أثر نظام القرآن في بيان مقاصد الأسماء والصفات (3-3) – دراسة

بقلم الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات(*)

نماذج من استعراض الأسما، والصفات:

مفهوم اسم اللَّه تعالى و أنه من أعظم بقايا الدين الصحيح :

يقول الفراهي عن لفظ الجلالة «اللَّه» -أثناء تفسيره للبسملة-:

الألف و اللام للتعريف، فلا يسمى بهذا الاسم إلا اللَّه تعالى الواحد، خالق السماوات والأرض و جميع الخلق. وهذا المعنى هو المعلوم عند العرب قبل الإسلام، فإنهم مع شركهم لم يجعلوا أحدا من آلهتهم مساويا للَّه تعالى، وأقروا بأن اللَّه تعالى هو خالق السماء والأرض، وإنما عبدوا آلهة أخرى، لظنهم بأن هؤلاء مقربون فيشفعون لهم. كما جاء في القرآن: ﴿وَیَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَضُرُّهُمۡ وَلَا یَنفَعُهُمۡ وَیَقُولُونَ هَـٰۤؤُلَاۤءِ شُفَعَـٰۤؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبِّـُٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا یَعۡلَمُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ﴾ [يونس ١٨]([1])

و أيضا: ﭧ ﭨ ﴿أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّینُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِیُقَرِّبُونَاۤ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰۤ إِنَّ ٱللَّهَ یَحۡكُمُ بَیۡنَهُمۡ فِی مَا هُمۡ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی مَنۡ هُوَ كَـٰذِبࣱ كَفَّارࣱ﴾ الزمر: ٣ ]

وأيضا: ﭧ ﭨ ﴿وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ یُؤۡفَكُونَ ٱللَّهُ یَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَیَقۡدِرُ لَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ﴾ [العنكبوت ٦٣]([2]) ([3]).

و يقول الإمام أبوحامد الغزالي:

فأما قوله:« اللَّه» فهو اسم للموجود الحق، الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المتفرد بالوجود الحقيقي. فإن كل موجود سواه غير مستحق الوجود بذاته، وإنما استفاد الوجود منه. فهو من حيث ذاته هالك، ومن الجهة التي تليه موجود. فكل موجود هالك إلا وجهه.

والأشبه أنه جار في الدلالة على هذا المعنى، مجرى أسماء الأعلام.- وكل ما ذكر في اشتقاقه وتعريفه تعسف وتكلف فائدة.

ثم يقول:

اعلم أن هذا الاسم أعظم أسماء اللَّه تعالى لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها، حتى لا يشذ منها شيء. وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره، ولأنه أخص الأسماء، إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازا. وسائر الأسماء قد يسمى به غيره، كالقادر، والعليم، والرحيم، وغيره. فلهذ ين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء.

ثم يقول أبو حامد عن حظ الإنسان من هذا الاسم:

تنبيه:

ينبغي أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله، وأعني به: أن يكون مستغرق القلب والهمة باللَّه تعالى، لا يرى غيره، ولا يلتفت إلى سواه، ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه. وكيف لا يكون كذلك، وقد فهم من هذا الاسم أنه الموجود الحقيقي الحق، وكل ما سواه فان، وهالك، وباطل، إلا به. فيرى أولا نفسه أول هالك، وباطل، كما رآه رسول اللَّه حيث قال: أصدق بيت قالته العرب قول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل  ** وكل نعيم لا محالة زائل»([4])

الرحمن:

يرى بعض أهل العلم أن سورة الرحمن نزلت جواباً لتجاهل الكافرين اسم

«الرحمن» – جل وعلا- وكما أخبر عنهم في قوله تعالى في سورة الفرقان: ﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱسۡجُدُوا۟ لِلرَّحۡمَـٰنِ قَالُوا۟ وَمَا ٱلرَّحۡمَـٰنُ أَنَسۡجُدُ لِمَا تَأۡمُرُنَا وَزَادَهُمۡ نُفُورࣰا ۩﴾ [الفرقان ٦٠] ([5])،

ويرى ابن عطية أن هذا القول ضعيف، وإنما وقفت العرب على تعيين الإله الذي أمروا بالسجود له لا على نفس اللفظ([6]).

ومما يؤكد قول ابن عطية: ما جاء في قوله تعالى من سورة الرعد: ﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ أَرۡسَلۡنَـٰكَ فِیۤ أُمَّةࣲ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَاۤ أُمَمࣱ لِّتَتۡلُوَا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَهُمۡ یَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَـٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَیۡهِ مَتَابِ﴾ [الرعد ٣٠]([7]).

فبين- هنا- أن كفرهم بالمسمى، لا بالاسم، بدلالة قوله: ﴿قُلۡ هُوَ رَبِّی﴾.

وأصرح من ذلك: ما حكاه اللَّه من قول العرب المشركين، في سورة الأنبياء: ﴿وَقَالُوا۟ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ وَلَدࣰاۗ سُبۡحَـٰنَهُۥۚ بَلۡ عِبَادࣱ مُّكۡرَمُونَ﴾ [الأنبياء ٢٦]([8]).

وفي سورة الزخرف: ﴿وَقَالُوا۟ لَوۡ شَاۤءَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ مَا عَبَدۡنَـٰهُمۗ مَّا لَهُم بِذَ ٰ⁠لِكَ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِنۡ هُمۡ إِلَّا یَخۡرُصُونَ﴾ [الزخرف ٢٠] ([9]).

حيث بينت هاتان الآيتان معرفتهم باسم الرحمن، وجهلهم بالمسمى، إذ أشركوا معه غيره عقيدة وعبادة.

أما العلاّمة عبد الحميد الفراهي الهندي: فقد أورد عدداً من الأبيات من الشعر الجاهلي، تؤكد معرفة العرب لهذا الاسم، ومنها:

قال حاتم الطائي:

يقولون لي: أهلكت مالك فاقتصد ** وما كنتُ، لولا ما تقولونَ، سيّدا

كلوا الآن من رزق الإله، وأيسروا ** فإنّ، على الرّحمنِ، رِزْقَكُمُ غَدا([10])

ويقول الفراهي: والقرآن أنزل بلسان قوم نبينا، وحينئذ كيف يستعمل اسما لمعنى جديد؟!.

﴿وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱسۡجُدُوا۟ لِلرَّحۡمَـٰنِ قَالُوا۟ وَمَا ٱلرَّحۡمَـٰنُ أَنَسۡجُدُ لِمَا تَأۡمُرُنَا وَزَادَهُمۡ نُفُورࣰا ۩﴾ [الفرقان ٦٠] ([11]).

كما يتبين أن السورة جاءت لتعرفهم، بالرحمن الذي لا شريك له، ومن ثم فقد عدد عليهم فعاله العجيبة ([12])، وشؤونه الغريبة، التي لا يشاركه فيها أحد.

 وقال تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِی لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَیۡمِنُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا یُشۡرِكُونَ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَـٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ یُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [الحشر ٢٤] ([13]).

فهذه أيضا أسماء نصفه بها، وأما أن ندعوه بها فمستنبط غير مصرح به، وطريق الاستنباط ظاهر، فإن قوله تعالى: ﴿أَیࣰّا مَّا تَدۡعُوا۟ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ [الإسراء ١١٠]([14] دل على أن ندعوه بأسمائه الحسنى، ثم قوله تعالى بعد سرد أسماء أخر: ﴿َلَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ ([15])  دل على أنها منها، ثم نظم قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُۚ ﴾ [البقرة ٢٥٥]([16]) يشبه نظم تلك الآيات الجامعة لأسمائه.

 ثم جاء من صفاته تعالى على طريق الخبر كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِیدُ فَعَّالࣱ لِّمَا یُرِیدُ﴾ [البروج ١٦] ([17]).

فاحتمال كونها أسماء، كاحتمال كونها صفات، فوجب إعمال الفكر.

وطريقته المثلى: أن نجعل أسماءه الحسنى المصرح بها أصلاً، ونرد الصفات والأفعال إليها.

 وأبين أسمائه وأصرحها: «[18]اللَّه»، و«الرحمن»، فنجعلهما أصل المعرفة بالرب.

 قوله تعالى: ﴿ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾ [الفاتحة ٣].

 يقول الراغب الأصفهاني: « الرحمن الرحيم »:

   الرحمة – في اللغة – رقه مقتضية للتعطف والتفضل.

 فمبدؤها: الرقه- التي هي انفعال-، ومنتهاها: العطف، والتفضل- الذي هو فعل-

فالإنسان إذا وصف بالرحمة:

– فتارة يراد به: حصول المبدأ، الذي هو الرقة.

-وتارة يراد به: المنتهى، الذي هو التفضل، والعطف.

-وتارة يرادان معا.

وإذا وصف بها الباري، فليس يراد به إلا المنتهى، الذي هو الفعل. دون المبدأ، الذي هو الانفعال، إذ هو منزه عن الانفعالات، وعن كل نقص–تعالى اللَّه عن ذلك–وعلى ذلك: «الرؤوف»، فان الرأفة انعصار القلب، عن مشاهدة شدة مقتضية للإعانة. فمتى وصف بها الانسان: صح أن يراد به المبدأ، الذي هو انعصار القلب. واذا وصف به الباري: فليس يراد به الا الغاية، التي هي الإعانة.

وعلى ذلك: الجود، فإنه اختصاص بخلق مقتض لأن لا يدخر عن المحتاج ما ينتفع به على ما يجب، ومتى وصف به الباري تعالى فالمراد به: النهاية التي هي ترك الادخار، دون الاختصاص بالخلق.

وهذا التفسير- أعني في الرحمة – هو على ما روي عن التابعين، حيث قالوا الرحمة من اللَّه: إنعام وإفضال، ومن الآدميين: رقة وتعطف.

وهذه الطريقة: أظهر وأبين وأشبه بنظر السلف من نظر من تخبط في تفسير ذلك، زاعما أن الوصف لا يختلف معانيه باختلاف الموصوفين. وذلك أن قائل ذلك لم يتصور أنه قد يكون بين مبدأ المعنى، ومنتهاه: بون بعيد([19]).

…………..

ويقول الغزالي في الفرق بين «الرحمن»، و«الرحيم»:

« الرحمن»: أخص من الرحيم. ولذلك لا يسمى به غير اللَّه تعالى.
و«الرحيم»: قد يطلق على غيره، فهو من هذا الوجه، قريب من اسم اللَّه تعلى الجاري مجرى العلم، وإن كان هذا مشتقا من الرحمة قطعا، ولذلك جمع اللَّه تعالى بينهما فقال: ﴿قُلِ ٱدۡعُوا۟ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُوا۟ ٱلرَّحۡمَـٰنَۖ أَیࣰّا مَّا تَدۡعُوا۟ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ﴾ [الإسراء ١١٠]([20]) فيلزم من هذا الوجه، ومن حيث منعنا الترادف في الأسماء المحصاة: أن يفرق بين معنى الاسمين، فبالحري أن يكون المفهوم من الرحمن نوعا من الرحمة، هي أبعد من مقدورات العباد، وهي ما يتعلق بالسعادة الأخروية.

– فالرحمن: هو العطوف على العباد، بالإيجاد أولاً.

– وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانياً.

– وبالإسعاد في الآخرة ثالثا.

– والإنعام بالنظر إلى وجهه الكريم رابعا ([21]).

تنبيه: حظ العبد من اسم الرحمن: أن يرحم عباد اللَّه الغافلين:

– فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى اللَّه تعالى بالوعظ والنصح بطريق اللطف، دون العنف.

-وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة، لا بعين الإزراء.

– وأن يكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه، فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه، رحمة لذلك العاصي، أن يتعرض لسخط اللَّه، ويستحق البعد من جواره.

وحظه من اسم«الرحيم»:

– أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته.

– ولا يترك فقيرا في جواره وبلده، إلا ويقوم بتعهده، ودفع فقره، إما بماله، أو جاهه، أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره.

– فإن عجز عن جميع ذلك، فيعينه بالدعاء، وإظهار الحزن بسبب حاجته، رقة عليه، وعطفا حتى كأنه مساهم له، في ضره، وحاجته. ([22])

نموذج لبديع الزمان النورسي:

-ونعتذر ابتداء عن طول هذا النموذج، لأننا سنكتفي به عن غيره – علما أننا سنحاول الاختصار ما أمكن-.

من تجليات اسم اللَّه: القدوس:

الطُهر، والنقاء، والصفاء، والبهاء، المشاهَد في قصر العالم البديع هذا: ما هو إلاّ نابع من تنظيف حكيمٍ مستمر، يقول اللَّه تعالى ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَـٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَـٰهِدُونَ﴾ [الذاريات ٤٨]([23])  لقد تجلت لي نكتة من نكات-لفتة، أو فكرة- هذه الآية الكريمة، وتجلّ من تجليات اسم اللَّه «القدوس» وهو الاسم الأعظم أو أحد أنوراه الستة، وأنا نزيل سجن «اسكي شهير» أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: «الوجود الإلهي» بوضوح تام، وكشف لي: «الوحدانية الربانية» بجلاء، كما يأتي:

إن فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبِّر عن حقيقة واحدة، هو تجلٍّ أعظم من تجليات اسم «القدوس» الأعظم، يُرى ذلك التجلي الأعظم، حتى في أعظم دوائر الكون، وأوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية، مع أسمائها الحسنى، ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيون النافذة النظر.

وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب أجزاء «رسائل النور»:

– أن فعل التنظيم والنظام الذي هو تجلٍ من تجليات اسم الحَكَم والحكيم.

– وأن فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم العدل والعادل.

– وأن فعل التزيين والإحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم الجميل، والكريم.

– وأن فعل التربية، والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الرب الرحيم..».

– كل فعل من هذه الافعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله.

فكل منها يشير إلى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء.
كذلك فعلُ التنظيف، والتطهير- الذي هو تجلٍ من تجليات اسم «القدوس»-: يدل على وجود ذلك الواجب كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار.

وكما أن الأفعال المذكورة من تنظيم وتقدير، وتزيين وتنظيف، وأمثالها من الأفعال الحكيمة، تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في أوسع الآفاق الكونية، كذلك أكثر الأسماء الحسنى….

نعم، إن الحكمة العامة، التي تُخضع كل شئ إلى قانونها ونظامها، والعناية الشاملة، التي تجمّل كل شئ وتزيّنه، والرحمة الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة، على كل شئ وتجعله في حمدٍ دائم، والرزق العام الذي يعتاش عليه كلُ ذي حياة، ويتمتع بلذائذه، والحياة والأحياء التي تربط كل شيء بالأشياء الأخرى، وتجعل الشيء ينتفع من كل شيء، كأنه مالك للأشياء.
هذه الحقائق وأمثالها، المشهودة بالبداهة، والمتسمة بالوحدة، والجاعلة وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهل بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي، كما يدل الضوءُ على الشمس…
وهكذا؛ فالحكمة: ضياءٌ. والرحمة الواسعة: ضياء. والتزيين، والموازنة، والتنظيم، والتنظيف: كلٌ منها ضياء شامل، محيط. وشعاع من أشعة ذلك النور الأزلي سبحانه.

فانظر الآن بنور هذا الإيمان: لترى كيف يسقط أهل الكفر والضلالة في مستنقع آسن، لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقة أهل الضلالة، وجهالتهم! واحمد اللَّه قائلاً:

«الحمد للَّه على دين الإسلام وكمال الإيمان» نعم، إن هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد، الذي يجعل قصر العالم طاهراً نقياً نظيفاً، لهو تجلٍ من تجليات اسم «القدوس»، ومقتضىً من مقتضياته..

وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعها إلى اسم «القدوس»، وترنو إليه، كذلك يستدعي اسم «القدوس»: نظافة تلك المخلوقات وطهارتها، حتى عدّ الحديث الشريف «النظافة من الإيمان»: الطهور نوراً من أنواره لارتباطه القدسي هذا، وأظهرت الآية الكريمة أن الطُهر مدعاة إلى المحبة الإلهية، ومدار لها، في قوله تعالى: ﴿ِإِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلتَّوَّ ٰ⁠بِینَ وَیُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِینَ﴾ [البقرة ٢٢٢].

– والحمد للَّه رب العالمين-


(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن في عدد من الجامعات، وهذا المقال استكمال لدراسة طويلة نوالي نشرها في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

الهوامش:

([1]) يونس: ١٨

([2]) العنكبوت: ٦١ – ٦٣

([3]) فاتحة نظام القرآن-ص45-46

([4]) المقصد الأسنى-ج1-ص: 62

([5]) سورة الفرقان: آية 60.

([6]) المحرر الوجيز:1 / 92.

([7]) سورة الرعد: آية 30

([8]) سورة الأنبياء: آية 26

([9]) سورة الزخرف:آية 20

([10]) ديوان حاتم الطائي:ص 17.

([11]) سورة الفرقان: آية 60

([12]) كما رجح ذلك الفر اهي في كتابه مفردات القرآن.

([13]) الحشر: ٢٢ – ٢٤

([14]) الإسراء: ١١٠

([15]) طه: ٨

([16]) البقرة: ٢٥٥

([17]) البروج: ١٤ – ١٦

[18]

([19]) مقدمة جامع التفاسير- ص114-115

([20]) الإسراء:11

([21]) المقصد الأسنى-ج1-ص:63

([22]) المقصد الأسنى-ج1-ص64

([23]) الذاريات:48

اترك تعليق