د جمال عبد العزيز أحمد
يقول الله – عز وجل- في مطلع سورة كاملة سمَّاها سورة الإسراء:
تخليدا لهذا الحدث الكبير من أحداث الإسلام، ذلك الحدث الذي غيَّر مجرى التاريخ، وبيَّن للمسلمين سلامة المسلك، وحُسْنَ البصر بما يستجدُّ في مستقبل حياتهم، وأوقفهم على أمور غاية في الأهمية سواء في النفس، أو في المجتمع، أوفي الكون، وفي كل ما يمكن أن يحدث لهم من المِلَل، والفِرَقِ، والنِّحَلِ، والطوائف التي تحيط ببيئتهم، بحيث وضعت السورة للمسلم منهجَا متوازنا تأخذ فيه بيده ليتمتع بطهر الملائكة، ويتصف بنقاء الملأ الأعلى، وتجعله يخطو بقدميْه عن بصر، وإدراك، وعلم، وفهم، ويقود، ويسود، ويعطي، ويفيض، ويعمِّر، ولا يدمر، ويبني، ولا يهدم، وتكون روحه وجسده في حالة إسراء، ومعراج دائمَيْن حتى يلقى ربه، وقد قام بمهمته، وأدرك رسالته، وأدَّى حق الله عليه: التزامًا، وبلاغًا، وجهادًا، ودعوةً؛ لينال ثواب ربه، ويرى نتائج جهده، فقال – جل جلاله -:“سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)”.
إنَّ المتأمِّل في حادثة الإسراء والمعراج لا يَعْدِمُ أن يجد بُعْدًا عقديًّا، أو مبدأ تربويًّا، أو مقصدا دينيًّا، أو واقعا حياتيًّا معيشا عدلته تلك المرائي ونبهت عليه، وأوضحت خطورته، وحذَّرت من عواقبه، ويجد كذلك – من غير شك – غاية، ونتيجة، ومرمًى، وهدفًا من وراء كل مرئية حدثت في هذا اليوم المبارك، وهو يوم السابع والعشرين من شهر رجب الفرد، ومثل تلك المرائي لا شك أنها تقدِّمُ حُلولا ناجعة، ورُؤًى نافعة للخُروج بهذه الأمَّة من كبْوتها، وترفعها من وَهْدَتِها، وترتقي بها من حضيض البعد عن الله إلى رقيِّ القربِ منه، وتعيد مكانة الأمة من جديد، وتُوَسِّدها مكانها اللائق بها بين أممِ الأرض، وقيادة هذه البسيطة كما كانت من قبلُ، والأخذ بيدها إلى بر الأمان، وطريق السلامة، وسبيل التطور.
لتعمير الأرض، وتعبيد الناس لربهم- جل جلاله، وتقدست أسماؤه -، وأنه كلما مرَّ بنا هذا الشهر الفضيل، شهرُ الله رجب، هَفَتِ القُلوبُ إلى حدَث الأحداث، ونبْع الفوائد، حدَث الإسراء والمعراج المبارك، تستبطنُ الذات المسلمة، والنفْس المؤمنة دقيق وقائعِه، وتقفُ أمام مراميه، وتتأمل في مقاصده ، وتقترب من أهدافه، وتَعُبُّ من مَعانيه، والحقُّ أنها تحتاجُ إلى تأنٍّ وتُؤَدةٍ، وإلى مُعايشة، وتحليل، وإجالة النظر، وإطالة التفكير، حتى تقفَ الأمَّة على مَشاكِلها، وتتلمس أوصابها، وتقف على أوجاعها، وتجد الحُلول التامة الجامعة المانعة لما حَلَّ بها من مَصائبَ، وويلات، وتأخُّر بعد تقدم، ونكوصٍ بعد إقدام، وتأخذ محل الريادة، وزمام القيادة كما كان نبيُّها الكريم.
*من تلك المرائي ما يتصل بالأمانة، وخطورة حملها، فقد جاء أنَّ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – رأى في رحلة المعراج رجُلا يجمَعُ حزمةً من حطَبٍ عظيمة لا يستطيع أنْ يحملها، ثم هو يزيدُ عليها حطبًا جديدًا، فلمَّا سأل جبريلَ – عليه السلام – أجابَه بقوله: “هذا الرجل من أمَّتك تكون عنده أماناتُ الناس، لا يقدر على أدائها، ويريد أنْ يتحمَّل عليها”.
هذا واقعٌ مَعِيش، وسلوك متكرر، ويحدث من كثيرين منا، وهو ما يقطَع الصلات بين الناس، حيث لا يفرِّقون بين وقت التحمُّل للأمانة، ووقت الأداء لها، فتضيع الحقوق بينهم، ويتخوَّف الناس من تكرار هذا الحدث، فيبخلون بما في أيديهم، فتتعطل المصالح، ويُؤخَذ الحابلُ بالنابل، فيتساوى الشريف والوضيع، وكلٌّ يَغُلُّ يديه عن مساعدة أخيه، فماذا لو أن الناس فقِهوا هذه المرئية، وتصرفوا بناء عليها، وتوقفوا كثيرًا عند أخذ الأمانة، وينظر في شأنه، ويتأمل في حاله ووضعه : هل سيردُّها- كما أخذها وقتَ تحملها في موعدها- وقت أدائها؟
إذا كان كذلك فعليه أن يمضيَ في أخذها، وإذا كانت الأخرى فلا يُقْدِمْ عليها، وهذا خيرٌ للناس كلِّهم؛ حفظا للحقوق، وسعيا إلى احترامها، وعليه في كلِّ تصرف أن يستحضر قوله – تعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وقوله- جل في علاه-: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، ويضع بين ناظريْه قول رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم-:(أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتَمَنك، ولا تَخُنْ مَن خانَك)، ومن عَلائِم المنافق أنَّه: (إذا اؤتُمِن خانَ).
* ومن تلك المرئيات ما يتعلَّق بدفع الزكاة المفروضة، ووجوب إخراجها إذا حَلَّتْ، ووجبَ إخراجُها بشروطها الشرعية ، حيث رأى الرسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – قومًا على أقْبالِهم رِقاعٌ، وعلى أدْبارهم رِقاعٌ، يَسْرَحُون كما تسرحُ الإبل والغنم، ويأكُلون الضريع (وهو اليابس من الشوك)، والزَّقُّوم (وهو ثمرُ شجر مرٌّ له زفرة؛ أي: شجر من النار، وهو المذكور في قوله- تعالى-: ﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ [الصافات: 64])، ويَأكُلون من رضف جهنم (أيْ حِجاراتها المُحْمَاة)، فلمَّا سأل الرسولُ جبريلَ – عليه السلام – قال: “هؤلاء هم الذين لا يُؤدُّون الصدقات المفروضة عليهم في أموالهم”.
ولأن الزكاة هي رافد من أكبر روافد الاقتصاد في الإسلام، وعليها معوَّل كبيرٌ، وبها تستقرُّ الدولة، ويستمر عطاؤها، وهي السبب في إشاعة جوِّ الأخوة، ومتانة الترابط بين شرائح المجتمع المختلفة، حيث يتراحم الناس فيما بينهم، ويُعِين غنيهم من خلالها فقيرَهم، ويواسِي قويُّهم ضعيفَهم، فكان لابد من التنبيه عليها قبل شروع الأمة المسلمة في مسيرتها الحياتية؛ وذلك لأن المال هو عصب وإكسير الحياة: الأسرية، والاجتماعية، والإنسانية.
ومن ثم فإنه يتوجب على جميع المسلمين القادرين إخراج وأداء الزكاة المفروضة عليهم في أموالهم، وأن تقوم المؤسسات المخصصة بدورها المنوطِ بها في ذلك؛ لأنها في النهاية ستصبُّ في مصلحة فقراء المسلمين، وتنهض للقيام بحقوقهم؛ ليكونوا أعضاءً مُنتجين، وأفرادًا صالحين، وعناصرَ مجتهدين ، وأفرادا عاملين ناشطين لهم شأن كبير في مجتمعاتهم.
– إنه لا يجب بحال من الأحوال أن نترك أهلَ العَوَزِ يتجرَّعون كُؤوس الفاقة ، ويُعانون شظفَ العيش، ويتذوَّقون أنواع الحرمان، لا يمكن أن نتركهم في مجتمع الإسلام يتكفَّفون الناس، ويذدرعون طرق المدينة لهثا عن طعام، وجريا وراء ثياب، أو يَهِيمون على وُجوههم هنا وهناك وهنالك، فهذا يُعطيهم، وهذا يتندَّر عليهم، وهذا يتأسَّف لحالهم دون عطائهم، لا يمكن أن نتركهم حتى يتناولوا أوراق الشجر، ويضعوا في أفواههم الجلودَ، وما خشُن من الخبز المُلقَى في سِلال المهملات ، هل نتركهم بلا ثوب يسترهم ، أو كسرة خبز تُشْبِعُهم – هذا إنْ وجَدُوها -.
إنه لا يمكن بحال من الأحوال أن نترك أمثال هؤلاء المُعْوزين يتضوَّرُون جوعًا، ويَتَلَوَّوْن ألَمًا في الغدوِّ والرواح، وفي المساء والصباح، في الوقت الذي يموت أناسٌ آخرون موسرون من كثرة الأكل والتُّخَمة، ويرمُون بأطعمة في سلالهم يمكن أن تقوم بها، أو تنهض بأُسَرٍ كاملة، ولكنَّهم بكل أسف بها يبخَلُون، وللفقراء وجوهَهم يُصعِّرون.
فكانت هذه المرئية بحقٍّ جزاءَهم ، وهو جزاءٌ من جنس ما اقترفته أيديهم، فكان جزاؤهم الجوعَ والعُرْيَ، وأكْلَ الضريع، والتِقامَ الزَّقُّوم، يسرَحُون – كما أرتنا تلك المرئية- كالإبل والبقر على وُجوههم، يَأكُلون الأوراقَ الجافَّة، ويتنفَّسون غبار الأرض، ويلقمون الحجارة الصلبة، ويابس الشوك كما تركوا من قبل إخوانهم يتذوقون أطياف الحرمان، ويَبِيتون على الطوى خاويةً بطونُهُم.
ولذلك شرع الإسلام الزكاة؛ ليقيم مجتمعًا متراحمًا متكاتفًا، ولم يجعل الزكاة منةً من أحد، ولا تفضلا من أحد على أحد، ولا أن يكون صاحبُها ذا يد على مَنْ هم أقل منه، لا، وإنما جعلها حقا واجب الأداء فور تحقق شروطه، لا خيار أمام غني، ولا مفر أمام ثريٍّ. إنَّ دفْع الزَّكاة ليس تفضُّلا مطلقًا، وليس أمرًا متروكًا للسماحة والكرم، وإنما هو فرضٌ لازم، وحقٌّ واجبٌ، يخرُج إلى أصحابه، يأخُذونه بكلِّ قوَّة وشُموخ، وعزة، واستحقاق، قال – تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 24-25]، ويقول – عز من قائل- : ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)” سورة التوبة، إنها حقًّا رباطٌ مقدسٌ بين المسلمين، يبيِّن أنهم جسدٌ واحدٌ، ونفَسٌ واحدٌ، ونَفْسٌ واحدةٌ، كما جاء في الحديث الشريف:
(مثَل المؤمنين في تَوادِّهم وتعاطُفِهم وتعاوُنِهم كمثَل الجسَد الواحد إذا اشتَكَى منه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمَّى)، فالزكاة تقوم بكل ذلك، وتقوِّي الروابط، وتمتِّن العلاقات، فلا بُدَّ إذنْ من بذْل الجهد، والتعجل بدفْع الزكاة، والزيادة عليها إن استطاع مخرجها ذلك، فـ”في المال حق سوى الزكاة”، والمسلم الغنيُّ رجلٌ كريمٌ بطبعه، لا ينتظر حتى يرى الفقير مرتميًا أمامَ أقدامِه، أو باكيًا بين يديْه، وإنما يُخرِجُ من كَرائم أمواله ويزيدُ عليها.
لأنَّه يعلم أنَّ المال يقع في يد الله قبلَ أنْ يقع في يدِ الفقير، كما كانت السيدة عائشة – رضِي الله عنها – تُمسِّك الصدقةَ – أي: تضعها في المِسْكِ الزكيِّ والرائحة الطيِّبة – قبل أنْ تعطيها للفقير، وكان الصحابة يأتون بما يطلبه جِيرانهم زيادة على حاجتهم يوفرونه؛ ليعطوهم إياه إذا طلبوه، فإذا احتاجوا إليه وجدوه عند جيرانهم، هكذا رقيُّ النفس، وسموُّ العقيدة، وجَلال العلاقة، وصِدق الصلة.
* ومنها ما يتعلق بشأن اليتامى وحقوقهم في المجتمعات الإسلامية ؛ لأن ثمة عواملَ كثيرة أوجدتْهم في دنيانا، منها الحربُ، والجهادُ في سبيل الله، وذهابُ آبائهم إلى الله شهداء، ومنها الموتُ: قضاءً وقدرًا، ومنها المرضُ المفاجئُ، والعاجل الذي لا يُبقِي ولا يَذَرُ، فيترك لنا شريحة وجيلا لا يمكن الاستهانة به، أو تركه دون متابعة ورعاية، إنَّ غضَّ الطرف أو البصر عن هؤلاء يمكن أن يقوِّض أركانَ المجتمع، ويُودِي به، وعلى النقيض من ذلك؛
فإنَّ الاجتهادَ معهم، والسهرَ عليهم ، وتلبيةَ مطالبهم، وحُسْنَ رعايتهم يأتي بثماره يانعة، ونتائجه المثمرة التي لها- بلا شك- مردودها، وانعكاساتُها الإيجابيةُ على المستوى: الأسري، والاجتماعي، والإنساني، وكذا على المستوى الاقتصادي، بل على أهم مستوى، وهو المستوى الأمني، الذي يُؤدِّي بالضرورة إلى توطيد الأركان، وثَبات المجتمع، واستمراره، وتطويره؛
ومن ثم رأى الرسول الكريم من بين ما رأى مثل تلك الشريحة التي تضيِّع هؤلاء اليتامى وتبيِّن لنا خطورة مسلكهم، وفداحة مصيرهم؛ لأنهم بتركهم دون رعاية وعناية قد يكونون قنبلة موقوتة يدمرون مجتمعاتهم، لأنها شريحة ضخمة ، فهم قد حُرِمُوا نعمة الأبوة، وراحوا يذوقون برحيلهم أشد أنواع الحرمان، وضياع الحنان، وعدم العيش وتذوق طعم الأبوة الحاني، ولم يجدوا حسن الرعاية، ولا جميل العناية؛ ومن ثم نقرأ معًا تلك المرئية في حادث الإسراء؛
إذ رأى الرسولُ الكريمُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – رجالا لهم مَشافر كمَشافر الإبل (يعني: شفاهًا كشفاهِهَا)، وفي أيديهم قطعٌ من نار كالأفهار (الحجارة التي كلٌّ واحدٍ منها ملء الكفِّ)، يَقذِفونها في أفْواههم، فتخرُج من أدبارهم، فلمَّا استفسر الرسولُ – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن طبيعة تلك المرئيَّة أجابَه جبريل – عليه السلام – بقوله: “هؤلاء أكَلَةُ أموال اليتامى ظُلمًا”.
ومن ثم جاءت نصوص الكتاب العزيز ضامنةً لهم ألا يُضيَّعوا في الإسلام، وأن مَنْ يأكل حقوقهم له واقعٌ مهينٌ، وتنتظره عواقبُ وخيمةٌ، يقول – تعالى-:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
ولذلك يحثنا القرآن الكريم- فور وصول اليتامى سِنَّ البلوغ والتمييز- أن نُعيدَ إليهم حقوقهم وأموالهم، وألا نتعجل أكلَها قبل بلوغِهم، حيث يقول الله – تعالى-: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 6].
*ومنها ما يتعلق باستحلال الربا ، والربا كلُّنا يعرف آثاره غير الحميدة في المجتمعات الإنسانية؛ ليس فقط المجتمعات الإسلامية؛ لأنه يمحق البركة في كلِّ شيء، ولا يترك المُرَابي في هذه الحياة حتى يخرجه منها عاريًا مفلسًا، يتكفف الناس بسبب ما اقترفته يداه الآثمةُ من استحلال أموال الناس بالباطل.
فجاءت تلك المرئية لتعيد المجتمعَ إلى عقله، ورشده، وتدفعه إلى أن يتنكَّب طريق الربا المدمِّر، وسبيلَه الوعرَ المهلِكَ، حيث رأى الرسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم – رجلًا يسبَحُ في نهرٍ من دمٍ يُلقَم الحجارة، فلمَّا سأل عنه جبريل – عليه السلام – قال: “هو آكِل الربا”، وقد شبَّهه الله – تعالى – في محكم التنزيل بقوله: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275].
نعم؛ حُقَّ له أن يُرَى وهو يسبَحُ في نهرٍ من الدم، الذي يُؤَوَّلُ على أنه دمُ الفقراء والمساكين الذين اضطرتهم ظروفُ الحياة إلى أن يقتَرِضُوا، فاقترضوا تحت وطأة الفاقة، وسيف الحاجة ولكنه لم يكنْ يرحمُ هؤلاء المعوزين، بل كان يُمْعِنُ في زيادة الربا عليهم، ويستغل حاجتَهم، وكـأنه يمتصُّ دماءهم الفقيرة في أجسادهم، فالله لا يبارك في الربا، ولا في مقترفيه بل كما قال – تعالى-:﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276].
-إنه بعد تلك المرئية لابد لنا من رجوع إلى الله، وعودة إلى رحاب تعاليمه السماوية، وعملٍ بما أمر من وجوب الابتعاد عن الربا، والعودة إلى القرض الحسن؛ حتى يعود المجتمع مجتمعًا قويًّا، متماسكَ الأركان، ومُتَآلِفَ البنيان، لا يجد فقيرٌ على غنيٍّ، ولا يستعلي واجِدٌ على مُعدِم، ولا يحقد محتاجٌ على مُوسِرٍ، بل يتآخَوْن ويتقاربون، ويدعو الفقير لأخيه الغني باليسر، والسعة، والزيادة، والبركة في المال، والنماء في كل نعمة؛ لأنه في النهاية سيعود عليه، ويقوم بحاجته، ويكفيه مؤنة الحياة، ويدفع عنه قسوة الواقع، وغوائل الغلاء، ومطالبه التي لا تنتهي أبدَا.
– حقًّا، إنَّ المتأمل في وقائع ومرئيات الإسراء يوقن أن الله – تعالى- يريد لهذه الأمة أن ترتقي إلى مصاف الملائكة، وإلى طهر ونقاء الملأ الأعلى، وصلى الله وسلم على صاحب الذكرى المباركة، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وتُستنزَل البركاتُ، وتعم الخيرات، والفيوضات، وكل عام وأنتم جميعا بخير.
د جمال عبد العزيز أحمد
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة