بقلم د. محمد الدكالي
تتداول منذ سنوات بعض ” التفسيرات” حول توقيت زوال الكيان الصهيوني مستندة إلى فهومات متعسفة لبعض نصوص القرآن الكريم، وصولا إلى تحديد تواريخ معينة بتأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، خاصة وأن السنّة الثابتة لا توجد فيها أية معلومات حول مثل هذه التوقيتات. هذه التأويلات المتعسفة هي في نهاية مطافها مجرد تزييف للوعي حول قضية فلسطين التي يجب فهم طبيعتها ومآلاتها وفقا لسنن تطور وصراع الحضارات والأمم والمجتمعات والدول والتاريخ.ونهاية الكيان الصهيوني المحتومة، يجب أن تدرس إرهاصاته ومؤشراته بناء على ما جرى ويجري على الأرض بالرصد والتحليل الموضوعيين وليس بالغيبوبة في التفسيرات الخيالية.
إشارات القرآن
جاء في القرآن الكريم في بدايات سورة الإسراء وصف عجيب ومدهش لما سيحدث لبني إسرائيل بعد قرون من نزول هذه الآيات، وهو أمريستدعي منّا التوقف والتساؤل عبر إعمال العقل واستقراء التاريخ والأحداث في الفهم وللفهم. يقول الله جلّ ذكره{وَقَضَيْنَآإِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء: 4]. ووجه التعجب، ولا عجب في أمر الله، أن بني إسرائيل زمن نزول هذه الآية، كانوا مشتتين في الأرض ولم تكن لهم أية قوة جامعة، لا في شكل دولة ولا في شكل مجتمع واحد، حيث وصف القرآن وضعا معينا سيكونون عليه يوما ما، وهو وضع “العلو الكبير”.
ومما هو معروف في التاريخ اليهودي أن اليهود عرفوا موجتين من الشتات، الأولى تعرف باسم “السبي البابلي” في القرن الثامن قبل الميلاد، وفيه جدل حول بعض تفاصيله، وهناك ما يعرف باسم “الشتات الأكبر”سنة 70 ميلادية على يد الإمبراطور الروماني تيتوس الذي استأصلهم من فلسطين بعد محاولة تمرد، فتفرقوا بعدها جماعات في عموم بلاد الشام والعراق وشبه الجزيرة العربية وصولا إلى المغرب ثم الأندلس بعد فتحها. كما وصلت جماعات منهم إلى مملكة الخزر شمال بحر قزوين وتهوّد ملكها وأتباعه، فحدثت هجرات يهودية من هذه المملكة إلى أوروبا الشرقية وروسيا وبولاندا ووصلت جماعات منهم إلى غرب أوروبا. هكذا كانت وضعياتهم في القرون الوسطى، كجماعات تعيش في أحياء خاصة شبه مغلقة (الغيتو)، واستعصوا على أي نوع من الاندماج في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها. ولأسباب دينية واقتصادية بالدرجة الأولى، تعرضوا في حالات عديدة إلى اضطهاد دموي في روسيا وأوروبا والأندلس بعد سقوطها، جراء نظرة الكنيسة ومن ثمة المجتمعات الأوروبية المسيحية التي كانت تعتبرهم بصفتهم “قتلة المسيح” ولتعاملهم بالربا مع الملوك والتجار وعامة الناس كمظهر للجشع والاستغلال، وتعتبر مسرحية “تاجر البندقية” الشهيرة لشكسبير التي كتبها سنة 1596 وتعرض منذ ذلك الوقت في المسارح العالمية حتى اليوم، نصّا أدبيا وفنّيا شعبيا يعكس، عبر شخصية التاجر المرابي اليهودي شيلوك، رؤية المجتمعات الأوروبية السائدة لليهود خلال القرون الوسطى، بل وإلى اليوم.
وبالعودة إلى وصف القرآن لهم بالعلو الكبير في الأرض، فقد كان واقعهم في العالم آنذاك ولقرون عدة، لا يشي بأية إمكانية لكي يصبح اليهود مجتمعا ودولة، بله أن يتحولوا إلى قوة عالمية طاغية، فقد كان النظام الإمبراطوري والملوكي هو السائد في تشكيل الخريطة السياسية للدول قديما، وهذا يقتضي بالضرورة قوة عددية كبيرة منافسة وحيزا جغرافيا واسعا وقيادة قوية طامحة للسيطرة والتوسع. لم يكن اليهود يمتلكون أيا من هذه المقومات لإقامة دولة، بله أن يصبحوا قوة لها نفوذ وجبروت في العالم، بل لم يكونوا أصلا مجتمعا واحدا ومتجانسا عرقيا أو ثقافيا بالمعنى الأنثروبولوجي الطبيعي، وهذا ما حلّله بعمق وشجاعة الفيلسوف روجيه غارودي رحمه الله في كتابه الشهير “الأساطير المؤسسة لإسرائيل” الذي أثار عليه سعار وهستيريا اللوبي الصهيوني في فرنسا، وحوكم بسببه أمام المحاكم الفرنسية.
إن مسألة “العلو الكبير”،تضعنا أمام حقيقة تاريخية كبيرة مدهشة بهذا الوصف القرآني الدقيق.
كيف حدث العلو في الأرض؟
قبل الحديث عن مؤشرات وبوادر تفكك المجتمع الإسرائيلي ومن ثمة الكيان الصهيوني، التي أصبحت ظاهرة للعيان وباعتراف قادة الكيان نفسه، واحتمالات تصدعه بشكل غير قابل للترميم على المدى الأبعد وربما المنظور، من المهم إلقاء نظرة مختصرة عن المسارات التاريخية التي أفضت بتحول الوجود اليهودي في العالم من حالة التشتّت الجغرافي والتنوع العرقي والثقافي، كأقليات في عشرات البلدان على امتداد عشرين قرنا، إلى تنفيذ مشروع تجميع حوالي نصف عددهم في العالم، عبر الهجرة المنظمة إلى فلسطين، خلال النصف الأول وما تلاه من عقود في القرن العشرين، وصولا إلى تأسيس “مجتمع ودولة” بطريقة مصطنعة، في بضعة عقود فقط. وفي جميع الحالات، لم يكن بإمكان الحركة الصهيونية العالمية أن تصل إلى تحقيق هذا “الحلم”، دون امتلاك قوة مالية وسياسية وعلمية غير عادية، ودعم مطلق وحاسم من الغرب بما فيه الاتحاد السوفييتي.
لقد أدركت النخب اليهودية العليا في المجتمعات الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر طبيعة التحولات العميقة التي تشهدها تلك المجتمعات في مسارات واتجاهات إعادة صياغة الحضارةالأوروبية، التي ودّعت إلى غير، رجعة النظام الإقطاعي وسطوة الكنيسة المتحالفة معه، حيث بدأت تتبلور أسس الحضارة الصناعية منذ ما يعرفبمرحلة “عصر الأنوار” وصولا إلى الاكتشافات والاختراعات العلمية الكبيرة التي ساهمت في صياغة التحولات الحضارية في أوروبا.
لم تكن النخب اليهودية،ومنهم عدد من الفلاسفة والمفكرين، بعيدة عن هذه التحولات الجذرية في الثقافة الأوروبية، بل برزوا بمساهماتهم في التيارات الفلسفية وفي تلك الثقافة بشكل متزايد ومؤثر وعميق فيما بعد. وأدركت تلك النخب، خلال القرن التاسع عشر، ان عصر الدولة القومية قد بزغ في أوروبا (ألمانيا، إيطاليا، البلقان..) وهو العامل الذي كان له الأثر الأبرز في نشوء وتطور الفكرة ثم الحركة الصهيونية. كما أدركت تلك النخب أن مفاتيح الحضارة الصناعية الجديدة هي ثلاث أنواع من القوة : المال، العلم، الصحافة قبل أن تتحول إلى مفهوم أوسع أي الإعلام والسينما والتلفزيون.
لقد ذكر القرآن الكريم أن الله سبحانه سيمكّن لبني إسرائيل عبر المال والعنصر البشري، “ثمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ” (الإسراء 6). فبالنسبة للمال، فالحقائق الثابتة التي أصبحت معروفة بالإجماع، أن القوة المالية العالمية الأضخم في التاريخ هي بيد كبريات البنوك والمؤسسات المالية في العالم وأصحابها يهود، بما في ذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لأن الحصة الأكبر للمساهمين فيهما هي نفس البنوك الخاصة المشار إليها، حتى الخزانة الأمريكية التي تتحكم في إصدار الدولار وفي الاحتياطي الفدرالي لا تخضع للحكومة الأمريكية، بل هي مؤسسة خاصة ودائما ما يعين رئيس الولايات المتحدة رئيسا لها من اليهود وهذا أمر معروف أيضا. وتتحكم المؤسسات المالية في الولايات المتحدة في وول ستريت ونجحت منذ وقت طويل في الضغط على الكونغرس الأمريكي،وباستمرار، في إصدار التشريعات المالية التي تعطي لتلك المؤسسات حقوقا وامتيازات تجعلها قادرة على التحكم في سياسات الإقراض للقطاعين الخاص والعام على السواء، بما يجعلها قوة كاسحة تستطيع فرض السياسات التي تضمن احتكارها وسيطرتها على السياسات والقطاعات المالية الأكثر أهمية والتلاعب بها وفقا لمصالحها الخاصة. ويمكننا أن نتذكر الأزمة المالية الهائلة لسنة 2008 الناجمة عن المضاربات واسعة النطاق في الديون وفي العقار مما أدى إلى إفلاس ملايين الأمريكيين، بل بلغ مستوى تحكم المرابين العالميين إلى أن تكون مؤسساتهم المالية هي المستفيد الأكبر من مئات المليارات من الدولارات التي خصصتها الحكومة الأمريكية على عهد كلينتون لمعالجة الأزمة المالية علما بأن تلك المؤسسات هي نفسها التي تسببت في تلك الأزمة المالية التي أثرت على الاقتصاد العالمي برمّته. لقد سبق لكارل ماركس (يهودي) مسألة تحكم المرابين العالميين وسيطرتهم الكاملة على المال في الدول الصناعية في القرن التاسع عشر بوضح تام في كتابه “المسألة اليهودية”في محاولة ذكية للتوفيق بين ولاءه لقومه اليهود وسيطرة المرابين العالميين (آل روتشيلد الذين لا يزال أحفادهم ووكلاؤهم يشكلون مجموعة كبار المرابين العالميين إلى الآن).
لكن القوة المالية الهائلة لجماعة المرابين العالميين لا تفسر لوحدها القوة الكاسحة للنفوذ الصهيوني البالغ في الغرب، بل وفي العالم، فهناك عامل تاريخي آخر يعتبر حاسما في تحقيق العلو الإسرائيلي بالشكل الذي يعرفه ويراه الجميع الآن، وهو زيادة أعداد اليهود في أوساط الأقليات اليهودية منذ القرن التاسع عشر، وهي نسب زيادة طبيعية بالقياس إلى أعدادهم في السابق، وجزء من ارتفاع نسب السكان في المجتمعات الأوروبية نتيجة لتقدم الطب وارتفاع مستويات المعيشة، وإلا فإن أعداد اليهود في العالم الآن يقدر بحوالي 16 مليونا بما في ذلك 6،8 مليونا يعيشون في الكيان الصهيوني في فلسطين. ولعل هذا ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية “وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا”.
ومن الصعب اختزال معرفة تطور ظاهرة العلو الإسرائيلي في فقرات، فالأمر في هذه الحالة يتعلق بظاهرة تاريخية غير عادية واستثنائية في قوانين وعبر نشأة الأمم والدول في العصر الحديث.
لقد اهتمت النخب اليهودية عبر العالم بإيلاء اهتمام بالغ بتعليم الأجيال اليهودية في أفضل المؤسسات التعليمية، فنبغ منهم عدد كبير في تخصصات مختلفة، وصار لهم القدح المعلّى كما يقال في الجامعات والمراكز البحثية في أوروبا وأمريكا، ولا يتسع هذا المقال للدخول في تفاصيل هذه النقطة، لكن من دون شك يتعلق الأمر بظاهرة مدهشة، فنسبة الحاصلين على جائزة نوبل مثلا في مختلف التخصصات من اليهود هي الأعلى بدون منازع مقارنة بغيرهم من الجنسيات الأخرى ومقارنة بأعداد أفراد الشعوب.
وفي واقع الأمر، كان لعامل التعليم دور محوري في ظهور نخب يهودية عالية المستويات العلمية والمهنية، في الفيزياء والكيمياء والطب والفلسفة وعلم النفس والعلوم الاجتماعية والإدارة والقانون.. إلخ، ونكتفي هنا بذكر حالتين لتوظيف جهود النخب اليهودية لصالح الفكرة الصهيونية وإقامة دولة يهودية. الحالة الأولى تتعلق باختراع البروفيسور حاييم وايزمان لمادة TNTشديدة الانفجار حيث استفادت الحكومة البريطانية من هذا الاختراع في الحرب العالمية الأولى، وكان هذا بمثابة اعتراف بالجميل وعاملا مهما في إصدار آرثر بلفور وعده الشهير بإقامة دولة يهودية في فلسطين في نهاية الحرب سنة 1918، واللافت للانتباه أن الوعد وجّه للورد روتشيلد إمبراطور المال. أما الحالة الثانية فتتعلق بجهود العالم روبرت أوبنهايمر الذي يلقب بأبي القنبلة الذرية التي أسقطت على هيروشيما وناكازاكي (200.000 قتيل) في نهاية الحرب العالمية الثانية واعتبر ساعتها بطلا أمريكيا قوميا كبيرا، ويمكننا أن نتصور كيف استفادت المنظمات الصهيونية في أمريكا من هذا “الإنجاز” المروّع في مشروعها الاستعماري على مستوى الكونغرس والحكومة والرأي العام الأمريكي.
لقد تمكنت هذه النخب من الوصول عبر مراحل إلى مواقع التأثير والقرار والتوجيه في المؤسسات التشريعية والتنفيذية محليا ودوليا، في أوروبا وأمريكا منذ القرن التاسع عشر وخلال وبين الحربين العالميتين، وفي المنظمات الدولية، إلى جانب القوة المالية الهائلة، وليس صعبا ذكر أسماء عديدة تعكس هذه الحقيقة، ويكفي الحديث عن دور كبار الصهاينة المنظرين لليمين الأمريكي وهم كثيرون في مراكز البحوث والدراساتومن أشهرهم هنتينغتون الذي طوّر إيديولوجية اعتبار الإسلام كعدو استراتيجي للغرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومنهم كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية خاصة في مناصب السياسة الخارجية الذين كان لهم ولا يزالون الدور الأبرز في صياغة وإدارة السياسات الأمريكية وخاصة ما يتعلق منها بمنطقة الشرق الأوسط، وما غزو وتدمير العراق كمثال عنا ببعيد.
وبالنسبة لقطاع الصحافة والإعلام، خاصة الإعلام المرئي ووسائط التواصل الاجتماعي،يعرف الجميع سيطرة رموز صهيونية كبيرة على هذا القطاع مثل روبرت مردوخ ومارك زوكربرغ وغيرهما كثيرون..
هذه مجرد لمحة سريعة جدا عن دور النخب اليهودية، من حيث دور العنصر البشري، في نشوء وتطور ظاهرة العلو الإسرائيلي في الأرض.الخلاصة الأهم من هذا كله، هو أن إخراج الدولة اليهودية إلى حيّز الوجود لم يكن مجرد صنيعة للدول الاستعمارية كما تروّج بعض الآراء، ولكن نتيجة تخطيط وبذل جهود هائلة من طرف رواد وقادة المنظمات الصهيونية والنخب اليهوديةالموالية لها طوال مائة وخمسين عاما، واستفادوا ببراعة من السياقات التاريخية التي عاشها الغرب لنسج تحالف كبير وعميق الجذور مع هذا الأخير، فبعد قرون من العداء “المسيحي” لليهود، تمّ زواج المصلحة بين الغرب الحديث الاستعماري، المادي الملحد، والحركة الصهيونية في الغرب نفسه، وسينجب هذا الزواج مولودا مسخا اسمه “دولة إسرائيل”.
ومع هذا العلو التاريخي السريع في الأرض، بدأت تظهر إرهاصات ومؤشرات على بدايات تفسخ المجتمع الصهيوني في فلسطين، ومن ثمة الدولة. يحتاج الأمر إلى تسليط الضوء على هذه الظاهرة بتحليل معطيات الواقع، وليس باللجوء إلى فهم متعسف للنص القرآني.
(يتبع)
نقلا عن موقع هوية بريس