بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
يظهر أن سعي الحركات الإسلامية في العالم العربي تطبيق نموذجها في الإصلاح والتغيير وصولاً لتحقيق النموذج الإسلامي، من خلال الأنظمة السياسية القائمة، وتحت سقوفها، يواجه مأزقاً حقيقياً بعد فشل معظم أو كل تجاربها على مدى العقود الماضية
يكمن جانب من الإشكالية في أن الأنظمة السياسية عندما تفتح المجال للإسلاميين للعمل السياسي (غالباً ما تكون مضطرة) لفتحه لأسباب تكتيكية، والحالة تقاطع مصلحي مؤقت، وتجعله محكوماً بشروطها، حيث تُبقي بيدها المفاتيح الحقيقية للتحكم والسيطرة وصناعة القرار والنفوذ، وخصوصاً الجيش والأمن…؛ وهي تفسح المجال أو تُضَيّقه أو تغلقه في ضوء حساباتها واحتياجاتها، كالتعامل مع حالة شعبية ثائرة، أو تجاوز مأزق اقتصادي خانق، أو التعامل مع التحديات والمخاطر الخارجية. كما أن حجم التيار الإسلامي وشعبيته وقوته يفرض جانباً من حسابات النظام.
ولذلك، فإن تعامل الإسلاميين مع هذه الحالة التكتيكية باعتبارها خيارهم الاستراتيجي وأداته الأساسية إن لم تكن الوحيدة لتحقيق نموذجهم الإسلامي، يصبح إشكالية حقيقية. إذ يتحولون إلى “ترسٍ” في ماكينة النظام، ويتم استنزافها شعبياً؛ في الوقت الذي يدفعون فيه أثمان “إكراهات السياسة”، و”ضرورات المرحلة”؛ فيضطرون للسكوت عن العديد من سوءات النظام ومفاسده، وعلى تعطيل جانب كبير من برنامجهم الإصلاحي، وعلى الصبر على تزوير الانتخابات بدرجة أو بأخرى، وعلى القسمة “الضيزى” للمواقع القيادية إن حصلت مشاركة وزارية. ويتحولون إلى جزء من ديكور النظام أو هامشٍ من هوامشه. وبالتالي، يجدون أن بوصلتهم الإصلاحية قد تاهت…، وأنهم دخلوا في حالة لا نهائية من الدوران داخل الإطار الذي حدده النظام، بينما يتعرضون هُم ونموذجها الإسلامي للاستهلاك والتشويه والإفشال.
وعندما يتم استهلاكهم و”تُعصر برتقالتهم” ويَنفَضُّ عنهم الناس محبطين مخذولين، وتنتفي الحاجة التكتيكية لهم، يَفرض عليهم النظام شروطه الجديدة، أو يتخلى عنهم. وتكون النتيجة إطالة عمر النظام الفاسد، وتجميل صورته الداخلية والخارجية، واجتياز النظام أزمته أو ظرفه الحرج.
وقد تكون ثمة فوائد يحصل عليها الإسلاميون من خلال المشاركة والحريات، وخبرات العمل السياسي والقيادي؛ غير أن ذلك يجب أن يخضع لتقييم “جدوى” وضع مشروع استراتيجي نهضوي “أمتي” في سياق تكتيكي وظيفي.
لذلك، فمن المهم وضع عدد من المحددات و”الأسئلة الحرجة” لضبط المسيرة، أبرزها:
– المحافظة على الهوية، والروح الرسالية والإصلاحية، ووضوح البوصلة.
– توفر رؤية ناضجة لتقدير المصلحة، وإدارة المرحلة، وما تتطلبها من مشاريع تنموية، وتنمية خبرات، وبناء كوادر ورموز.
– استمرار التلاحم مع القواعد المؤيدة للمشروع، وتحسس نبض الجماهير ومعاناتهم، واستمرار التعبير عنها، والمحافظة على المصداقية دائماً.
– وضع قاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” في إطارها الشرعي والسياسي والاستراتيجي الصحيح، وإنزالها على فقه الواقع.
– القدرة على توظيف المشاركة بحيث تصب في خدمة المشروع الإسلامي، لا أن يجد أصحاب المشروع أنفسهم في خدمة النظام، وفي استمرار منظومته الفاسدة والمستبدة؛ مع إدراكنا أن هناك قدراً من تقاطع المصلحة المرحلي المسكوت عنه بين الطرفين.
مع ملاحظة تبادل التعامل التكتيكي للنظام بتعامل تكتيكي مناسب ومتناسب.
– القدرة على تحقيق منجزات فعلية على الأرض، تشعر بها الجماهير والقواعد الانتخابية.
– الانحياز للأمة وقضاياها الأساسية، وعدم المساومة على ثوابتها، مهما كانت الأسباب.
– ضبط السلوك القيادي، ووضع نظم ومعايير، تمنع المشاركين من الانزلاق في بهرجات السلطة ومفاتنها.
عندما يكون النظام السياسي “مُصْمتاً” و”مغلقاً” على سلطة حاكمة (عائلية، عسكرية، طائفية، نفوذ خارجي…)، أو تأخذ طابعاً هو في أساس تكوينه و”دولته العميقة” يتخذ مساراً ويتبنى منظومة لا تسمح للإسلاميين، بالتعبير الحر عن إرادة الجماهير، ولا بالاستفادة من صندوق الاقتراع (الانتخابات الحرة النزيهة) في تحقيق برامجهم على الأرض، ولا في امتلاك القدرة على التغيير في منظومة الدولة وفي مفاتيح “السيطرة والتحكم”، في الوقت الذي يحدد له النظام المناطق التي يمكنه أن “يلعب” فيها؛ فعند ذلك على الإسلاميين أن يدركوا أن مشروعهم الحضاري النهضوي غير قابل للتنفيذ؛ وأن أعمالهم ستكون تحت سقف النظام ووفق شروطه، وأنها مرهونة بتقاطع المصالح بين الطرفين؛ وأنهم قد يتحولون إلى مجرد “فقاعة” في منظومة تستهلكها وتقطع الطريق عليهم؛ وبالتالي، قد يفقدون الهدف الذي نشأوا من أجله.
ليس ثمة قاعدة واحدة تجاه المشاركة من عدمها، غير أن وضوح الرؤية، ووضوح البرنامج الاستراتيجي، ووجود القيادة الرسالية الواعية والكاريزمية، وحجم القاعدة الشعبية، وإدراك طبيعة النظام و”شروط اللعبة”، والفرص المتاحة، والمعرفة الدقيقة بالأوزان وقوى النفوذ الداخلية والخارجية، وإدراك طبيعة المرحلة وما يناسبها؛ بالإضافة إلى ما أشرنا إليه في المحددات والأسئلة الحرجة أعلاه، تسهم في اتخاذ القرار الصحيح.
وبشكل عام، تحكم المنظومات السياسية قاعدة “ليس هناك صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، وإنما مصالح دائمة”. أما المشاريع الإسلامية الحضارية النهضوية فلا تملك إلا تكون كبيرة بحجم تطلعاتها. وبالرغم من ضرورات التعامل الواقعي مع الدولة الحديثة والكيانات القطرية، ومراعاة المرحلية؛ فإن الدخول في هذه “المعمعة” لا ينبغي أن يتسبب في تقويمها ولا في انغلاقها محلياً، ولا في تفريغها من محتواها، ولا في ضياع بوصلتها… وبالتالي تخسر ذاتها وسبب وجودها.
مقال رائع يجب أن تأخذه الحركات الإسلامية توجيه وبوصلة