العلامة الدكتور يوسف القرضاوي من وجهة نظر أستاذ الفلسفة وتاريخ العلم (7)

بقلم الأستاذ الدكتور محمد الجوادي(*)

 

(19)

أما فيما يتعلق بالمظهر الأول وهو قصور الدراسة والتخطيط فإن الدكتور القرضاوي يبدأ عرضه لهذه القضية بذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد هجرته إلى المدينة، طلب إحصاء بعدد مَن يلفظ بالإسلام، فأحصوا فكانوا ألفًا وخمسمائة، كما روى ذلك البخاري ومسلم.

ويتعرض القرضاوي بالهجوم للمذهب الذي يؤمن أصحابه بقول القائل: الدراسة تأتي بعد العمل، المهم أن نبدأ العمل، ونمضي ولا نقف ساكنين، أنا أؤمن بالأعمال الناقصة! لنبدأ العمل ناقصًا أو خاطئًا، ثم يأتي غيرنا فيكمل النقص ويصحح الخطأ.

ويصرح القرضاوي بأنه يقدِّر دوافع ومبررات مثل هذه الفلسفة، ولكنه يعتقد أن الذي أكدته التجارب أن ترقيع العمل المطلوب، أو تقويم المشروع الأعوج، أصعب بكثير من بدئه من الألف بداية صحيحة.

ويركز القرضاوي بعد ذلك على أهمية التخصص في العلوم الحديثة جدًّا والمهمة جدًّا، (فلا بد من التخصص، الذي يعتبر في نظر الشريعة من فروض الكفايات الواجبة على الأمة مجتمعة، ولا يجوز أن تتكدس القدرات والكفايات في كل مجال، على حين يغفل مكان آخر، يحتاج إلى مَن يقوم به فلا يجد).

وبوعي شديد بقضايا التنمية المعاصرة، فإن القرضاوي يستشهد بموقف القرآن الكريم حين عاب على المسلمين في عصر النبوة: أن يتجهوا كلهم إلى الجهاد، ونزلت الآية القرآنية الكريمة: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة؛ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون﴾.

(20)

أما فيما يخص العجلة – وهي ثاني مظاهر العواطف على الحركة الإسلامية – فإن القرضاوي يلفت النظر إلى أن هذا العيب ليس إلا أثرًا من آثار غلبة العاطفة والانفعال على منطق العلم والعقل والتخطيط، ويستشهد مفكرنا ما أمكنه بآيات الصبر في القرآن الكريم، ثم يردف هذا بقوله: (إن الاستعجال جعل الحركة الإسلامية تخوض معارك قبل أوانها، وتخوض أخرى أكبر من طاقتها، وتحارب الشرق والغرب مرة واحدة، وتدخل نفسها مداخل لا تستطيع الخروج منها، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يكلفنا إلا وسعنا، ولا يحل لنا أن نكلف أنفسنا من البلاء ما لا نطيق فنعرضها للفتنة).

وبعد أن يستعرض القرضاوي تجارب النبي موسي وأخيه هارون، وبعض التجارب الأخرى التي تحدثت عنها الأحاديث النبوية الشريفة، يعترف في أسًى مشوب بالأمل فيقول: (وكم تمنيت وأعلنت في مناسبات مختلفة للحركات الإسلامية في الفترة التي كان لها فيها حرية التحرك والنشاط أن تدخر قوتها، ولا تورط نفسها في مواجهات ومعارك يدفعها إليها المغامرون المتعجلون، أو يستدرجها إليها المخططون الماكرون. وأن تشغل نفسها بنشر الدعوة إلى الإسلام الصحيح بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تدع التفكير في استخدام القوة والعنف والاصطدام بالسلطات الحاكمة لمدة عشرين سنة، وستجد بعدها أنها أحدثت (ثورة سلمية) في المجتمع كله، وحققت انقلابًا فكريًّا ونفسيًّا وأخلاقيًّا، من غير أن تشهر سلاحًا، أو تعلن جهادًا).

هكذا يمكن لنا القول مستندين إلى نصوص القرضاوي نفسه، أنه ليس كما يبدو للوهلة الأولي من سياق كلامه، ذلك الرجل الذي يؤجل العنف حتى الاستعداد، ولكنه يؤجله إلى لحظة لا يكون للعنف فيها داع أبدًا.

(21)

يعد القرضاوي (المبالغة) آفة من آفات الأمة، التي تأتي بصورة تابعة للعاطفة، ويعبر عن هذا المعنى بوضوح شديد فيقول: (ولهذا شاع أفعل التفضيل على ألسنة دعاتها وأقلام كتابها: الأعظم، والأقوى، والأفضل، والأمثل، والأحقر، والأضعف، إلخ).

ويتطرق القرضاوي من هذا المدخل مباشرة إلى التأمل في طبيعة نقدنا للحضارة الغربية، وقيامها على المادة والنفعية والعنصرية، إلخ. ويتدارك الأمر بقوله: (ولكن لا ينبغي أن ننسى أن في الحضارة الغربية نقاط قوة، يجب أن تذكر لها من باب الإنصاف أولًا، ومن باب معرفة الخصم على حقيقته ثانيًا)، ويضرب القرضاوي بعض الأمثلة التي توضح فكرته فيقول: (من ذلك: قيامها على العلم التجريبي، وحسن الإدارة والتنظيم، والتعاون أو عمل الفريق، والاهتمام بالأخلاق الاجتماعية، واحترام الإنسان، وحرياته، وحقوقه).

ويروي القرضاوي في هذا المقام تفصيلات على جانب كبير من الأهمية فيقول: قال القرشي عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”. فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالًا أربعًا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.

ويعقب الدكتور القرضاوي على شهادة عمرو بن العاص، بأنها نتاج الإسلام الذي علم رجاله أن يكونوا: ﴿قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [النساء:135].

(22)

ونمضي مع مفكرنا الجليل إلى رابع نقطة من نقاط الضعف في الحركة الإسلامية، بعد غياب أو ضعف النقد الذاتي، والانقسام والاختلاف، وغلبة الاتجاه العاطفي على الاتجاه العقلي والعلمي، (وهي النقطة التي انضوت تحتها ثلاث جزئيات فرعية انتهينا من تلخيصها منذ قليل: قصور الدراسة والتخطيط، المبالغة، العجلة).

هذه الآفة الرابعة هي: الخوف من التجديد. ويعبر القرضاوي عن هذا المعني في حق الحركة الإسلامية بقوله: (إنها تخاف من الاجتهاد، ولا ترحب كثيرًا بالتجديد، ولا تميل إلى الانفتاح ومواكبة التطور). وبعد فقرات مطولة في وصف هذا الخلق، يصل القرضاوي إلى جزئية مهمة يعبر عنها بعبارات واضحة ساطعة حيث يقول: (وتضيق بالمفكرين من هذا النوع الذي يصعب صبه في قالب حجرى لا يفارقه، أو حبسه في قمقم فكري لا يخرج منه، وربما تصدر في شأنهم قرارات أشبه بـ(قرارات الحرمان)، بحيث لا تقرأ كتبهم، ولا تشهد حلقاتهم). والحركة نفسها تستريح بانسحاب هؤلاء المفكرين منها (لأنهم يحركون السواكن، ويثيرون البلبلة).

(23)

ويستعرض القرضاوي بعد هذا ما يستنكره من تجارب للأحزاب الإسلامية، ويلخص موقف هذه الأحزاب بقوله: (يفرض بعضها على أتباعه نوعًا من الثقافة المحفوظة، التي تردد وتكرر مفاهيمها كأنها قرآن يتلي).

ويري القرضاوي أنه (في ظل هذا المناخ الفكري، تجد الآراء المتشددة، والمواقف المتشنجة رواجًا وإقبالًا، ويعتبر أصحابها أبطالًا).

ثم يجأر القرضاوي برأي مهم ومخلص لعله أكثر الآراء في هذا الكتاب كله جرأة وشجاعة، حيث يقول: (إن الانحراف يتمثل في توظيف العلم في اتباع هوى السلاطين، ونسوا أن يضيفوا إليه توظيف العلم في اتباع أهواء الجمهور، وفي رأيي أن اتباع أهواء العامة أشد خطرًا من اتباع هوى السلطان، لأن الذين يتبعون السلاطين يكشفون ويرفضون، أما الذين يتبعون أهواء الجماهير فهم في نظرهم الأبطال الصادقون).

وفي نهاية حديثه يؤكد القرضاوي وعيه بأن بعض أبناء الحركة قد (يضيقون بهذا النقد ويفزعون منه)، ولكنه مع ذلك يذكره، ويصف فعله هذا بأنه يقوم به (احتسابًا لله، ونشدانا للكمال).

(24)

لا يستطيع منصف أن يتجاهل العقلية الممتازة، والتحليل الواعي الذي يتمثَّل في فكر القرضاوي، الذي ظهر في تحليله الدقيق لهذه العيوب، ومع أنه لا شك في أن هناك عيوبًا أخرى كثيرة تعتري مسيرة الحركة الإسلامية، فإن من المؤكد أن القرضاوي استطاع أن يضع يديه على عيوب بارزة، قد تكون بمثابة المحدد الأول لقدرة الحركة في المستقبل على تجديد دمائها، وتنقية أجوائها، والمضي إلى المستقبل بعقلية أكثر تفتحًا ونظامًا وانتظامًا.

ولكن المتأمل للأوضاع الراهنة، لا يستطيع أن يغفل مثلا أن القرضاوي لم يتعرض على الإطلاق للعيوب التنظيمية البارزة، التي لا تتضح معها صورة الحركة الإسلامية في أذهان الجماهير، ومن ثم تتحول عندهم إلى صورة متضخمة من صور الحركات السرية.

(25)

كان في وسع الدكتور القرضاوي لو أعطى هذه النقطة بعض الاهتمام أن يخلص بنا إلى كثير من النتائج الإيجابية والمهمة، التي قد تتضح معها الصورة بصورة أفضل في أذهان العاملين في هذه الحركات.

كذلك فإني أعتقد أنه كان من واجب مفكرنا الكبير: أن يتعرض إلى مدى الاهتمام الموجه إلى الناحية الإعلامية في برامج الحركات الإسلامية، وإلى المحاذير التي تستدعيها ممارسة هذه السياسات الإعلامية مع العمل العام، الذي يحتاج إلى كثير من الخبرة، وكثيرًا من القدرة على مخاطبة الجمهور سواء داخل الحركة أو خارجها، وبخاصة أن أبرز مصاعب الحركة الإسلامية (فيما يبدو لي)، لم ينشأ إلا من هذا المجال، حين يصبح من السهل أن ينسب إلى الحركة ما ليس فيها، وتصبح الحركة بالتالي معرضة لكثير وكثير جدًّا من النقد والانتقاد الذي لا أول له ولا آخر، والذي لا يمكن التصدي له إلا بوسيلة واحدة هي أن يعرف الآخرون الحقيقة، قبل أن يندفعوا في مثل هذه المواقف التي يصعب الرجوع عنها.

ومع كل هذا، ومع غيره، فقد نجح القرضاوي في أن ينتقل إلى الباب الثالث الذي خصصه للحديث عن الأمل والعمل في المستقبل، وهكذا استطاع القرضاوي أن يخرج من إطار الفيلسوف المسؤول عن شرح أوضاع الحاضر والماضي بلغة التبرير، إلى مجال المفكر المبدع الفنان الذي تحدوه النظرة إلى المستقبل، بروح الرضا عن الأمس، مع تقدير لما في الأمس من أشياء لا تستأهل الرضا، وبروح الإفادة من الحاضر، مع كل ما في الحاضر من واقع يفرض نفسه علينا اليوم وفي المستقبل القريب.

(26)

يفاجئ القرضاوي مريديه منذ مرحلة مبكرة بفهم جديد ومرن يعلي من قدر الحرية، ويتشوق إليها، ويتبلور هذا الفهم منذ السطور الأولى للباب الأخير الذي يختم به القرضاوي الأبواب الثلاثة التي يتألف منها هذا الكتاب، فالقرضاوي مع الحرية: (وقد أثبتت التجارب في أقطار إسلامية شتى، وفي أزمنة مختلفة: أن الحركة الإسلامية إنما تنتعش وتزدهر في ظل الحرية، هناك تتجاوب مع الفطر السليمة والعقول الراشدة، فيهتدي على يدها الضالون، ويزداد الذين اهتدوا هدى).

ويعرب القرضاوي بوضوح عن أمنياته العميقة للعاملين في الحركة الإسلامية أن يتمكنوا من النجاة من الفشل، وهو لهذا يمتد بنشاط الحركة الإسلامية وتأثيرها إلى أبعد مما يظن الناس: (إن الحركة الإسلامية إن أخفقت في إقامة الدولة الإسلامية المنشودة، فهذا لا يعني أن دورها قد انتهي).

(27)

لا يجد القرضاوي حرجًا في أن ينقل لنا عن الدكتور نبيه أمين فارس قوله عن الإخوان المسلمين: (إن فكرتهم ومثاليتهم لا تزال تمثل أعمق مطامح المسلمين من المغرب إلى إندونيسيا).

ولا يجد القرضاوي حرجًا في أن ينقل لنا عن المستشرق برنارد لويس في كتابه (الغرب والشرق الأوسط) قوله: (والشيء الواضح الوحيد هو (أنه) من بين جميع الحركات التي هزت الشرق الأوسط (في آخر 150 عاما)، كانت الحركات الإسلامية وحدها أصيلة في تمثيلها لمطامح أهل هذه المنطقة، فالليبرالية والفاشية والوطنية والقومية والشيوعية والاشتراكية كلها أوروبية الأصل، مهما أُقلمت وعُدِّلت في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة، وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة. وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتى الآن، (إلا) أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة) اهـ. لويس.

(يبدو أن الدكتور القرضاوي قد نقل هذه الفقرات عن كتاب مترجم، ولهذا أعدنا الصياغة، ووضعنا بعض الألفاظ من عندنا وهي تلك التي بين قوسين).


(*) مفكر عربي معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي والتنموي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وعضو مجامع اللغة والمجامع العلمية واتحادات الكتاب، وهذه الورقة كانت ضمن كتاب: “التسعينية” بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي تسعين عاما، ونشرت أعمالها في خمسة مجلدات كبيرة.

اترك تعليق