✍️ أ.د. أحمد محمد زايد(*)
سلطة الفقهاء في المجتمع الإسلامي
كي يظل المجتمع الإسلامي مشدودا نحو المثالية الإيمانية والأخلاقية التشريعية لابد من سلطة بل مجموعة سلطات مادية ومعنوية تساعده في تحقيق هذا التطلع والانجذاب نحو المثالية، ومن السلطات المهمة في الجانب التشريعي: “سلطة الفقهاء”. ولربما تساءل البعض تعجبا: وهل للفقهاء سلطة لدى المسلمين؟، ولإزالة ذلك العجب نقول: يقرر الإسلام ألا وساطة بين الله تعالى وبين خلقه على غرار ما عرف في ملل وأديان أخرى، يقول الأستاذ محمد أحمد الراشد في رسالته “سلطان الإيمان” (ص16): (والمسئولية في الإسلام مسئولية فردية يتحمل بموجبها كل أحد نتائج عمله، وهو المكلف بإصلاح الخطأ الذي يقترفه، ولن يستطيع فقيه أن يمنحه مغفرة كما يمنحها طريق الكنيسة، فسمو المحتوى الموضوعي الإسلامي هو الدليل على البراءة من الكهنوتية)، اذا سلطة الفقهاء ذات طبيعة إيجابية محددة، وهي سلطة ضرورية كما سيظهر.
➖ سلطة الفقهاء إجمالا:
سلطة الفقهاء تمثل دورا جليلا ووظيفة مؤثرة في مسيرة الفقه والتشريع تتمثل إجمالا في ضبط الحالة التشريعية، وذلك بمراقبة مسيرتها النظرية والتطبيقية وحمايتها من الخلل والانحراف، وقد أخبرتنا السنة عن عدول كل جيل وخلف من حيث وظيفتهم حيال دينهم حيث” ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”، وهم كذلك القائمون على دفع مسيرة الفقه نحو الاستمرار والتجدد بدوام الاجتهاد والنظر لتظل الحياة الإسلامية شابة بتشريعاتها لا تأسن ولا تجمد.
➖ لماذا سلطة الفقهاء؟
لا زلنا نقرأ أن في كل جيل اتجاهين دائمين:
الأول: المتشددون الغلاة، والمبطلون المفترون، والجاهلون الذين يميلون بالشريعة ذات اليمين وذات الشمال.
الثاني: العوام الذين يغلب على الكثير منهم أنهم أصحاب حيل ومراوغة يتحينون بها التفلت من قيود الشرع وضوابطه وأحكامه.
وتجاه هذين الاتجاهين وجب أن يكون هناك حماة ورعاة للأحكام الشرعية يحمونها من كل انحراف عملي أو تحريف نظري، وتتحقق تلك الحماية والرعاية بسلطتين:
الأولى: سلطة الأمراء.
والثانية: سلطة العلماء.
وحديثنا هنا حول سلطة العلماء، تلك السلطة التي منحها الله تعالى لأهل العلم الراسخين القائمين بوراثة النبوة الشريفة، وهذه السلطة تعد تكليفا عظيما في حق أهلها، حيث رد الله الناس في سؤالهم واستفتائهم إلى أهل العلم فقال سبحانه: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
يقول الراشد في رسالته المذكورة آنفا (ص 16) (وأما سلطة الفقيه فهي لازمة لانتظام الحياة، كأي رئاسة فعلية أو معنوية، وللديمقراطية سدنة يحفظونها وفلاسفة يفتون في أمرها، وكذلك حياتنا الإيمانية: من تمام مضيِّها في الإنتاج والتأثير: قبول رقابة أئمة الفقه والعقيدة والامتثال الأخلاقي عليها، وإمامة المؤمنين هي التي تعادل المسيرة الحيوية وتمنحها التوازن).
➖ طبيعة سلطة الفقهاء:
تتعدد مهام الفقهاء في المجتمع الإسلامي لتتشكل في النهاية من جملتها ما يمثل حالة نسميها “سلطة الفقهاء” وهي سلطة معنوية مهمة، ويمكن تصورها على النحو الآتي:
🛑 تلبية حاجات الأمة من الفتاوى والإرشاد الفقهي والتشريعي، فينبغي على الفقهاء أن يجتهدوا في مواكبة واقع الأمة ويفتوها في نوازلها، فتلك وظيفتهم التي تدخرهم الأمة لها، وقد غلب هذا الشعور على قلوب علماء السلف حتى أطار النوم من عيون فقيه كبير هو محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة، فقد كان لا ينام إلا قليلا فقال له تلامذته: ألا تنام؟ قال لهم: كيف أنام وأمة محمد تنتظرني؟ الناس يقولون عندنا محمد بن الحسن إن نزلت بنا نازلة رجعنا إليه. او شيئا بهذا المعنى.
🛑 دوام الاجتهاد والنظر والتجديد لإصلاح الواقع بالإسلام ومزاحمة التشريعات الجاهلية الزاحفة على حياتنا الإسلامية.
🛑 الرقابة على السلطة التشريعية في الدولة وتقويم انحرافاتها، لضمان عدم خروجها عن حكم الشريعة وسلطانها، مع دوام نصح الحكام والقضاة.
🛑 الرقابة على السلوكيات العملية في المجالات المختلفة الاجتماعية والمالية وغيرها، بحيث تكون كلمة الفقهاء حاضرة ومؤثرة ومسموعة فيما يحل منها وما يحرم لتظل الحياة في أنظمتها المختلفة سائرة وفق منظومة التشريع الحنيف.
🛑 التيسير على الناس في أزمنة الحرج والضيق، ودفع الأغنياء إلى البذل والعطاء عند الحاجة العامة والشدة.
وقد لخص الراشد تلك المهام في قوله: “أنهم حراس الوحيين، ومصدر الفتوى والاجتهاد، وعامل التذكير والموعظة والردع أو الحث، ومجموعهم يمثل كتلة مباركة أخرى وجهت الأمة أيام الجهاد والمحن والفتن، وأيام النشاط الحضاري أو الغفلات….فكم من أيام امتلأت حرجا وكانوا هم حملة اليسر الذي يبدده، وكم من حالكات كانوا هم النور الذي أضاء بعدها، وكم تجد لأقوالهم من حلاوة وطلاوة، ولأعمالهم من آثار حاسمة، فهم زناد الأمان، وقلب الأمة النابض، صوَّاغ الفكر القيادي، ولولاهم ما انضبط مجاهد، ولا انصلح سياسي، ولا بذل غني) (سلطان الإيمان:ص9 ).
➖ واجب الأمة تجاه سلطة الفقهاء:
إذا اتضح ما قلناه آنفا فواجب على الأمة بجميع أطيافها تجاه هذه السلطة متى انضبطت وقامت بواجباتها في وراثة النبوة وحماية الشريعة ما يلي:
🛑 الرجوع إليها في كافة شئونها التشريعية والفقهية استفتاء وسؤالا وتعلما، وعدم تجاوزها فيما تقرر، فهي الكفيلة برعاية التشريع وحمايته من التحريف، وحماية المكلفين من الانحراف عنه.
🛑 دوام تداول سير الفقهاء القدامى والمعاصرين وإظهار آثاراهم ومناقبهم في الأمة، ونقصد الراسخين منهم لا الأدعياء، لتظل حالة الاقتداء بهم دائمة حاضرة.
🛑 الفخر بتلك السلطة فخرا يجعل الأمة متميزة عن سائر الأمم بتلك السلطة الضابطة الحامية التي لا مثيل لها ولا نظير في أمم الدنيا.
➖ خاتمة:
وكما تعلمنا في فلسفة تشريعنا أن الحياة حقوق وواجبات فلابد من لفت أنظار الفقهاء إلى أنهم لن ينالوا تلك السلطة الشريفة إلا بعد أن يتأهلوا روحيا وعلميا، ويقدموا من جهادهم ومواقفهم وبذلهم وسبقهم، وصمودهم وثباتهم ما يضعهم هذا الموضع، وحينئذ تكون لهم الكلمة مسموعة، والسلطة متبوعة.
(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعتي قطر والأزهر الشريف.