بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد(*)
كثرت السيوف المصوبة نحو صدور إخواننا العراقيين والسوريين واليمنيين، بشأن موقفهم من إيران في حربها مع الكيان الإسرائيلي، والتي بدأها الكيان الإسرائيلي يوم 13 يونيو 2025م؛ وبخاصة من قِبَل أهل البلاد التي لم تذق من ويلات ميليشيات إيران شيئًا مذكورًا؛ حيث وصف هؤلاء أهلنا في البلاد الثلاثة بالجهل، وبالتعصب، وبقصر النظر، وبضيق الأفق.
والأدهى من ذلك أن البعض حكم عليهم بموقفهم هذا من إيران أنهم يصطفون مع إسرائيل ضد إيران!! وأنهم مع ما تقوم به سلطات الاحتلال في أهلنا بغزة والقدس، أو أنهم راضون بهذه الجرائم!! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا!
دعم هذه الشعوب لفلسطين
أنا أشهد للإخوة السوريين والعراقيين واليمنيين أنهم يقدمون أهل فلسطين على أنفسهم، بل إنهم في صلب محنتهم وعز حاجتهم كانوا يأخذون طعامهم من أفواههم وأفواه أطفالهم ويُؤْثرون به أهلَ فلسطين، فلا يُزايد أحدٌ عليهم في حبهم للأرض المقدسة، ودفاعهم عن المسجد الأقصى المبارك، وتقديمهم واجب العون لأهلهم في فلسطين، لا يطلبون بذلك من أحدٍ جزاء ولا شكورًا!
كما أشهد لهم أنهم ذاقوا من ويلات إيران وأذرعها ما لا يتخيله أحد، ولا يدخل تحت تصور، ولا يصل إليه عقل: إهلاكًا، وإحراقًا، وتدميرًا، وتخريبًا، وتقتيلًا، وما أخبار البراميل المتفجرة بخافية على أحد من العالمين!
من حق هؤلاء أن يتشفَّوا في إيران وما يجري لها، من حقهم أن يفرحوا بأي هلاك ينزل بهم، والله قد قرر في كتابه: ﴿وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا عَلَیۡهِم مِّن سَبِیلٍ ٤١ إِنَّمَا ٱلسَّبِیلُ عَلَى ٱلَّذِینَ یَظۡلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَیَبۡغُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ ٤٢﴾ [الشورى ٤١-٤٢]. وقال عز شأنه: ﴿وَیُذۡهِبۡ غَیۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ وَیَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمٌ ١٥﴾ [التوبة ١٥].
إدراكهم لخطر المشروع الصهيوأمريكي
وفي الوقت نفسه لا يخفى على أحد من السوريين أو العراقيين أو اليمنيين أن خطر المشروع الصهيوصليبي أكبر على المنطقة، وعلى هذه البلاد الثلاثة نفسها، ولبنان معها، وبلاد الخليج العربي بالتبعية، لكن هذا لا يدعوهم أبدا أن يصطفوا مع إيران، بل المنطق الصحيح الموافق للفطرة أن يرجوا دمار المشروعين معًا على يد كل منهما للآخر، أو يصطفوا ضد إسرائيل، وليس بالضرورة أن يكونوا مع إيران!
ولكن المشكلة فيمن يدعون الحكمة، ويرون أهل هذه البلاد “متخلّفين”، لا يفهمون في “السياسة”، ولا يفقهون “الموازنات والمآلات”، ويقولون: “بغض النظر عما فعلته إيران في هذا البلاد يجب أن نصطف معها ضد إسرائيل”.
بغضِّ النظر عن ماذا؟
وأنا أقول: بغض النظر عن ماذا؟ هل عن مليون شهيد في سوريا وحدها؛ فضلا عن عشرات الملايين بما يقارب أو يزيد عن نصف الشعب الذي تم تهجيره؟ أم هل بغض النظر عن مئات آلاف المسلمين بما فيهم من علماء ودعاة في العراق العظيم، تم قتلهم شيًّا بالنار وهم أحياء، من أجل أن اسمهم: أبو بكر، وعمر، وعائشة؟ أم هل بغض النظر عن اليمن السعيد ذي الحضارة العريقة التي نوه بها القرآن، والتي صارت اليوم أثرا بعد عين، فضلا عن تهجير أهلها، وقتلهم قتلا جماعيًّا، ودفنهم دفنًا جماعيًّا؟ لا أدري بغض النظر عن ماذا؟
إنني أقول، وللأمانة التاريخية فقط بدون أي تحليلات أو نظر في مآلات: إن ما قامت به ميليشيات إيران في محافظة واحدة فقط من سورية، أو في محافظة في عراق الحضارة والتاريخ والخلافة، يفوق ما ارتكبه الاحتلال الصهيوني في فلسطين كلها منذ عام 1948م حتى اليوم.
هل يقبل الفسلطينيون أن يقال لهم: “بغض النظر عما فعلته إسرائيل من قتل وأسر واغتصاب، للناس والمقدسات، منذ الاحتلال حتى اليوم”؟! هذا مما لا يجوز أن يقال، ولا أن يقبل؛ لأن المسلمين ذمتهم واحدة، ودماءهم واحدة، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
أيها اللائمون أربعوا على أنفسكم
فيا أيها اللائمون والموزعون التهم المعلبة ترون أنفسكم أكثر حكمة وحنكة ووعيًا: أربعوا على أنفسكم، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان، وراعوا مشاعر إخواننا، فنحن أمة واحدة، ولم نر أحدا من أهل هذه البلاد؛ فضلا عن أي مسلم في أي مكان قصر بما يستطيع عن قضية فلسطين، وهم يؤمنون أنها قضيتهم، فلا تجعلوا المسلمين أحزابًا وشيعًا، ولا تجعلوا دماءً أغلى من دماء، ولا حرمةَ مسلمٍ فوقَ حرمةِ مسلم آخر.
لن أقول هنا: “ومن ناحية أخرى على أهل هذه الشعوب أن يقدروا الموقف، وأن يعلموا أن المشروع الصهيوصليبي أخطر” في محاولة لادعاء التوازن والاعتدال، أو مسك العصا من المنتصف وعدم إغضاب طرف من الأطراف، لن أقول ذلك؛ ليقيني أن أهل هذه البلاد يدركون هذه الحقيقة تمام الإدراك، ولكن من حقهم أن يعبروا عن مشاعرهم ضد الظلم البشع الذي رأوه وعايشوه، بل من واجبهم أن يقوموا بالقنوت والدعاء بالهلاك والدمار على من ظلمهم، أو ظلم إخوانهم في الأرض المقدسة؛ واعين بما يجري في العالم، غير مكتفين بالتشفي للماضي، وإنما أيضا ينظرون بنظر سديد للمآلات والمستقبل.
(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية.