بقلم أ.د. محمد الجوادي(*)
(1)
كان العلامة يوسف القرضاوي طليعة الجيل الذكي الجسور الذي اقتحم الحياة الأكاديمية بثقة واقتدار، موفقًا ومؤنقًا، وحاسرًا كاسرًا للإطار الحديدي الذي فُرض بقسوة على شباب الأزهريين؛ لعزلهم عن الحياة الأكاديمية، للوصول إلى قتل قانوني متعمد للأزهر، وتعليم العلوم الإسلامية في مصر، ومن ثَم في البلاد الإسلامية، التي لم ينجها من ضياع الإسلام إلا التنمية، التي واكبت توظيفًا ذكيًّا لثروة البترول، التي يسرها الله للعرب، من حيث لم يحتسب أعداء الإسلام، كان الشيوعيون واللادينيون الذين كُلِّفوا بإنفاذ هذه الفكرة من الإجرام بحيث حاربوا أنفسهم أيضًا، ضمن حربهم على الأزهر، وعلماء الأزهر، وخريجي الأزهر الذين يريدون أن يسيروا في طريق العلم.
كان الإنصاف العلمي الطبيعي يقتضي أن ينال القرضاوي – باعتباره أول دفعته – بعثة للدراسة في الخارج: في السوربون أو في لندن أو في ألمانيا، لكن هذا لم يحدث، بل إنه لم ينل حقه الطبيعي في أن يكون معيدًا في كليته، مثلما أصبح كل من أول الزراعة أو التجارة أو دار العلوم معيدًا في كليته.
وقد كان الوضع في الأزهر يعترف بوجود الكليات من أوائل الثلاثينيات، لكنه يتيح لأوائل الخريجين فرصة أخرى، بأن يبدؤوا في العمل في مستويات أوسع أفقًا من الجامعة، ثم يدخلون إلى الجامعة بعد أن يحقِّقوا النضج والتجويد كمدرسين وكأساتذة صقلوا مواهبهم وخبراتهم وعلمهم خارج نطاق المدرج المحدود أو القاعة الصغيرة.
فلما بدأت الأتاتوركية المصرية خطواتها المقصية للإسلام، أضافت بديلًا مأساويًّا لم يحدث على مدى تاريخ الأزهر، صاحب الأوقاف، ومالك الأبعاديات؛ فإذا بحكومة العهد الجديد عبر مسارب مستترة تترك الخريجين الأزهريين بلا عمل على الإطلاق، وتنهي إليهم بطرق غير مباشرة: أن عليهم أن يبحثوا عن الفرص المتاحة في أي بلد عربي أو إسلامي، أو أن يقبلوا بوظائف مؤقتة، لا تتكافأ مع مؤهلاتهم، من قبيل القيام بالتدريس بالحصة في المدارس الابتدائية، التي كانت تعاني من نقص هيئات التدريس.
(2)
ومن المفارقة أن هذا الافتراء كان قريبًا من الموقف الذي وجد القرضاوي نفسه فيه، وقد كان من الممكن له أن يبقى بلا عمل على الإطلاق، بينما كان هو نفسه هو أول الشهادتين العالية (الليسانس) والعالمية، على حين كان الخريج الأقل من العادي (أي الأخير مثلًا على الدفعة) في الدفعة السابقة له بثلاث دفعات أو دفعتين فقط، قد عُيِّن فور تخرجه مباشرة بمرتب متميز يكافئ الشهادتين اللتين حصل عليهما، وذلك بفضل سياسة انتهجها الوفد العظيم (بالثلاثي العظيم: النحَّاس وسراج الدين وطه حسين)، في نشر التعليم كالماء والهواء، وتوفير الكفاءات الجامعية لمدارس وزارة المعارف والمعاهد الدينية.
وهو ما دفع الحكومة إلى تعيين كل الخريجين الذين تمكنوا من الحصول على دبلوم معهد التربية العالي (أو تخصص التدريس الذي كانت كلية اللغة العربية تمنحه)، بعد شهاداتهم الجامعية، وكان من هؤلاء خريجون في كليات الهندسة والطب البيطري والزراعة والفنون الجميلة والفنون التطبيقية، فضلًا – بالطبع – عن خريجي كليات العلوم والآداب والشريعة وأصول الدين واللغة العربية ودار العلوم. وقد ظلَّ هؤلاء يحملون مسؤولية التعليم باقتدار حتى العقد الأول من عهد مبارك.
وسرعان ما حلَّت لعنة بعض القرارات المغرضة التي مررتها ثورة 1952م دون وعي أو بوعي خبيث. حلَّت هذه اللعنة على مَن تخرجوا في بداية عهد ثورة (52)، وبقي بعضهم بلا عمل نظامي ودخل ثابت حتى 1962م، حين أخذت الدولة بسياسة تعيين الخريجين في إطار التوجه المركزي للدولة، الذي شهد أيضًا تطبيق القوانين الاشتراكية، والتأميم، وتطبيق المرحلة الثانية من قوانين الإصلاح الزراعي.
كان يوسف القرضاوي أول كلية أصول الدين في مقدمة هؤلاء المضارين، وقد حلَّت به متاعب ومعقبات لعنتين أخريين استحسنت ثورة 1952م أن تمارسهما، فقد أصبح مُلاحقًا؛ لأنه كان سياسيًّا منتميًا، على نحو ما تتمنى الدولة – أية دولة – من نوابغها، وكان مما يشرفه أنه ينتمي إلى الجماعة التي كانت بقواعدها الواسعة الممتدة المتشعبة هي الأحق بتولي الحكم، لكن الضباط آثروا أن يمارسوا الحكم بدلًا من الحرب، وأن يمارسوا الحكم بدلًا من الشعب، وكان لا بد لهم كي يؤمِّنوا كراسيهم: أن يلاحقوا كل الوطنيين المنتمين، أيًّا ما كانت انتماءاتهم، بالسجن والفصل، والتشريد والتشويه، والتعذيب، والتهجير والنفي.
وكانت اللعنة الأخرى أن 1952م بدأت في سرية ودأب (وبغطاء ذكي منافق)، تطبيق بروتوكولات محاربة الإسلام بأفظع صورها، متفوقة بهذه الممارسات على ما حدث من قبل في تركيا وألبانيا وفي الاتحادين السوفييتي واليوغسلافي، وفيما عرف باسم الجمهوريات الإسلامية السوفييتية، وفي الأجزاء المقتطعة من العثمانيين، التي أصبحت تحت سيطرة الدول التي سرعان ما تجمعت فيما سمي بحلف وارسو.
(3)
لم يكن زملاء القرضاوي المتخرجون في كلية الشريعة يتصورون أنهم سيُبعدون تمامًا عن فكرة القضاء الشرعي، ولا أن هذا القضاء نفسه سوف يُلغي نهائيًّا، ولم يكن زملاؤه المتخرجون من كلية أصول الدين يتصورون أنهم سيحجبون عن قيادة الدعوة في وزارة الأوقاف، وسوف يكون أقصى ما هو مسموح لهم أن يصلوا إليه: هو منصب وكيل المديرية؛ لأن منصب المدير أصبح من باب النكاية في الإسلام، وعلماء الإسلام. فهو مقصور على المهندسين، تحت دعوي حاجة مباني الأوقاف والمساجد إلى صيانة هندسية. وكأن مدير الأوقاف هو الذي سيمارس الصيانة بنفسه.
لكن الأصعب من هذا وذاك: أن هؤلاء الخريجين المتفوقين أصبحوا – دون قرار واضح – ممنوعين من أن يستكملوا دراساتهم العليا في رحاب الأزهر الشريف نفسه.
كانت هناك منذ قانون تطوير الأزهر في 1930م عالميتان تناظران ما كان معروفًا في بريطانيا وفرنسا من وجود درجتين للدكتوراه: الأولى وهي الأصغر، تسمي في فرنسا دكتوراه الجامعة، وفي بريطانيا دكتوراه الفلسفة. والثانية وهي الأكبر، تسمي في بريطانيا دكتوراه العلوم، وفي فرنسا دكتوراه الدولة.
وكانت عالمية الأزهر الكبرى تسمى العالمية، من درجة أستاذ، كما كانت تسمي تخصص المادة.
وكانت عالمية الأزهر الصغرى أو الأولى تسمى عالمية المهنة أو الوظيفة.
وعلى عادة علماء الأزهر الشامخين، فإن أحدًا منهم لم يشغل باله بأن يؤكد أو يحدد مكانة الشهادات الأزهرية الخمس من جداول الأجور أو جداول البروتوكول، ولم يكن هذا خطأ تامًّا، وإنما كانت له دواعيه، في مجتمع كان يحتفظ لفئاته بامتيازاتها الأدبية، دون حاجة إلى الوعاء الشمولي، لكن الإيذاء جاء مع طوفان الشمولية فيما بعد.
لكن الأمر لم يخل من تقدير مادي هنا وهناك، على نحو ما كان معروفًا فيما كان يسمي بفارق الكادرين.
وقد ظلت مصر الرسمية – فيما نسميه العهد الليبرالي الذي بدأ بعد ثورة 1919م – تحترم العالميتين، وتعاملهما على هذا النحو المتميز، وكانت عالمية الأستاذية تتطلب تقديم رسالة علمية، على حين لم تكن العالمية الأولي تقتضى تقديم ما نعرفه على أنه رسالة، مستعيضة عن الرسالة بما هو أفضل منها في تكوين العلماء، وهو اختبار (التعيين)، وهو نفسه تقريبًا الأسلوب الذي كانت كليات الطب تأخذ به خريجيها، في تأهليهم للدراسات العليا فيما كان يعرف بالـ(Review).
(4)
أصبح على يوسف القرضاوي في مقتبل حياته أن يفكر – دون ذنب جناه – في الاختيار بين ثنائية الحرية والاغتراب، أو أن يفقد الحرية والعلم معًا، من دون يعرف أن هذا الاختيار هو في حد ذاته اختبار العمر كله، فقد أصبحت الحرية مستحيلة مع التوطن، وهو يحس ويشعر ويدرك ما يراه بنفسه، وما يعانيه غيره من ملاحقة محمومة ومتكررة وغير مبررة، بل وهو يرى نفسه محجوبًا عن مواقع التأثير، بحكم بروتوكولات خفية طبِّقت قبل هذا في تركيا وألبانيا وغيرها، من أجل القضاء المبرم على روح الإسلام ووجوده.
كانت الحرب على الحرية تسير في نعومة ودأب، وبأساليب ملتوية، لا تصرح بأنها حرب على الحرية، ولم تكن هذه الحرب في جوهرها لمنع الحرية، ولكن لوأد التوجه الإسلامي، كما لم تكن هذه الحرب تترك فرصة للإخوة المواطنين ليكتشفوا أنها تستهدف الإسلام، لا الحرية وحدها، ولم يكن القرضاوي (ولا أي من أقرانه) مهما أوتي من دهاء التاريخ بقادر على أن يدرك المدى المتوقع لهذه الأزمة، التي بدت وكأنها مجرد فعل سياسي محدود، بينما كانت هي السحابة الكفيلة بأن تخيم على مستقبله العلمي كله حسب بروتوكولات المجرمين.
لكن القرضاوي في الوقت ذاته، وبقدرة الفعل الفسيولوجي الذي رُزق به كل إنسان مهما كان حظه من الذكاء ضئيلًا، كان مدركًا لحقيقة جهيرة، وهي أنه لا يكاد يتنفس، فالمناخ ليس مناخ علم ولا بحث، ولا مناخ إبداع في نقل ولا عقل، وكيف يمكن للمناخ أن يكون هكذا، بينما المطلوب محدَّد سلفًا، وإطار الحديث مفروض بقيود حديدية صريحة، والتجاوز غير جائز، والتربص بالمتحرر أو المجتهد وصل إلى حدود لا نهاية لها من العنت والتعسف، وأمثلة النجاح في الجيل السابق غير قابلة للتكرار.
كان القرضاوي يستعيد ما يسمعه عن ثورة الأزهر في سنة 1935م، فيبدو له خيالا أو يبدو وكأنه من أحداث القرون الغابرة، بينما أبطاله لا يزالون على قيد الحياة، والمظاهرات التي طالما شهدها في شبابه في طنطا والقاهرة على مدى الأربعينيات كلها وأوائل الخمسينيات، أصبحت في خبر كان، والعلماء الذين كان يجلجلون بالحق، أصبحوا بين غائب عن الدنيا، أو غائب عن مواقع التأثير.
وقد شهد بعينه سيارات السلطة العسكرية الجديدة تقف إلى جوار باب المسجد، وهي متأهبة للقبض على الخطيب بمجرد انتهاء الصلاة إذا ما تجاوز، وهو في الغالب سيتجاوز الصمت إلى الحق، أو يتجاوز الخضوع إلى النقد؛ وإن لم يكن شرطًا للقبض عليه: أن يتجاوز طب التسكين إلى طب التثوير.
(*) مفكر عربي معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي والتنموي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وعضو مجامع اللغة والمجامع العلمية واتحادات الكتاب، وهذه الورقة كانت ضمن كتاب: “التسعينية” بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي تسعين عاما، ونشرت أعمالها في خمسة مجلدات كبيرة.