أ.د أحمد الريسوني
بعض الناس من يعتقدون أن الفتاوى الدينية أصبحت اليوم بدون جدوى، بل بدون موضوع، وأنها أصبحت، هي نفسها، مجرد مشكلة تحتاج إلى حل. والبعض يتساءلون:
لماذا الفتوى والمُفتون في زمن الحداثة والثقافة، ومع وجود قوانين منظمة لكل شؤون الحياة؟ وأي معنى لمنطق الحلال والحرام في ظل دولة الدستور والقانون والمؤسسات؟ وكيف يمكن التعايش مع منطق الحلال والحرام في عصر الحريات؟
ولعل أول ما يجب الانتباه إليه في موضوع الفتوى وسببِ وجودها وكثرة انتشارها هو أن الفتوى إنما تأتي بطلب من الناس، تعبيرا عن حاجتهم إليها. فالفتوى إنما توجد وتكثر بقدر طلب الناس لها وحرصهم عليها، فهي ليست شيئا مفروضا أو شيئا يحتاج إلى دعاية وترويج، بل هي نابعة من حاجة الناس وطلبهم.
فلو كانت ثقافة العصر وفلسفته، وأفكاره وأنواره، وقوانينه ومؤسساته، قد سدَّت جميع الاحتياجات وأغنت الناس عن الفتوى الدينية، لما كان هناك مستفتون، ولما كانت هناك فتوى ومُفتون. واليوم نجد حتى المسلمين المقيمين في البلدان الغربية يؤسسون المجامع الفقهية، لكي تتولى إفتاءهم وإرشادهم في مسائلهم ومشاكلهم، وأبرز تلك المجامع (المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث)، الذي يرأسه العلامة يوسف القرضاوي. فالفتوى تسد احتياجات الناس وتلبي طلباتهم في مجالات وقضايا لا تسعفهم فيها القوانين ولا المؤسسات ولا المنظمات.
فكما أن حياة الإنسان ليست بالخبز وحده، فهي كذلك ليست بالقوانين وحدها، وليست بالسياسة وحدها، ولكن أيضا بالدين وشريعته وفتاواه.
وفيما يلي نماذج وأمثلة يظهر فيها مدى حاجة الناس إلى الإفتاء والتوجيه الديني:
هناك أولا قضايا العقائد والعبادات والحياة الروحية، وهي مجالات تشغل حيزا واسعا من حياة الناس واهتماماتهم، ومعلوم أنها حقول دينية خالصة، لا كلام فيها ولا جواب إلا لعلماء الشرع وفتاواهم. ولا أظن أحدا يجادل في أهمية هذه المجالات وتوقفها كلية على الفتوى والمفتين، ولذلك لا أطيل في بيانها.
ثم هناك جوانبُ ذات خصوصية وحميمية وحساسية في الحياة الشخصية والحياة الزوجية والعلاقات العائلية، ولذلك فهي لا تحتمل تدخل القوانين ولا غيرِها من أشكال التدخل الخارجي، ولا يكاد القانون يتناولها إلا بشكل سطحي ومحدود. ولكن الفتاوى والتوجيهات والآداب الشرعية تَنْفُذُ إليها وتنظمها وتهذبها، وتجيب عن تساؤلات الناس فيها.
وحتى في القضايا المتخمة بالنصوص القانونية، فإن الفتوى الشرعية تبقى حاضرة مؤثرة لا يقوم مقامَها غيرُها. فما أكثر المداخلَ والمخارجَ التي يمكن من خلالها خرق القوانين والعبث بها. لكن الفتوى الدينية تحاكم الإنسان إلى ربه وإيمانه وضميره، وتحكم عليه بمنطق الحلال والحرام، وبحساب الدنيا والآخرة.
وكم من الناس إنما يردعهم عن السلب والنهب ومختلف أشكال الفساد والظلم ما يعلمونه في ذلك من تحريم ووعيد. ولو تُركوا مع القوانين والمحاكم وحدها لما وجدوا معها أي مشكلة.
وقد قرر فقهاؤنا الأجلاء قاعدة فقهية تقول: (حُكمُ الحاكم لا يُحِلُّ حراما ولا يحرم حلالا)، بمعنى أنه حتى لو حكم لك القاضي بشيء، وأنت تعلم أنه ليس لك، وأنه لا يحل لك، فإنه يبقى حراما عليك عند الله تعالى، يحاسبك عليه ويعاقبك على أخذه. وكثير من الناس يستطيعون بقوتهم أو بدهائهم أو علاقاتهم أن يزَوِّروا الوثائق ويقلبوا الحقائق، وأن يجعلوا باطلهم حقا، وحق غيرهم باطلا. وكثير منهم يستطيعون أن يُفلتوا من العقاب القضائي على جرائمهم مرة بعد أخرى، ولكن كما يقال: (لا حيلة مع الله). والفتوى تضع الإنسان أمام الله، لا أمام القاضي فحسب.
وفي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختصم إليه رجلان في مال متنازع عليه بينهما، فاستمع عليه السلام إليهما، ثم قضى بالحق لأحدهما بناء على حجته، ثم قال منبها ومحذرا: «إنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ (أي أبلغ وأقوى) بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار». وفي رواية أخرى للحديث: فَبكى الرّجلَانِ، وَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُمَا: حَقي لأخي الآخر. فَقَالَ رَسول الله: «أما إِذا فعلتما هَذَا فاذهبا فاقتسما وتوخيا الحق، ثمَّ استهما، ثمَّ ليحلل كل وَاحِد مِنْكُمَا صَاحبه».
ومن المعضلات التي استعصت على الحكومات المغربية المتعاقبة، قضية ما يسمى ب»الموظفين الأشباح»، وهم آلاف الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم منذ سنين عديدة، ولكنهم لا يعملون شيئا ولا يؤدون أي خدمة، وبعضهم لا يُدرَى من هم ولا أين هم.
وأنا أعتقد جازما: لو أن الحكومة لجأت إلى العلماء والخطباء والوعاظ والدعاة، وطلبت منهم – أو أذنت لهم – أن يتناولوا هذه المسألة ويصدروا فيها فتاواهم ويشرحوها في دروسهم وخطبهم عبر المساجد، ومن خلال وسائل الإعلام، لانتهت المشكلة في فترة وجيزة، ولما بقي من هؤلاء الأشباح إلا من لا دين لهم ولا خُلُق، وهم قليلون جدا والحمد لله.
ويعاني المغرب – كغيره من البلدان – من تفشي الأمراض الفتاكة المتنقلة جنسيا، وفي مقدمتها داء فقدان المناعة المكتسبة (السيدا)، ولكن عددا من الأطباء والطبيبات، ومن الصحفيين والصحفيات، من ذوي الحساسية ضد الثقافة الدينية، يرفضون أي استفادة من الدين، وأي اعتماد على فتاوى المفتين لمحاربة هذه الأمراض وسد أبوابها. وبدلا من ذلك يؤْثرون الترويج المجاني – لا أدري؟ – للعازل المطاطي، الذي يحلو لهم تسميته بالعازل الطبي…
ختاما:
إذا كانت الدولة الحديثة تقوم على القوانين الملزمة، فإن هذه القوانين إنما تكون جديرة بالاحترام والتجاوب إذا كانت معبرة عن قيم المجتمع عموما، وعن قيم العدالة والمساواة والنزاهة خصوصا. وفي هذه الحالة لن تكون الفتوى الشرعية إلا معززة لها متكاملة معها مقوية للالتزام بها.