مقال بقلم البروفيسور الدكتور/عبد الفتاح العويسي (المقدسي)
من أعظم صور النصرة الحقيقية لصاحب المسرى صلى الله عليه وسلم
التخطيط الاستراتيجي للتحرير القادم للمسجد الأقصى المبارك
من النصرة، بل ربما من أعظم صور وجبهات النصرة للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في زماننا الحالي، ما تناسته/أغفلته أمة المليار ونصف المليار مسلم، والمتمثل في العمل الاستراتيجي الجاد والممنهج على جميع المستويات والثغور لتحرير مسراه ومعراجه “مركز مركز البركة” المسجد الأقصى المبارك المحتل منذ أكثر من نصف قرن، والذي يشهد بشكل دائم ومستمر ويومي الإساءات الصهيونية المتكررة لجناب رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من قبل الصهاينة المعتدين، منذ اليوم الأول لاحتلالهم له قبل 55 سنة، عندما تم تسليم المسجد الأقصى المبارك لهم في مسرحية حرب 1967، ورددوا في قمة نشوتهم وهم يرقصون في ساحاته: “حط المشمش على التفاح… دين محمد ولى وراح… محمد مات خلف بنات”، ولم يتوقفوا منذ ذلك التاريخ عن الإساءة والسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أليس من الإساءات المغلظة لمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم أن يترك مسراه ومعراجه طوال أكثر من نصف قرن أسيراً في يد الصهاينة المحتلين الذين يقتحمون الأقصى يومياً ويدنسوه ويعتدون عليه ويشتمون مقامه العالي صلى الله عليه وسلم بداخله وفي المدينة المقدسة المباركة، تحت سمع وبصر الأمة المسلمة التي تعايشت بكل أسف مع هذا الواقع الأليم، وأقصى ما تقوم به هو تطفأة الحرائق التي يشعلها العدو، وتدور في فلك ردود فعل وقتية وموسمية، ثم تعود إلى نومها وسباتها الطويل! فهل يعقل أن أمتنا – بعد مرور أكثر من 100 عام على احتلال هذه الأرض المقدسة المباركة منذ الإحتلال البريطاني في 1917 – لا يوجد لديها خطة استراتيجة للتحرير القادم؟!
[العلماء والعمل البنائي]:
أين علماء الأمة من القيام بعمل بنائي إبداعي وخلاق للمساهمة المعرفية في التحرير القادم وصناعة تاريخنا المستقبلي، نصرة لصاحب المسرى صلى الله عليه وسلم، ونصرة للمسرى وقضيته، من خلال إعطاء أولوية قصوى لصناعة الفعل وصناعة الأمل، بدلاً من الوقوع في شرك الأسر للطرف الآخر، ودوامة ردة الفعل التي تشتت الجهود وتضيع الوقت والإمكانيات، وتتيح للطرف الآخر التخطيط الإستراتيجي لتحقيق أهدافه. فلقد حوّل واقعنا المرير جهود بعض المخلصين من أبناء أمتنا وطاقاتهم إلى مواقع الدفاع فوقعوا أسرى ردود الفعل، وانفرد الطرف الآخر بالتخطيط الاستراتيجي التدريجي لتحقيق أهدافه. فكلما حاولنا الانتباه إلى قضية يثيرها “الآخر”، تحول بهم إلى مشكلة وموقع دفاعي آخر، وهكذا دواليك.
فلاشك أن حجر الأساس لصناعة الفعل وبث الأمل، يتمثل في المعرفة – بمعنى الإدراك – التي هي العملية الممنهجة المنظمة الخامسة. فالإدراك يمد الإنسان بالطاقة التي تؤدي إلى صناعة الفعل: وهذه سنة نبوية، وصناعة الأمل: وهذه كذلك سنة نبوية، ولاسيما في الظروف الصعبة واللحظات العصيبة، كالتي تمر بها الأمة المسلمة اليوم.
فالأمة المسلمة في زماننا الذي نعيشه وهي تسعى لتحرير الأرض المقدسة (بيت المقدس) ومسجدها الأقصى المبارك نصرة لصاحب المسرى صلى الله عليه وسلم، ونصرة للمسرى وقضيته، بحاجة ماسة إلى العلم النافع والمعرفة النافعة، لننتقل من التفكير الإستراتيجي إلى التخطيط الإستراتيجي. وبالتالي، في زماننا، نحن بحاجة ماسة إلى أن يتقدم العلماء لرسم خارطة طريق معرفية وبناء خطة استراتيجية للتحرير القادم، تبنى على العلم النافع الذي يدفع الإنسان للعمل، والمعرفة النافعة التي تدفع للتغيير. وهنا يجب التنبيه إلى أن العلم ليس من أجل العلم، بل العلم الذي يوصلك للفهم (المرتبة الثالثة) والذي يؤدي للعمل “العلم إمام العمل”، والمعرفة ليس أن تعرف بل المعرفة التي توصلك إلى الإدراك (المرتبة الخامسة) والتي تؤدي للتغيير.
كما أن الدراسة المعمقة لآيات القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة، وحركة التاريخ، توضح للأمة المسلمة أن المعرفة – بمعنى الإدراك – هي البداية والنهاية، والقاعدة الأساسية لمثلث أو هرم التغيير والتحرير والعمران. وأن الإعداد المعرفي يمثل الأساس الذي يجب أن تبنى عليه جميع الإعدادات الأخرى. فالفتح المعرفي يجب أن يسبق الفتح والتحرير السياسي والعسكري.
[أهمية رسم العلماء لخارطة الطريق المعرفية]:
وحيث إن التحرير هو جني ثمرة الإعداد الجاد والممنهج الدائم على جميع المسارات ولاسيما الإعداد المعرفي الذي يمر عبر عدة أجيال، ويقوده علماء الأمة للمساهمة في إساءة وجه العدو الصهيوني عالمياً، وضمن هذا التخطيط للتغيير، بل وقيادة التغيير والتحرير والعمران نصرة لصاحب المسرى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ونصرة للمسرى وقضيته، فإن تحرير العقول والإعداد المعرفي، يوجب على علماء الأمة المسلمة أن يقوموا – بداية وكخطوة أولية أساسية – إلى رسم معالم خارطة الطريق المعرفية للتحرير القادم، وتحريك المياه الراكدة نحو بناء خطة استراتيجية للتحرير القادم من خلال التشخيص والوصف الدقيق لواقعها وعلتها، بدون مجاملات أو تبريرات أو مكياج أو ألوان، ثم يتبعه بقية العناصر المنهجية للإسهام في صناعة تاريخنا المستقبلي، لتوجيه ما سيجري في السنوات القادمة، والتأثير في مجرى الأفكار والأحداث المتعلقة ببيت المقدس ولاسيما في هذه الظروف التي تمر بها الدائرة الأولى والثانية والثالثة، في وقت تتعرض فيه قضية بيت المقدس لصراع حضاري عنيف، وأخطر مؤامرة في تاريخها الحديث والمعاصر، ولاسيما بعد فشل الموجة الأولى للتغيير في المنطقة، والاستعداد للموجة الثانية.
وفي هذا المقام، أود أن أتوقف عند خارطة الطريق المعرفية في صدر سورة الإسراء، التي ترسم للأمة المسلمة ثلاث خطوات/مراحل مستقبلية مهمة: إساءة وجه بني إسرائيل، ودخول المحررين من الأمة المسلمة للمسجد الأقصى المبارك – كما دخله الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح الأول، الذي كان تتويجاً للخطة النبوية الإستراتيجية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسم خارطتها السياسية والجيوبولتيكية – وتتبير المحررين من الأمة المسلمة لعلو بني إسرائيل. “فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا” (سورة الإسراء: 7).
فمرحلة إساءة وجه بني إسرائيل، التي تسبق دخول الفاتحين للمسجد الأقصى المبارك، وتسبق تتبيرهم لعلو بني إسرائيل، توضح للأمة المسلمة أن المرحلة المستقبلية الأولى لتحرير الأرض المقدسة (بيت المقدس) ومسجدها الأقصى المبارك، هي مرحلة إساءة وجه بني إسرائيل والمشروع الذي يمثله الكيان الصهيوني عالمياً، وفضح الوجه القبيح للاحتلال، من خلال العمل الجاد والممنهج والمستمر. ولاشك أن من أهم وسائل مرحلة إساءة وجه بني إسرائيل، القوة الناعمة: العلم والمعرفة.
ففي خضم معاناتهم الشديدة في مكة المكرمة بداية، ثم وهم يبنون الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم ببيت المقدس بروابط عديدة – قبل وبعد حادثة الإسراء والمعراج – وقام بتوجيه العاطفة أو عقلنة المشاعر والعواطف التي برزت نحو بيت المقدس، فأسس لمفهوم ومصطلح نبوي جديد “بيت المقدس”، وزرع الأمل وأعطى البشائر – بشكل مستمر ودائم وبطريقة مشوقة – بحتمية الفتح لبيت المقدس، ورسم صورة جديدة لبيت المقدس أوضحت أن بيت المقدس هدف استراتيجي مركزي نحو العالمية، حتى كانت من آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما وإصراره على ذلك وهو في فراش الموت. فأصبح بيت المقدس قضية معرفية حوارية بل قضية محلية لمجتمع الصحابة رضوان الله عليهم، وفهموا بل أدركوا أهمية بيت المقدس ومكانته في حاضرهم ومستقبلهم، وترسخ لديهم يقين تام بل عين اليقين بأن الفتح لبيت المقدس واقع لا محالة، وأنه سيكون بعد الفتح مركزاً للعالمية.
[دور العلماء تاريخيا محوري في الإعداد المعرفي]:
وبالإضافة إلى ما تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الفتح الأول، فإن دراسة حركة التاريخ، تعلمنا الدور المحوري الذي لعبه العلماء في الإعداد المعرفي في التحرير الثاني لبيت المقدس، حيث نلاحظ أن الخطتين السابقتين لتحرير الأرض المقدسة من الاحتلالين: البيزنطي والصليبي، قد تضمنتا بالإضافة إلى الإعداد السياسي والإعداد العسكري، الإعداد المعرفي. بل وجدنا أن الإعداد السياسي والعسكري قد تم بناؤهما على الإعداد المعرفي. هذا يعني، أن على الأمة أن تتعلم من الخطتين السابقتين، سيما الخطوة الأولى والأساسية، والأولوية المنسية في زماننا، التي تتمثل في تحرير العقول والإعداد المعرفي. فلا يمكن لأمة أن تحرر أرضها، وعقول أبنائها وبناتها محتلة ومستعمرة من القوة التي تحتل أرضها وتسرق خيراتها، وهذه مهمة علماء الأمة.
وهو ما حدث في زمن حروب الفرنجة (الصليبيين) عندما بدأ الإعداد بالعلماء وعماد الدين، مروراً بنور الدين وتوج بالتحرير الثاني زمن الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي قال مخاطباً جنوده يوم جمعة التحرير (27 رجب 583 هجرية، 2/10/1187م): “لا تظنوا أني فتحت البلاد بسيوفكم، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل”. وفي هذه العبارة يشير الناصر صلاح الدين إلى عبد الرحيم البيساني – الذي كانت شهرته “القاضي الفاضل” – الرجل الثاني في الدولة بعد الناصر صلاح الدين الأيوبي. وهذا يكشف بوضوح التحالف الوثيق بين: المعرفة الممثلة بقلم القاضي الفاضل – الذي لقب بمحي الدين – والسلطة الممثلة بالقائد السياسي والعسكري صلاح الدين الأيوبي – الذي لقب بالناصر.
وفي الإعداد للعالمية الثانية القادمة وأستاذية العالم من بيت المقدس، لابد من نقلة نوعية تقوم على التفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي، ووضع خطة استراتيجية ورسم خارطتها السياسية والجيوبولتيكية، تتضمن الإعداد بجميع مستوياته المعرفية والسياسية والعسكرية، والذي يبدأ بربط أرواح مسلمي العالم وقلوبهم وعقولهم ببيت المقدس وبيته المقدس (المسجد الأقصى) من خلال الإعداد المعرفي.
[بيت المقدس هو ترمومتر الأمة ومضدر انبعاثها العالمي]:
فهل تفيق أمة المليار ونصف المليار مسلم إلى النصرة الحقيقية لجنابه الشريف صلى الله عليه وسلم، وتنصر وتنتصر بصدق لمسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه بالعمل الاستراتيجي الجاد والممنهج لتحريره، وتدرك أنه لا عزة للمسلمين بدون تحرير وعمران بيت المقدس ومسجده الأقصى المبارك، فهو المقياس الحقيقي لعزهم أو ذلهم، وهو المرآة التي تعكس أوضاع المسلمين، وله تأثير على بقية العالم في الماضي والحاضر والمستقبل. فدراسة حركة التاريخ وعلم الجيوبولتكس يعلمنا أن من يحكم بيت المقدس يسيطر على العالم.
فمن الأرض المقدسة المباركة (بيت المقدس) سينطلق الانبعاث الإسلامي العالمي الثاني والفتوحات الإسلامية العالمية الثانية، وتشرق شمس الإسلام والرحمة للعالمين على العالم مرة أخرى، ونصل هذه المرة إلى أستاذية العالم من الأرض المقدسة (بيت المقدس). فهذا وعد الله تبارك وتعالى، وبشارة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما يؤكده لنا دراسة التاريخ وحركته.“لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” (الروم: 4-7)”.
منقول عن مجلة نصرة النبي العدد (2) ذو الحجة 1443هـ، والكاتب عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام.