في ذكراه السادسة والخمسين

في ذكراه الـ (56) التغيير عند سيد قطب .. الخصائص والمنهج

بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد

كان موضوع التغيير عند سيد قطب – ولا يزال – محل جدل طويل المدى، عميق الأثر، واسع الانتشار، متنوع الدوائر، فحمله قوم على التغيير العنيف، وذهبوا إلى أن كل حركات العنف والتكفير والتفجير خرجت من عباءة سيد قطب وفكره وما تركه من أدبيات، وحمله آخرون على غير ذلك، فما هي حقيقة التغيير عند سيد قطب، وموقع هذا التغيير في مشروعه الفكري، لا سيما ونحن في ذكراه؛ حيث أعدم شنقا فجر يوم 29 أغسطس 1966م بعد توسل كثير من الرؤساء والشخصيات للعفو عنه دون جدوى.

خصائص التغيير عند قطب

وفكرة “التغيير” عند سيد قطب لن نستطيع أن نقف على حقيقتها إلا إذا تعرفنا إلى مقومات التغيير عنده وخصائصة ومنطلقاته وكيفيته، وباختصار أن نقرأ الفكرة في ضوء خصائصها عنده، ومن هنا ستكون لدينا القدرة على الحكم عليها، ومحاولة فهم ما يقال عنها، وما تفرع منها وتخرج عليها، وفي السطور الآتية محاولة لاستقراء خصائص التغيير عند سيد قطب على النحو الآتي:

الخصيصة الأولى: أنه رباني:

فالتغيير عند سيد قطب لا يستمد من مناهج بشرية أو قوانين وضعية، وإنما يستمد من الشرع الشريف الذي وضعه رب الناس؛ حيث إن الإنسان قاصر النظر، وقاصر الإدراك زمانا ومكانا وحالا ومآلا، ولا يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون إلا العليم الخبير سبحانه.

يقول قطب: “الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجئ تفكيره محكوماً بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها .. يجئ تفكيره جزئياً .. يصلح لزمان ولا يصلح لآخر. ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر. ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر .. فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه .. لأنه هذه كلها ممتدة في الزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينونة الإنسان ذاته، ومجال إدراكه .. وذلك كله فوق ما يعتور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان!

وكذلك لا يمكن أن تجئ فكرة بشرية، ولا أن تجئ منهج من صنع البشرية يتمثل فيه “الشمول” أبداً .. إنما هو تفكير جزئي. وتفكير وقتي. ومن جزئيته يقع النقص، ومن وقتيته يقع الاضطراب الذي يختم التغيير، ويتمثل في الأفكار التي استقل البشر بصنعها، وفي المناهج التي استقل البشر بوضعها دوام “التناقض” أو دوام “الجدل”. خصائص التصور الإسلامي: 102.

الخصيصة الثانية: أنه تغيير يقوم به البشر:

وليس معنى أنه رباني أن لا دخل للبشر فيه، بل هو يقوم على جهد البشر وعمل البشر وبذل البشر، وهنا تدخل منظومة السنن الإلهية كلها، تلك السنن التي تعتبر قوانين وضعها الله تعالى في الكون والحياة، وأوقف نتائجها على جهد البشر وبذلهم، فجهد البشر بمثابة المقدمات، وهذه القوانين بمثابة النتائج.

يقول في أوائل كتابه “هذا الدين”: “إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية؛ وفي حدود الواقع المادي حينما يتسلم مقاليدهم. ويسير بهم إلى نهاية الطريق في حدود طاقتهم البشرية، وبقدر ما يبذلونه من هذه الطاقة.

وميزته الأساسية: أنه لا يغفل لحظة، في أية خطة وفي أية خطوة عن فطرة الإنسان وحدود طاقته، وواقع حياته المادي أيضاً. وأنه – في الوقت ذاته- يبلغ به – كما تحقق ذلك فعلاً في بعض الفترات، وكما يمكن أن يتحقق دائماً كلما بذلت محاولة جادة – إلى ما لم يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق . و في يسر وراحة وطمأنينة واعتدال.

… ولكن الخطأ كله – كما تقدم – ينشأ من عدم إدراك طبيعة هذا الدين أو من نسيانها. ومن انتظار الخوارق المجهولة الأسباب على يديه…تلك الخوارق التي تبدل فطرة الإنسان، ولا تبالي طاقاته المحدودة ، ولا تحفل واقعه المادي البيئي!”.

ويقول: “يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم،حين يجعل قدر اللّه به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم،وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم”. في ظلال القرآن: 5/ 28.

الخصيصة الثالثة: أنه تغيير عميق:

ومعنى العمق هنا أن التغيير الذي يحدثه الإسلام عقيدة وشريعة هو تغيير عميق التأثير والأثر، وليس مجرد تأثير سطحي أو ظاهري، إنما ينفذ إلى الأعماق ويبلغ الآفاق، ويحقق مداه بقوة ومتانة لا يحققها منهج آخر ولا قانون آخر.

يقول: “والناظر في تاريخ هذه الفترة – يعني فترة الرسالة – يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية ..لقد هزها هزا عنيفا نفض عنها كل رواسب الجاهلية ..لقد أشعر المسلمين – الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة – أنهم يولدون من جديد وينشأون من جديد.كما جعلهم يحسون إحساسا عميقا بضخامة النقلة،وعظمة الوثبة،وجلال المرتقى،وجزالة النعمة.فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركته عليهم.وأن يحذروا عن مخالفته ..وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق،وثمرة تلك الهزة العنيفة”. الظلال: 3/ 199.

الخصيصة الرابعة: أنه تغيير جذري:

التغيير عند سيد قطب تغيير من الجذور والمنابع، وليس تغييرا تلفيقيا يلتقي مع المناهج الأخرى، ويأخذ عنها في أصل تصوره واعتقاده، وفي أصول تشريعاته ومناهجه، وإنما التغيير عنده نابع من الأصول والجذور برفض الالتقاء في منتصف الطريق مع أي منهج آخر؛ كي يظل التغيير صافيا نقيا يُحدث أثره ويفعل فعله.

يقول في كتاب: “معالم في الطريق”: “إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور.. فإما إسلام وإما جاهلية. وليس هنالك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه.. فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدد، وأن ما عدا هذا الحق فهو الضلال. وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج. وأنه إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، وإما شريعة الله، وإما الهوى.. والآيات القرآنية في هذا المعنى متواترة كثيرة”.

ويقول: “لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر، والسطوح والأعماق! انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء – حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين،المسلمين للّه المخلصين له الدين – فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق .. لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم، وليقيم عالما آخر،يقر فيه سلطان اللّه وحده،ويبطل سلطان الطواغيت”. في ظلال القرآن: 4/ 165.

وهذا التغيير الجذري هو الذي دعا رجلا مثل هنري كيسنجر في كتابه: “النظام العالمي” إلى أن يقول: “إن كتاب معالم في الطريق يمثل بيان حرب على النظام العالمي القائم”.

الخصيصة الخامسة: أنه واقعي:

وإذا كان من خصائص التغيير عند قطب أنه رباني فليس معنى هذا أنه مثالي غير قابل للتطبيق، وغير مناسب للواقع، بل العكس هو الصحيح تماما، ويدل على هذا أنه “منهج للبشر”، وليس للملائكة، ولهذا فهو منهج واقعي يعالج الواقع، ويراعي النفس البشرية، ويخاطب خطراتها وهمساتها ويعلم دخائلها، ويتنزل التشريع وفقا لذلك.

يقول في “خصائص التصور الإسلامي”: “يتعامل التصور الإسلامي مع الإنسان .. مع هذا الإنسان الواقعي، الممثل في هؤلاء البشر كما هم، بحقيقتهم الموجودة!. مع هذا الإنسان ذي التركيب الخاص، والكينونة الخاصة. الإنسان من لحم ودم وأعصاب. وعقل ونفس وروح، الإنسان ذي النوازع والأشواق، والرغائب والضرورات. الإنسان الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ويحيا ويموت. ويبدأ وينتهي. ويؤثر ويتأثر. ويحب ويكره. ويرجو ويخاف. ويطمع ويياس. ويعلو وينحط. ويؤمن ويكفر. ويهتدي ويضل. ويعمر الأرض أو يفسد فيها ويقتل الحرث والنسل. إلى أخر سمات الإنسان الواقعي، وصفاته المميزة”.

من الذي يحمل هذا التغيير وبأي مرجعية؟

وإن عملية التغيير هذه وبخصائصها تلك لا توجد في الأرض وحدها، وإنما لا بد من عصبة تقوم بتمكينها والعمل لها والجهاد في سبيلها، وهؤلاء سماهم سيد قطب “الطليعة”، يقول: “إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعًا. تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة..

ولا بد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من “معالم في الطريق” معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصلب غايتها. ونقطة البدء في الرحلة الطويلة.. كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعًا.. أين تلتقي مع الناس وأين تفترق؟ ما خصائصها هي وما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيم تخاطبها؟ ثم تعرف من أين تتلقى – في هذا كله – وكيف تتلقى؟”. معالم في الطريق.

وهذا التلقي هو الذي يحدد المنهج الذي تنطلق من خلاله وتتلقى عنه وتأخذ منه، ألا وهو القرآن الكريم، وسنة النبي الكريم، “هذه المعالم لا بد أن تقام من المصدر الأول لهذه العقيدة.. القرآن.. ومن توجيهاته الأساسية، ومن التصور الذي أنشأه في نفوس الصفوة المختارة، التي صنع الله بها في الأرض ما شاء أن يصنع، والتي حولت خط سير التاريخ مرة إلى حيث شاء الله أن يسير”. معالم في الطريق.

***

إن المتأمل في فكرة التغيير عند سيد قطب يجده ينشد التغيير الشامل الكامل الجذري المستمد من مرجعية معصومة هي مرجعية الوحي المتكئ على “طليعة” تقوم بنشره والعمل له وتمكينه، دون ترك ذلك للمصادفات والأوهام والتمنيات، وإنما ببذل الجهد البشري المحفوف بالعناية الربانية، وهذا هو المشروع الذي يجب أن تقوم له الأمة الآن، وتعمل له، في ظل هذه التحولات الكبرى، والتغييرات المفصيلة في هذه الفترة من حياة البشرية.

اترك تعليق

  1. يقول خالد بن شولاق:

    شكرا جزيلا، وحزاكم الله عن الأمة خير جزاء
    شكرا على هذا الطرح الراقي.

  2. يقول رحمه الله رحمة واسعة وافسح له في قبره...:

    رحمه الله رحمة واسعة وافسح له في قبره.. اللهم إغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله..