القواعد العشر في التعامل مع حرب الكيان على إيران

بقلم أ.د. عبد السلام أحمد أبو سمحة(*)

مقدمة:

إحدى الإشكاليات الكبرى التي يعاني منها طلبة العلم في العالم الإسلامي اليوم، أنهم ينشأون أحيانًا بمعزل عن الواقع، وعن فهم معطياته ومجريات الأحداث من حولهم، فيغدون بذلك عبئًا على الأمة بدل أن يكونوا عناصر فاعلة في توجيهها وتوجيه أبنائها.

وقد نبّه أهل العلم إلى أهمية فقه الواقع إلى جانب فقه النص، لأن من لا يُحسن تنزيل الأحكام على الوقائع، قد يضلّ في فهمه أو يُضلّ غيره. قال ابن القيم رحمه الله: “وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ:

– أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا.

– وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا تَوَصَّلَ شَاهِدُ يُوسُفَ بِشَقِّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ إلَى مَعْرِفَةِ بَرَاءَتِهِ وَصِدْقِهِ، وَكَمَا تَوَصَّلَ سُلَيْمَانُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِقَوْلِهِ: ” ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ حَتَّى أَشُقَّ الْوَلَدَ بَيْنَكُمَا ” إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْأُمِّ، وَكَمَا تَوَصَّلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – بِقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي حَمَلَتْ كِتَابَ حَاطِبٍ مَا أَنْكَرَتْهُ لَتُخْرِجْنَ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّك إلَى اسْتِخْرَاجِ الْكِتَابِ مِنْهَا”. أعلام الموقعين 1/69

وكم من العلماء والمشايخ مرّوا بنا، ممن نشأوا دون وعي بحقائق واقع أمتهم وما يدور فيها من مستجدات، فلما اضطُرّوا إلى الخوض في هذه القضايا، ضلوا في القول وأضلّوا غيرهم، أو تقاعسوا عن أداء الواجب وأخلّوا بمسؤولياتهم، بل ربما أعانوا على باطل وهم لا يشعرون. وهذا ما يجعل من فقه الواقع ضرورة شرعية لا ترفًا فكريًا.”

نحن اليوم أمام حدث بالغ الخطورة في تطورات العدوان على غزة، والمتمثل في حرب الكيان على إيران ـ ليست مجرد صراع عابر، بل هي جزء من المشهد الكلي لحرب ممتدة تستهدف الأمة في دينها وهويتها وقضاياها المصيرية.

وهنا يبرز سؤال جوهري: ما هو الموقف الشرعي لطالب العلم تجاه كلا الطرفين؟

البعض قد يقول: “أنا ضد الاثنين، بل أفرح بما يحدث لكليهما”،

ولكن هل هذا هو الموقف الصحيح لطالب العلم؟

هل يكتفي طالب العلم بموقف عاطفي غير منضبط بضوابط الشرع؟

لقد وضعت تصورًا متكاملًا في عشر نقاط، تمثل معًا رؤية شرعية أحسبها متماسكة. ومن أراد أن يأخذ برأيي، فليأخذ هذه العشر كاملة، فهي تمثل حلقة مترابطة لا تُجزّأ.

القاعدة الأولى: إشكالية عدم التمييز بين تأييد الموقف والتأييد المطلق:

من القواعد المنهجية الأساسية في التعامل مع النوازل والأحداث السياسية والعسكرية وأي أحداثٍ أخرى، ضرورة عدم الخلط الفاحش بين تأييد موقف معين، والتأييد المطلق لشخص أو جهة ما.

هذه المعضلة الفكرية التي نعاني منها اليوم تأسست جذورها في ظلال الخلافات العقدية التاريخية المزمنة، هذه الخلافات التي تستدعى على الدوام بطريقة غير منضبطة إلى مسائل الحياة العامة، والواقع السياسي المتغيّر.

ففي مسائل الاعتقاد يبرز مبدأ الولاء والبراء فاصل بين الإيمان والكفر، ويبرز مبدأ الاتباع فاصل بين السنة وأهل البدع، فأهل البدع لم يكن العلماء يعاملونهم معاملة الكفار. بل كان لهم تفصيل دقيق يوازن بين البدعة والحياة العامة، بين الاعتقاد الشخصي والعمل الظاهر بالبدعة، وبين الحكم على الأقوال والحكم على الأشخاص، وبين دعاة البدع وغير الدعاة، ومن أعظم الأخطاء التي وقع فيها كثيرون اليوم، إسقاط أحكام الكفار أو المنافقين على المسلمين أو الجماعات الإسلامية المخالفة، دون اعتبار للتفريق الشرعي الدقيق الذي قرره العلماء.

ولذلك كله نقول: تأييد موقف معين أو فعل معين لا يلزم منه تأييد شامل أو سك مفتوح لصاحبه.

ومثال ذلك من التاريخ الإسلامي: الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي يُعد من أشد ولاة بني أمية قسوة، وقد سفك دماءً كثيرة من المسلمين بغير حق، إلا أن التاريخ يشهد أنه كان له دور محوري في توحيد الدولة، وانهاء الفتن، وضرب الخوارج على اختلاف مسمياتهم، ورد العدوان الشرقي عن الدولة الإسلامية، وتوسعت رقعة الفتوحات الإسلامية في عهده ما لم تتوسع في عهد غيره.

فحين نذكر إنجازاته العسكرية أو الإدارية، لا يعني ذلك أننا نُبرّر ظلمه، أو نؤيد ما فعله من تجاوزات في حق الأبرياء من المسلمين. بل نحكم لكل واقعة بحكمها، ونعطي كل قضية وزنها، دون تعميم أو إطلاق.

وهنا نقع على لبّ القاعدة: “تأييد الموقف لا يعني تأييد الشخص مطلقًا”، ومن لا يعمل بهذه القاعدة يختلّ ميزانه في الفهم والحكم، فيوالي أو يعادي على غير بصيرة، وينحرف عن جادة العدل التي أمر الله بها، حيث قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

القاعدة الثانية: التمييز بين التحالفات المصلحية الضرورية والولاءات العقدية الإيمانية:

من الإشكاليات المنهجية الكبرى التي يقع فيها كثير من الناس، وخصوصًا في زمن الفتن وتداخل المصالح والسياسات، عدم التمييز بين التحالفات والعلاقات المصلحية الضرورية، وبين الولاءات العقدية والإيمانية.

فالولاء العقدي ثابت لا يتغير، يقوم على محبة المؤمنين ونصرتهم، وعلى البراء من الكافرين المعتدين، كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (المائدة: 55)، وقال: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (لمجادلة: 22).

لكن في المقابل، العلاقات والتحالفات السياسية المصلحية تُبنى على مبدأ المصالح والمفاسد جلبًا ودفعًا، وهي من سنن السياسة الشرعية التي مارسها النبي ﷺ في سيرته، فقد صالح يهود المدينة، وعقد صلح الحديبية مع قريش، وتعامل مع ملوك ورؤساء غير مسلمين، وكل ذلك ضمن إطار المصالح الدنيوية لا الولاءات العقدية.

وفي واقعنا المعاصر، جميع الدول الإسلامية، دون استثناء، تقيم علاقات مع دول كافرة أو ظالمة، سواء كانت أمريكا أو فرنسا أو روسيا، بل وحتى مع دول احتلت في السابق بلادًا إسلامية وسفكت دماء المسلمين، ومع ذلك يُنظر إلى هذه العلاقات في إطار الضرورة السياسية، لا على أنها تعبير عن محبة أو ولاء ديني.

وعليه، فإن علاقة بعض فصائل المقاومة الفلسطينية مع إيران أو غيرها، لا يجوز إدخالها في إطار الولاء العقدي، ما دامت لا تتضمن تأييدًا لعقيدة الرافضة أو إقرارًا لظلمهم وعدوانهم في بلدان أخرى، وإنما تُفهم على أنها تحالفات ضرورة في سياق المواجهة مع العدو الصهيوني.

والفيصل في هذا كله هو الأثر: هل أثّرت هذه العلاقة في عقيدة أهل غزة؟ هل تَحوّلوا إلى مذهب غير مذهبهم؟ الجواب: لا. بل الواقع أن المنهج العام لأهل غزة هو منهج أهل السنّة، بل هم أقرب في اعتقادهم إلى المدرسة الحنبلية من غيرها، في تأكيدهم على التوحيد، ورفض البدع، والتزامهم بالسنة.

ولو كان مجرد التعامل السياسي دليلاً على الولاء العقدي، لكفّرنا الدول الإسلامية كلها! وقد سعى الرئيس الشرع حفظه الله للتعاون مع أمريكا في رفع الحصار على سوريا، وهذه الدولة ما زلت يدها تقطر من دم المسلمين في كل مكان، لكننا قلنا أن هذا في السياسة لا مانع منه للمصالح والمفاسد، ولم نوجه الأمر نحو الاتهام في خلل الاعتقاد.

لذلك نقول: “العلاقة المصلحية لا تعني ولاءً عقديًا، والتعاون المرحلي لا يستلزم توافقًا عقائديًا، والحكم في هذه الأمور يُبنى على المقاصد والنتائج لا على التصورات العاطفية.”

القاعدة الثالثة: لا شك أن اليهود المحتلين الغاصبين هم أشد أعداء الأمة الإسلامية، بل وأشد أعداء البشرية اليوم:

لا يخفى على ذي عقل وفهم أن اليهود الغاصبين المحتلين لفلسطين، هم العدو الأول للأمة الإسلامية، بل والعالم أجمع. والكيان الصهيوني الذي يمثل امتدادًا عمليًا لليهودية الصهيونية، قد برهن عبر تاريخ طويل من اعتداءاته، وحصاره، وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، أن لا رحمة ولا عدل في سلوكه. وأعمالهم الظالمة بحق غزة تُعد شاهدًا صارخًا على هذا العداء المستمر والمكشوف، الذي لا يقتصر على الفلسطينيين فقط، بل يستهدف كل ما يمت للإسلام والمسلمين بصلة.

القاعدة الرابعة: لا يُمكن إنكار أن لإيران مشروعًا توسعيًا مذهبيًا وقوميًا واضحًا في العالم الإسلامي:

من الإنصاف والموضوعية في النظر إلى المشهد السياسي والديني في المنطقة، أن نُقرر بأن إيران ليست فاعلًا بريئًا ولا نزيهًا في تحالفاتها أو دعمها، بل تمتلك مشروعًا توسعيًا مذهبيًا وسياسيًا واضحًا، لا يخفي نواياه في تصدير الثورة الخمينية، ونشر المذهب الشيعي.

لقد أثبتت الأحداث في سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفريقيا، أن الدافع الإيراني الأساسي في كثير من تحركاتها هو مذهبي خالص سياسي، وهنا يأتي دعمها لمن يتفق معها في المذهب أو في البعد السياسي، ولو في جوانب العداء مع الكيان الصهيوني كما في قوى المقاومة في فلسطين.

ولا يمكن نسيان أن إيران دعمت النظام السوري في مجازره، وساهمت في سفك دماء المسلمين هناك، وقد ابتهج كثير من أبناء الأمة عندما أُجهض مشروعها في الشام بفعل ثورة أهلها المباركة، رغم الثمن الباهظ الذي دُفع.

لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه هنا على أنفسنا كأهل سُنّة: لماذا كان لإيران مشروع، ولم يكن لنا مشروع؟

إنّ الفراغ الذي تركته القوى السنية السياسية والفكرية والدعوية، هو ما جعل الساحة مفتوحة أمام المشروع الشيعي، الذي يعمل بخطى ثابتة ومنظمة، بينما اكتفى كثير من أهل السنة بردود الأفعال، أو بالانكفاء المحلي، بل ومحاصرة وشيطنة القوى السنية الفاعلة في مواجهة المشروع الشيعي، والتي كانت تأمل بأمتها تبني مشروعها السني الراسخ.

القاعدة الخامسة: هل الرافضة كلهم كفار أم لا؟ 

لا يُمكن الحكم بكفر الرافضة بإطلاق، وإنما يُفرَّق في ذلك بين الغلاة والعوام، وبين المعتقدات الظاهرة والمواقف السياسية، من القواعد المهمة في النظر الشرعي تجاه الفرق المخالفة، أن الحكم بالكفر لا يُطلق إلا بدليل واضح قطعي، مع مراعاة الضوابط العلمية التي قررها أهل السنة والجماعة. ومسألة الحكم على الشيعة الإمامية (الرافضة) بالكفر من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء، ولكن لم يحصل فيها إجماع على تكفيرهم كجماعةٍ بإطلاق.

لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في معرض التفصيل بين أهل الإسلام والملل الكافرة: “وَسُئِلَ – رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: عَنْ رَجُلٍ يُفَضِّلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ؟ فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ كَفَرَ بِهِ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْبِدْعَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِدْعَةَ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كُفَّارٌ كُفْرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَالْمُبْتَدِعُ إذَا كَانَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مُخَالِفٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِهِ؛ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَلَيْسَ كُفْرُهُ مِثْلَ كُفْرِ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.” مجموع الفتاوى.. 201/35

فعلماء العصر الذين لم يكفّروا الدولة الإيرانية، ولا عموم الشعب الإيراني، وإنما يُدينون جرائمهم وظلمهم وإجرامهم ومواقفهم العدائية من السنة، دون الخروج بحكم شرعي عام بكفرهم.

وعليه: إيران كدولة لا تُعامَل على أنها دولة كافرة خارجة من الملة، ولا على أنها دولة سُنّية، بل تُعامل في ضوء كونها دولة ذات مذهب مبتدع ومنهج عدائي في سياقات كثيرة.

العقائد الباطلة التي يروج لها بعض علمائهم، من سبّ الصحابة، والغلو في الأئمة، والقول بالبداء، وادعاء العصمة، هي بدع مغلظة قد تصل إلى الكفر في بعض أفرادهم، ولكن لا يجوز التعميم على جميع أتباعهم دون تفصيل شرعي دقيق.

فالحكم على الرافضة يجب أن يكون منضبطًا، لا تحكمه العاطفة ولا التعميم، وإنما تحكمه نصوص الشرع وقواعد أهل العلم في التفصيل بين الغلو والجهل، وبين البدعة والكفر.

القاعدة السادسة: ما تفعله إيران اليوم ليس دفاعًا مبدئيًا عن فلسطين أو الأمة، ولكن عن مصالحها الاستراتيجية ومكانتها الإقليمية:

من الأخطاء الجلية في تحليل هذه الحادثة الخضوع للتصورات العاطفية أو الجدليات الثنائية القطبية المتقابلة الاتجاه، من هنا وقفنا على اتجاهين متناقضين:

– الاتجاه الأول: يضفي على إيران صفة الناصر لغزة والمنقذ لفلسطين، وحبل النجاة الأوحد للإسلام والمسلمين، وهذا توصيف غير دقيق ومبالغ فيه، يتولى كبره تيار متأيرن لا يخفى على المتعاطي لهذا الشأن، لا تؤيده الشواهد الواقعية.

– الاتجاه الثاني: اتجاه القطب الآخر وهو من يعد إيران الوجه الآخر لليهود والصهيونية، وأن كل ما يجري من صدامات بينها وبين الاحتلال ما هو إلا مسرحيات مختلقة لخداع الجماهير، ولما ارتفع سياق الحرب، ذهب للحديث عن رافضية إيران وجرائمها.

وهنا نقول: إيران دولة إقليمية لها مصالحها ومشاريعها ونفوذها، وتتحرك بدافع مصلحي ذاتي خاص بها، واليوم دفاعها ليس عن فلسطين ولا غزة، ولا عن المقدسات، فلو كانت إيران حقًا تتحرك لنصرة غزة والأمة، لفعلت ذلك منذ اليوم الأول للعدوان، لا بعد مئات الأيام من المجازر. كما أنها لم تدافع عن “محور المقاومة” حين استُهدفت قيادات حزب الله، وقيادة المقاومة الفلسطينية في أرضها.

بل مواقفها وفق مصالحها الذاتية، وخططها الاستراتيجية، لكنها في المقابل ليست الوجه الآخر لليهودية الصهيونية، فما تفعله إيران من ضربات على الاحتلال الصهيوني إنما هو رد فعل على تهديد سيادتها أو مصالحها وكبريائها.

لا شك أن الأمة الإسلامية – وفي مقدمتها القضية الفلسطينية –تستفيد من هذه التحركات ظرفيًا، وهذا لا حرج فيه، شريطة أن نُدرك أن تأييدنا لموقف جزئي لا يعني تأييدًا مطلقًا للجهة الفاعلة، كما تقرر في القاعدة الأولى، ونحن نُفرّق شرعًا وعقلًا بين “الانتفاع السياسي” وبين “الولاء العقدي”، وبين “المساندة الظرفية” وبين “الولاءات الدينية”.

القاعدة السابعة: نفرح بكل ضربة تُوجه إلى العدو الصهيوني المحتل مهما كان فاعلها، دون أن يعني ذلك تأييدًا مطلقًا أو موافقة لفاعلها:

الفرح بإصابة العدو المشترك لا يعني تأييدًا مطلقًا للجهة الفاعلة، ولا اتفاقًا مع دينها أو منهجها أو سياساتها. بل هو فرح مبدئي مشروع بنكاية العدو وعدوانه، وهو ما تؤيده النصوص الشرعية.

وهذا النصر كان للروم – أهل التثليث – على الفرس، ومع ذلك فرح به المؤمنون لأنه يحمل نكاية بعدو أشد. قال تعالى: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ) الروم، وفي هذا المعنى نقول:

– نفرح بكل ضربة تُصيب الصهاينة المحتلين من أي جهة كانت، سواء أكانت من إيران، أم من حزب الله، أم من أي فصيل أو دولة أو حتى جهة غير مسلمة. ليس لأننا نؤيد هذه الجهات، بل لأن الضربة وُجهت إلى عدو الأمة، ورفعت بعض الظلم الواقع على أهلنا في غزة وفلسطين.

– نُفرق تمامًا بين الفعل والموقف من الفاعل: فـ”الفرح بالفعل” لا يلزم منه “الولاء للفاعل”، ولا الاتفاق مع مذهبه، ولا تبني سياساته.

– القيادة الإيرانية قيادة مجرمة بما فعلته في العراق وسوريا واليمن وغيرها، ونحملها مسؤولية كبيرة في نزيف الأمة، ولا يمكن أن تُبرأ لمجرد ضربة وجهتها لعدو الأمة.

– ومع ذلك، فلا يجوز لنا أن نفرح إذا استهدفت الضربات الأبرياء أو المدنيين في إيران أو غيرها. لأن الظلم مرفوض في أي جهة وُجِّه إليها، ولو كان المستهدف مخالفًا لنا، ومن المعلوم أن ما يزيد عن 40% من الشعب الإيراني من السنة.

– نفرح جدا بالضربة الإيرانية للكيان الصهيوني، لكننا لا نمنحهم وسام الشرف بالدفاع عن فلسطين فهي تدافع عن ذاتها.

– ونقولها بوضوح: فرحنا بهزيمة المشروع الإيراني الصفوي في الشام لا يعادله إلا فرحنا المنتظر بتحرير القدس، بإذن الله، ولكننا لا نتمنى لإيران أن تُهزم على يد الصهاينة، لأن في ذلك ضررًا أشد بالأمة.

القاعدة الثامنة: الحذر من الانشغال المُوجَّه والمُسَيَّس بقضية الرافضة على حساب العدو الصهيوني:

في معركة الوعي التي لا تقل ضراوة عن غيرها من المعارك لا سيما في زمن الأحداث الجسام والفتن الصعاب، يجب أن ندرك أهمية التوقيتات لا سيما في إثارة الخلافات المزمنة داخل الأمة والاستدعاءات التاريخية التي من شأنها تمزيق الصف، وكيف تُوظف هذه في زيادة الفرقة، وصرف الناس عن أولويات الأمة لا سيما في دمائها النازفة.

من هنا نقول: الرافضة (الشيعة الاثني عشرية) لهم انحرافات عقدية ظاهرة، منها الطعن في الصحابة، والغلو في الأئمة، وتحريف معاني الدين، وهذا أمر ثابت ومعلوم.

لكن السؤال المشروع: لماذا يُثار هذا الملف بقوة منذ الساعة التي ضربت فيها إيران عمق الكيان؟  ولماذا يغيب ذكر جرائم الكيان الصهيوني، بل ويذهب البعض إلى المقارنة بين الرافضة وبين أهل الكتاب، وقد غفل هذا على أن اليهود في فلسطين لا يعاملون معاملة أهل الكتاب، بل معاملة الحربي المغتصب المحتل، فلا تقع عليه أحكام أهل الكتاب بالمطلق.

كثير من الذين يُفرطون اليوم في الحديث عن الرافضة لم ينصروا المجاهدين في غزة يومًا، بل خذلوهم وشوّهوا مقاومتهم، وتكلموا في أعراض قادتهم، وحرّفوا مسار المعركة ضد العدو الصهيوني لتصبح معركة حزب وجماعة.

التوقيت المشبوه يشير إلى أن هناك لوبيات تعمل لصرف الأنظار عن جرائم الصهاينة واشغال الأمة في هذا الوقت الراهن في خلافتها المزمنة، في محاولة لتحييد الجمهور الأكبر عن الصراع، بل والبعض منهم رحب وفرح بضرب إيران لا أقول قادة إيران، وتشمت بالشعب الإيراني، وتراهم لم يذكروا كلمة واحدة عن جهاد المقاومين في فلسطين بل عابوا عليهم، والآن لم يظهر أحدهم فرحًا بدك الكيان.

نقولها بوضوح: الحديث عن الرافضة لا يُمنع، بل يجب فضح باطلهم وبيان ضلالاتهم، ولكن بميزان العدل والفقه، لا بميزان الهوى والتوقيتات السياسية المشبوهة.

كما نرفض أفعال إيران المجرمة في بلادنا، فإننا في الوقت ذاته لا بد أن نعلن رفضنا لأفعال تيار “الصهيونية العربية” الذي يتحالف مع العدو الصهيوني علنًا، ويفتح له الأجواء، ويستضيف قادة جيشه، ويروج لروايته الإعلامية.

الإنصاف يقتضي ألا نكون أداة لتمرير أجندات العدو من خلال تحويل الصراع من صراع مع عدو مغتصب إلى صراع طائفي بحت، يُستنزف فيه أهل السنة بين طرفين، وتُنسى فلسطين تمامًا.

أخيرًا: نُقر بانحرافات الرافضة وجرائمهم، لكننا نرفض التوقيتات المدفوعة والمُستثمرة سياسيًا لإثارة هذا الملف بهدف صرف الأنظار عن المعركة الحقيقية.

القاعدة التاسعة: الفتنة الكبرى ليست في انتصار الرافضة، بل في هزيمة النموذج السني وتضييع بوصلته:

 من أعظم الفتن التي تهدد الأمة اليوم ليست فتنة انتشار التشيع، وإنما فتنة انكسار النموذج السني في أعين أبنائه، وتخاذل رموزه، وانقلاب بوصلته عن العدو الحقيقي. فمكمن الفتنة اليوم في:

أن يرى شباب الأمة أن الصواريخ التي أوجعت العدو الصهيوني جاءت من الرافضة، بينما صمتت صواريخ الأمة الإسلامية السنية، وحوصرت قواها الحية التي سعت بكل قوة لإحياء مشروعها الريادي، ثم بعض الأنظمة السنية مع العدو الصهيوني، وطعن بعضها ظهر المجاهدين بدل أن نصرتهم، وحوصروا وشردوا، وسلط عليهم سلفة القوم من لحى العار والشنار، والإعلام الصهيوعربي.

لقد رأى أبناء الأمة وبناتها رجال الله من المجاهدين الذين يقاتلون في أنفاق العزة والكبرياء حفاةً في غزة، وقد أثخنوا في العدو وكشفوا عن قوة أهل السنة وبأسهم في مقارعتهم، لكن يا للأسف تم الطعن بهم من بعض شيوخ العار والشنار، فكيف يربى الأبناء والبنات على مشاهدة هذه الخذلان، في وقت تدك فيه الصواريخ الإيرانية قلب الكيان.

أن نرى أبناءنا يُفتنون في عقيدتهم لا لأن الروافض أقنعوهم، بل لأننا خذلنا المجاهدين، ولم ننصر أهل غزة، وعجزنا عن أن نقدم لهم نموذجًا سنيًا مقاومًا، شريفًا، نزيهًا، منتصرًا، لكن يأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يكتب درء هذه الفتنة على أيادي الأبطال المجاهدين في غزة العزة، ومن قبلها في الفلوجة والأنبار، ومن قبلها في أفغانستان، لتبقى شعلة الحق إلى يوم الدين.

نحن لا نخاف من تمدد التشيع… نحن نخاف من حصار السنة بأيدي أبنائها. فالتشيع مذهب باطل يحمل في طياته نقده ونقضه، فهو لا يصمد أبدًا أمام كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يصمد أمام العقول السليمة والقلوب النقية.  وقد ثبت ذلك بالتجربة الواقعية فكل أرض أعمل فيها الرافضة بالقوة مذهبهم، عاد أهلها إلى السنة بعد كنس هؤلاء، وما الشام عنا ببعيد.

وهذا لا يجعلنا نميل إلى الدعة والراحة، بل إلى بناء المشروع السني الناضج الذي يحمل للأمة بكل مكوناتها بما فيها الشيعة معالم الخير والرشاد، لكن ما نخافه فعليًا: أن تنهار الثقة في المشروع السني، فيُفتن الشباب بمشروع مزيف، لأنه يُقاوم، لأنه يضرب، لأنه يُفجّر الغاصب، بينما يرى قادة السنة يسجنون المجاهد، ويصادرون السلاح، ويحاصرون غزة.

الفتنة الكبرى أن نرى الرافضة يقاتلون العدو، ونحن نقاتل المجاهد؛ فمن يطارد مجاهدي غزة؟ ومن يحاصرهم سياسيًا واقتصاديًا؟ ومن يمنع الدعم عنهم؟ ومن يشوّه قادتهم في الإعلام؟ ومن يدعي أنهم يختبئون في الأنفاق ويتركون شعبهم؟  من ومن ومن؟  ليس الرافضة من فعل ذلك، بل جهات سنيّة محسوبة على الأمة، وهنا موطن الفتنة الحقيقي.

واجبنا: حماية الوعي السني لا بالتشنيع على الآخر فقط، بل بصناعة النموذج السني المشرّف؛ الذي نُعلي من جهاد أهل غزة، ونُقدّم رموزًا تقاتل العدو، ونصنع مناهج تحمل همَّ الأمة كلها لا تنصاع لإملاءات الصهاينة، فنوضح لشبابنا أن المشروع السني هو أصل الجهاد، إن توافرت له الحرية والقرار.

القاعدة العاشرة: مآلات انتصار الكيان الصهيوني أوسع وأخطر:

في ظل المعركة الجارية، من الخطأ الظن أن الكيان الصهيوني يسعى فقط لضرب إيران انتقامًا من مشروعها الطائفي أو دفاعًا عن أهل السنة. بل هي بوابة مشروعه التوسعي الذي لا يخفيه، ويعلن عنه مرارًا وتكرارًا بالضم والاسقاط، ومنها دول وقع معها اتفاقيات، فالخطر أوسع، والمخطط قديم ومستمر، وهذه أبرز معالمه:

أولًا: هدف الكيان الصهيوني… الهيمنة وتفكيك المنطقة وتغيير خريطة الشرق الأوسط

الكيان يصرح ولا يلمّح أنه يعمل على إعادة ترتيب خريطة الشرق الأوسط، هل لأنه يريد تقوية القوة السنية، أو يمنحنا نصرًا على الرافضة، هذا الكيان عنده سوريا مثل إيران، والحوثي هو ذات الإصلاحي.

هذا الكيان المتغطرس لا يرى إمكانية البقاء في ظل وجود قوى فاعلة في المنطقة، فلا بد للجميع أن يخضع له، ليبقى هو القوة الوحيدة المتماسكة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، ولا يهمه في ذلك قوة شيعية أو سنية.

ضرب إيران ليس حبًا لأهل السنة ولا انتقاما لدماء السوريين أو العراقيين أو اليمنين، فالكيان ضربهم جميعًا من قبل، وسيضربهم من بعد، بل لأنها البوابة الكبرى في مشروع التفكيك والسيطرة.

ثانيًا: بقية المخطط .. إن سقطت إيران، فالطريق مفتوح نحو مزيد من العبث والعربدة، والتوقع أن يجري الآتي:

– سوريا (لا قدر الله): عبر اغتيال القيادة وإكمال احتلال جنوب سوريا وصولًا إلى ممر “داؤود” الذي يربط إسرائيل بالعراق وكردستان، وتعتبر هذه منطقة أمن استراتيجي مستقبلية. ثم خلق فراغ داخلي وحرب أهلية، وهم الآن في عمل على هذا، فأيدهم فيها طولا.

– باكستان: بسبب سلاحها النووي وموقعها الاستراتيجي. (وقد صرح النتن بذلك)

– تركيا: لما لها من عمق شعبي وقوة اقتصادية وعسكرية. (وقد صرح النتن بذلك، وبعض الإعلاميين في المباراة النهائية).

– هذا تسلسل لا نتخيله نحن فقط، بل يصرّح به قادتهم علنًا.

ثالثًا: انتصارهم يفتح شهية العدوان

– غزة ستدفع الثمن الأكبر، ومعاناتها ستتضاعف.

– مصر وجيشها تحديدًا تحت أنظارهم، كما صرّح بذلك محللون عسكريون إسرائيليون، رغم الاتفاقات والمعاهدات.

رابعًا: الحرب الوجودية… بلغة صريحة

– تصريحات قادة الاحتلال تعكس أن المعركة اليوم وجودية لا حدودية.

– هم يقاتلون ليبقوا، ونحن نقاتل لنمنعهم من تثبيت كيانهم كقوة حاسمة في المنطقة.

خامسًا: لا بد من ردع هذا الكيان لتعيش المنطقة بأمان.

– إن تحقق ردع حقيقي للكيان كست هيبته. وأذلت غطرسته. وبدأ تراجع مشروعه.

– هذا ليس تحريرًا لفلسطين، لكنه خطوة على طريق التحرير بإذن الله.

سادسًا: وماذا عن المدّ الشيعي؟

– نحن لا نخاف من المدّ الشيعي قدر خوفنا من انهيار موقفنا السني؛ فالأمة قادرة بعقيدتها وعلمها وتاريخها أن توقف المدّ الشيعي، وسبق لها ذلك بقوة واقتدار. إن أُطلقت القوى الحية – الدعوية والفكرية والعلمية – من سجون الحرب العلمانية والاستبداد.

– لكننا نخاف من أن نقف على الهامش بينما تُدار المعركة، وتُفرض خرائط جديدة، وتُكسر إرادة الشعوب السنية، ويُخدع شبابنا بمشاريع أخرى.

وختامًا:

هذا ما جال في خاطري، ولا أدّعي فيه إصابةً مطلقة، ولا احتكارًا للحق، بل هو اجتهادٌ أرجو أن أكون فيه بين الأجر والأجرين، بين صواب يُثاب وخلل يُغفر؛ فما كتبته هو محاولة لفهم الواقع من خلال ميزان الشرع، ومنهج أهل العلم، ومتابعةٍ متأنية لما يجري حولنا من أحداث ومواقف وتحولات.

فمن وافقني فيها فليدع لي، ومن خالفني فله الحق في ذلك، وليدعُ لي أيضًا… فما أردنا إلا الخير، والنصح، والتذكير.

سائلين الله تعالى أن يحقق لنا أجرين، ويكتب لهذه الأمة النصر والتمكين، ويعزّ فيها أهل الطاعة، ويذلّ فيها أهل الفجور والطغيان.

والحمد لله رب العالمين.

22 ذو الحجة 1446 هـ الموافق 18/06/ 2025م.


(*) أستاذ الحديث المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر.

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.