بارزة

الرفق والتدرج من خصائص سنة الله

بقلم العلامة: عبد السلام ياسين

في معرض استخلاص العبرة من سنة الله في الكون، ومعرض مراقبة رحا الإسلام كيف انقلبت ودارت دون أن تتفكك أوصالها ويندثر وجودها، ينبغي أن لا تنسينا صعوبة المشروع -الذي نأمل نجاحه وننتظر- أنَّ حصون السلطان المتمنع من القرآن مهما كانت قوية لا تستطيع مقاومة الجهاد الإحساني إن درنا مع القرآن حقا، وقلدنا المعصوم صلى الله عليه وسلم صدقا. شهود لوجو

ينبغي مع توقع المدد الإلهي الخاص أن نتزود بالصبر، ونعول على المطاولة، ونتوغل في الواقع بحزم في غير عنف ولا تسرع، ونوغل في الدين برفق. من يريد أن يغير الواقع في لحظة، ويرفع الموجود بضربة ليحضر مكانه “حلا إسلاميا” جاهزا مكتملا فإنما هو حالم أو مجنون.

سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة.

الوقت بساط على امتداده تتسلسل هذه العمليات وتتوالد وتتدرج. وفي احترامه

هذا التدرج العام قانونُه على الناس أجمعين تكمن حكمة الله الخاصة بهذه الأمة، تطوى لها المراحل وتمهد الصعاب وتعجل بالنصر. ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بمكة حول البيت الحرام تحيط به مآت الأصنام مظِنَّةَ أن يفتح مكة ويكسر الآلهة القرشية بعد بضع سنوات. كان المشركون ويهود المدينة من بعد يحسُبُون حساب ميزان القوى وهو في صالحهم. ولو شاء الله لأبطل تلك الميزان إبطالا ولأطبق الأخشبين على قريش وخسف الأرض بيهود كما فعل بأعداء الرسل من قبلُ. لكن حكمته جل وعلا اقتضت أن تدور رحا الإسلام بالتدرج في عالم الأسباب، وأن تأتي الدفعة الملكوتية لتساعد الأيدي المجاهدة، داخل التاريخ وفي زحمته لا خرقا سافرا لناموسه.

قال الله تعالى في سورة الحشر يصف فعله جلت عظمته بيهود خيبر: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ﴾1.

كذلك يقدر الله تعالى أن يأتي البناء الفتنوي من القواعد، وأن يبدلنا خيرا منه، وأن يفتح لنا كل الحصون. ذلك إليه سبحانه، نستغفره ونضرع إليه. والذي علينا أن نتوغل بالرفق الحازم. روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق”. وجاء الحديث من طرُق أخرى بزيادة تقول: “ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله. فإن الـمُنْبَتَّ [المسرع جدا] لا أرضا قطع ولا ظهرا [دابة] أبقى”.

التدرج والإيغال برفق من أهم واجبات الراجين نصر الله، الناصرين بجهادهم الصابر لله. في الصحيح: “يؤتي الله على الرفق مالا يؤتي على العنف”. وفي القرآن: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾2. يليها قوله تعالى لرسوله ينبهه وإيانا أن العجلة والضيق بالواقع المعاكس لا تغير من الواقع شيئا: ﴿وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾1.

فمن سنن الله أن يُمْلِي للقرى الظالم أهلها ويمهلهم “حتى” يأتيهم بأسه. ومن سننه أن يلهم أولياءه الصبر على بذل الجهد حتى يأتيهم نصره.

1 الآية 2.

2 سورة الأنعام، الآية 34.

سنة الله، ص 21-23.

اترك تعليق