتَیۡنِ * وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ * فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ * وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوۡ إِطۡعَـٰمࣱ فِی یَوۡمࣲ ذِی مَسۡغَبَةࣲ * یَتِیمࣰا ذَا مَقۡرَبَة * أَوۡ مِسۡكِینࣰا ذَا مَتۡرَبَةࣲ * ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡمَیۡمَنَةِ﴾ البلد:٨-١٦”[22].
وتشمل العبادة الإنسانية في معناها القرآني كل صور الحياة وشتى الأعمال فيها المادية والمعنوية التي بها تعمُر الأرض بالخير المادي، إلى جانب الفضيلة والسمو الأخلاقي، فيحقق كماله الإنساني؛ فهي ليست قضية شعائر فقط؛ “وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة، وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة”[23]، فلا تعني الانقطاع والتجرد عن الدنيا، بل هي تطويع الإنسان لكل طاقاته لله؛ فيضع بصماته المؤمنة على الأرض ويجعلها وكل ما فيها ساجداً له، تؤدي وظيفته وتحمل طابعه وكأنها امتداد لنبض قلبه وبطش يده. وهل ملَّكَ الله الأرض للإنْسان إلا لهذا!![24]، بل وهل معنى الخلافة في الأرض عن الله إلا تعبيدها له!!؟.
*****
جمْلةً القول إذاً أن قصة الإنسان في القرآن التي عنوانها “الخليفة في الأرض”، قد سيقت لتبرز مكانته وما أدت إليه من “تغير جذري في النسب بين الموجودات، حيث أصبح القطبَ الوجودي الذي ترنو إليه المخلوقات جميعا، وتتحدد قيمتها بقدر ما تقترب منه أو تبتعد عنه، وما جاء من سجود الملائكة لآدم، وقد كانوا أشرف المخلوقات ونيلهم بذلك الرضا الإلهي، ومن امتناع إبليس من السجود ونيله بذلك اللعنة والخسران، إنما هو رمز لتحول في قطبية المخلوقات لتكون في صالح هذا القادم الجديد” [25].
إنها تأتي لتنبئ عما يحمله ويتحمله من دور عظيم هو الأول في أداء مسؤوليات الحياة الأرضية التي أُمر بالهبوط إليها؛ “فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها. وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلاً سلبياً كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر!”[26].
ولكي يستحق هذه المكانة ويفلح في تأدية مهامه، يلزمه شرط صحةٍ، ومؤهلٌ لا غنى عنه، وإلا لا يَصْلُحَ لها .. وهو المحور التالي.
(*)- أصل هذه السلسلة ورقة علمية في مؤتمر”العمران والقرآن ” لمؤسسة منارات الفكر الدولية بإسطنبول المنعقد يومي ٩-١٠ فبراير٢٠٢٢م، بعنوان:”مركزية دور الإنسان في بناء العمران من خلال القرآن”، ونشرت في كتاب مؤتمر”العمران والقرآن”، والرقم الدولي المعياري: 978-1-9163760-3-8، والباحثة د. فاطمة الزهراء دوقيه دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: duquehfatimazahra@gmail.com
الهوامش:
[1]-عبد المجيد عمر النجار، قيمة الانسان، سلسلة الإنسان في العقيدة الإسلامية (٢)، دار الزيتونة للنشر، الرباط، ط١،(١٤١٧ه/١٩٩٦م)، ص ٥-٦.
[2]– عبد المجيد عمر النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط١، (١٤٠٧ه/١٩٨٧م)، ص 47–٤٨.
[3]– سيد قطب، في ظلال القُرْآن، ج ٦، دار الشروق- مصر، ط٩ الشرعية، (١٤٠٠ه/١٩٨٠م)، ص ٣٣٨٧.
[4]– محمد عمارة، معالم المنهج الإسلامي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة- القاهرة، والمعهد العالمي للفكر الاسلامي- فرجينيا، ط1، (1429ه- 2008م)، ص ٣٧-٣٨.
[5]– محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج ١، الدار التونسية للنشر- تونس، ط ١٩٨٤م، ص ٤٤٣-٤٤٤.
[6]– محمد سعيد رمضان البوطي، كبرى اليقينيات الكونية؛ وجود الخالق ووظيفة المخلوق، دار الفكر المعاصر- بيروت، ودار الفكر- دمشق، ط 25، (1426 ه/٢٠٠٥م)، ص ٦٥.
[7]– يراجع طه جابر العلواني، الجمع بين القراءتين؛ قراءة الوحي وقراءة الكون، سلسلة دراسات قرآنية (٢)، مكتبة الشروق الدولية- القاهرة، ط١، (١٤٢٧ه/٢٠٠٦م)، ص ١٤-٢٠.
[8]– يراجع أحمد عبادي، الوحي والإنسان؛ نحو استئناف التعامل المنهاجي مع الوحي، دار النيل للطباعة والنشر- تركيا، ط١، (١٤٣٤ه/٢٠١٣م)، ص ٧٣.
[9]– خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، مرجع سابق، ص ٥٨-٥٩ .
[10]– نفسه، ص ٥٩.
[11]– يراجع علي شريعتي، الإنسان والإسلام، ترجمة: د.عباس الترجمان، مراجعة: حسين علي شعيب، سلسلة الآثار الكاملة (22)، دار الامير للثقافة والعلوم، بيروت، ط 2، (1428ه – 2007م)، ص ١٥-١٦.
[12]– خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، مرجع سابق، ص ٤٧.
[13]– ابن عاشور، التحرير والتنوير، ٣٠/423 – 424 .
[14]– النجار، قيمة الإنسان، مرجع سابق، ص 19 .
[15]– يراجع نفس المرجع، ص ٦-٧.
[16]– في ظلال القرآن، مرجع سابق، ١/٦٠.
[17]– خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، مرجع سابق، ص 49.
[18]– ابن رشد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، مع مقدمة في نقد مدارس علم الكلام، تحقيق: محمود قاسم، سلسلة في الدراسات الفلسفية والأخلاقية، مكتبة الانجلو مصرية، ط ١٩٦٤م، ص ١٥١.
[19]– خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، مرجع سابق، ص 42 ..
[20]– قيمة الإنسان، مرجع سابق، ص 57.
[21]– الوحي والإنسان، مرجع سابق، ص٩١-٩٢.
[22]– نفسه، ص ٩١-٩٢.
[23]– في ظلال القرآن، ٤/١٩٤٣.
[24]– محمد الغزالي، علل وأدوية؛ دراسات في أمراض أمتنا ووسائل الاستشفاء منها، دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع- الإسكندرية، ط٦، (١٤٢٧ه /٢٠٠٦م)، ص١٨.
[25]– خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، مرجع سابق، ص ٤٠-٤١.
[26]– في ظلال القرآن، مرجع سابق، ١/٦٠.
What would you do to me if you were in my vila? http://prephe.ro/Bdsn