القرضاوي والثورات: نحو ثقافة سياسية تحررية

بقلم/ أ.د. معتز الخطيب

إن إحدى أهم سمات الشيخ يوسف القرضاوي – رحمه الله تعالى – أنه تجاوز الإطار التنظيمي الإخواني إلى إطار “الأمة الإسلامية” على مستوى الرؤية والتنظير والحركة (نشاطًا وصلاتٍ على المستويات كافة)، وهي الخَصيصة التي شكّلت رصيده وراكمت تأثيره خلال ثورات ما سمي بـ”الربيع العربي”. ومن ثم حرَص إعلام ما سمي بـ”الثورة المضادة” – بعد وفاة الشيخ – على تضييق نطاق النظر إليه في حدود أنه “إخواني” فقط، وهو الغمز الذي دأب عليه مفتو السلطة في مصر وسوريا بداية الثورات. ويعكس هذا النظر الاختزالي المؤسَّس على خصومة سياسية حالة نكران “شعبية” الاحتجاجات التي انطوت عليها الثورات التي عمت خمس دول، ومحاولة اختزالها في فصيل محدد، ومن ثم نَقْل ما جرى وشهده العالم من حيز “الإرادة الشعبية” إلى حيز “المعارضة السياسية” لفصيل سياسي محدد يقع الاختلاف معه وعليه (شعبيًّا وسياسيًّا).

والجدل الذي قام حول القرضاوي بمناسبة وفاته، إنما تأسس – أساسًا – على خصومة سياسية معه، وأن ما اعتُبر نقيصة في حقه هو ذاته مزيةُ خطابه من منظور دراسة عمليات التحول الديمقراطي في المنطقة، وخاصة في ظل الثورات بين 2011-2013.

وتتأسس هذه الخصومة على الصراع بين ثقافتين سياسيتين متناقضتين:

الأولى: ثقافة دينية غير تقليدية متوائمة مع الديمقراطية، مثّلها القرضاوي خلال الثورات الخمس.

والثانية: ثقافة سياسية سلطوية (أو سلطانية) أشاعتها الأنظمة السياسية الاستبدادية وأرادت شرعنتها دينيًّا على ألسنة مفتيها وموظفيها الرسميين، ودمغتها بأنها “الشرع” الذي خلاف فيه.

وسأوضح تفاصيل ذلك من خلال مسألتين:

الأولى: وضع إطار نظري مكثف حول الثقافة السياسية.

والثانية: إبراز معالم خطاب القرضاوي الثوري، على سعته وكثافته خلال المدة المشار إليها، سواء في خطبه أم في حلقات برنامج الشريعة والحياة.

ركزت العلوم السياسية – في الماضي – على دراسة فعل المؤسسات ودورها في التحول الديمقراطي، ولكن مبحث “الثقافة السياسية” مقاربة جديدة تتضمن دراسة التوجهات الفردية أو غير المؤسسية تجاه السياسة أو النظام السياسي والدور المفترض للفرد فيه، كما تتناول القيم والرؤى المؤسِّسة للفعل السياسي، سواء المؤيّد أم المعارض، ومن ثم تتناول الثقافة السياسية – أيضًا – الحجج التي تمنح الفعل السياسي شرعيته، ومن ثم تجمع بين الأبعاد المعرفية والعاطفية والقيمية التي تمنح – جميعًا – التأثير الاجتماعي والسياسي المطلوب لإحداث التغيير.

ثم إن التركيز على دور الفاعلين من خارج المؤسسات وتحليل سلوكهم السياسي، يعطي للدين دورًا أساسيًّا، خاصة في المجتمعات الإسلامية كما هو الحال في دول الثورات الخمس. وقد ساعد على هذا أن الخطاب الديني كان له دور مركزي في الثورات تأييدًا ومعارضة، ومن اللافت أن الخطاب الداعم للثورات جاء من خارج المؤسسات (وخاصة الدينية منها)، فكان من ينضم إلى الثورة عليه أنه يخرج من الإطار المؤسسي للدولة حتى يتمكن من معارضته؛ لأنه لا يوجد – في الأنظمة السلطوية – تمييز بين الدولة ومؤسساتها من جهة، وبين النظام الحاكم من جهة أخرى.

يقدم القرضاوي – إذن – نموذجًا مهمًّا للدرس والتحليل من منظور الثقافة السياسية ودراسات التحول الديمقراطي، ولهذا حرص حلف ما سمي بالثورة المضادة على إدانته أو شيطنته بعد سنة 2013 وصولاً إلى وفاته. وترجع نموذجية خطاب الشيخ إلى أنه تناول – على نطاق واسع ومتكرر – مفاهيم مفتاحية في الثقافة السياسية يتنازعها التصوران المشار إليهما سابقًا: تصور سلطوي وآخر ثوري تحرري، كمفاهيم الخروج، والطاعة، والتغيير، والفتنة، والنظام الجمهوري، والديمقراطية، والثورة، والحرية، والشريعة.

قدم القرضاوي – بوعيٍ تام – خطابًا دينيًّا داعمًا للفعل الثوري المعارض لأنظمة الاستبداد على عدة مستويات؛ بدءًا بمفهوم الثورة وصلتها بالخروج وشرعنة فعل التظاهر والاحتجاج السلمي، ثم مستوى ربط الفعل الثوري بغايات أخلاقية، ومن ثم تقييده بضوابط توجهه نحو غايته المنشودة، وانتهاء بوسائله التي يجب أن تكون سلميّة.

فالثورة – في تصور القرضاوي – خير ورحمة ونعمة؛ على خلاف تصور مفتيي الأنظمة الاستبدادية وخطاب المؤسسة الدينية الرسمية الذي جعلها من باب الفتنة والخروج المحرم شرعًا. ولأن الثورة خير ونعمة؛ فهي تستحق شكر الله تعالى عليها، ومن ثم شكر القرضاوي اللهَ تعالى على 5 ثورات عربية رأى أن الله “منَّ بها على أمتنا، وكانت هذه من أعظم النعم التي أعطاها الله لهذه الأمة”. وبفضل خيرية الفعل الثوري وأخلاقيته، عَذَر القرضاويُّ محمد البوعزيزيّ الذي أحرق نفسه فأشعل ثورة تونس التي كانت الأولى في الربيع العربي، ورأى القرضاوي أنه لم يكن حرًّا حينما أَقْدم على إحراق نفسه، وحمّل المسؤولية الكاملة لـ”الأنظمة الطاغوتية” كما أوضحت في مقال سابق، وهذا الإعذار والدعاء للبوعزيزي وطلب الشفاعة له عند الله من قبل الشعب التونسي؛ لأنه كان سببًا في هذا الخير العميم (= الثورة) من منظور القرضاوي.

وفي سياق آخر، يقلب القرضاوي حجة مفتي السلطة المتعلقة بأن الثورة فتنة ويجب سد الذرائع إليها، من خلال القول بأنه كما يجب سد الذرائع يجب أيضًا فتحها، كما هو مقرر في علم أصول الفقه؛ فسد الذرائع قد يكون سبباً من أسباب الشرور؛ إذ إن الذرائع إنما تُسدّ فيما يجلب شراً كبيراً على الناس. أما سد ذرائع الخير فلا تقول به شريعة جاءت لإقامة مصالح العباد في المعاش والمعاد.

أما حول مفهوم الثورة، فهو يعني الخروج السلمي لقول كلمة الحق، وتختلف الثورة عن “الخروج” الذي هو مصطلح فقهي لا يُطلق إلا على “الخروج المسلح” الصادر “من غير أهله”، وعلى “حاكم حق”. أي “الذي اختاره الناس بحرية وبرضا؛ على أساس من التزام الإسلام”، ومن ثم يكون الخروج على هذا الحاكم بهذه الصفة بغيًا (أو ظلمًا). ويوضح القرضاوي في موضع آخر تأقيت مدة الحكم في نظام الحكم الجمهوري الذي تحول إلى “جمهوري ملكي”، فيقول: “ليس هناك إمارة مدى الحياة”، والنقاش حول مدة الحكم يتأسس على “شرعية وضعية” من شأنها أن تزول، فمن جاء بإرادة شعبية يزول بها.

يحيل مصطلح الخروج – إذن – إلى “الخوارج” الذين خرجوا – بالسلاح – على جماعة المسلمين وكفّروا المسلمين. فالثورة احتجاج بالكلام والتجمهر، يعبر عن إرادة شعبية في التغيير، وتكون على حاكمٍ ظالم جاء إلى السلطة بطريق غير شرعي، كالانقلاب العسكري أو التوريث في حكم جمهوري (يوجب تداول السلطة بعد مدة معينة)، ثم يريد هذا النظام الجائر بعد ذلك أن يستمر في الحكم عن طريق التوريث (لا أعرف أن القرضاوي تناول الموقف من الأنظمة الملكية أثناء الثورات).

وعلى مستوى الغايات، فإن الثورات تدعو – من جهة – “إلى إقامة الحق وإلى إبطال الباطل”، و”تحليل حلال أو تحريم حرام، أو من أجل إيجاد فرائض منسية”. ثم هي – من جهة أخرى – إنما تقوم لاستعادة الإرادة الشعبية الحرة، بأن تكون الشعوب هي القائمة على أمور نفسها؛ فالشعوب “هي صاحبة الأمر، والتغيير إنما يبدأ منها؛ “فالشعب هو الذي يغير ما بنفسه فيتغير كل شيء”، وبهذا ربط القرضاوي الثورة بباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأى أن “من واجب الأمة أن تطلب حقوقها وأن تقول للظالم: يا ظالم”، وإلا فقد تُوُدِّع منها.

أما على مستوى الضوابط التي تجعل من الفعل الثوري نعمة لا نقمة، فشرطه أن “يوضَع موضعه، وأن يَصدر من أهله”. وهو بهذا يحيل إلى توفر المفهوم والغايات والتوقيت والجدوى، ومن ثم قد تبلغ الثورة أن تكون نوعًا من أنواع الجهاد الذي يتنوع إلى: جهاد عملي، وجهاد لساني، وجهاد قلبي. وحين سئل عن النوع الذي تندرج الثورة تحته، أجاب بأنها تندرج ضمن جهاد اللسان أو جهاد القلب. ولعله يريد الجمع بينهما معًا، أو ربما أراد أن يُدرج في الفعل الثوري – حكمًا – حالة المنكر بقلبه؛ لأنه مغلوب على أمره، وهو أدنى درجات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوارد في الحديث النبوي، ولكن إدراج هذا الفعل تحديدًا (الإنكار الصامت) ضمن الثورة محل إشكال هنا!.

أما على مستوى الوسائل، فقد أكد القرضاوي – وعلى خلاف ما يتهمه به خصومه بعد موته – على نبذ العنف وعلى سلمية المظاهرات والاحتجاجات في أكثر من موضع ومناسبة، وخاصة في حلقات برنامج الشريعة والحياة. فالعمل السلمي – لديه – هو “أصل هذه الثورات كلها”، وكان آخرَ كلامه في آخر حلقة من برنامج الشريعة والحياة بتاريخ 25 أغسطس 2013 (أي بعد الانقلاب) قوله: “مهما فُعل بنا لا يمكن أن نستعمل العنف. انتهى العنف عند الإسلاميين أو عند الإخوان بالذات … نقابل الجميع بالسلم”. وبهذا الكلام ختم ما يقرب من 17 عامًا من جهاده بالكلمة عبر هذا البرنامج الذي قدّمه إلى العالم أجمع وساهم في صناعة مرجعيته.

ومما يتصل بوسائل مقاومة الظلم أيضًا، أن القرضاوي أوضح أن الناس أمام الظلم ثلاث فئات:

(1) فئة ممن يدّعون التصوف، انسحبوا وتركوا الخلق للخالق.

(2) وفئة توسلت بالخروج المسلح. وهنا أوضح صراحة أنه “لا يُسمح بالمقاومة المسلحة؛ إلا بشروط وبضوابط كثيرة؛ لأننا لو سمحنا بهذا أصبحت البلاد في فتن وأصبح دم البشر كلأ مباحا”.

(3) أما الفئة الثالثة فهي “الفئة المتوسطة التي تضع القوة في موضعها والبيان البشري في موضعه”. ويعني بهذا، الدفاع عن النفس كما جرى في سوريا مثلاً. أي أن السلم ليس عقيدة صلبة (فالجهاد والحرب والدفاع عن النفس والقصاص هي ألوان مختلفة من العنف، والفكر السياسي الحديث يتحدث عن “العنف المشروع” الذي هو عنف الدولة)، ولكن المهم هنا هو حفظ النظام والاحتكام إلى القانون.

ومما يؤكد ما سبق، أن القرضاوي حين سئل – في فتوى مؤرخة بـ 24 أغسطس 2013 أي بعد الانقلاب – عن جواز العمل في وزارتي الدفاع (الجيش) والداخلية (الشرطة) في مصر، أجاز ذلك ثم قال: “أما العمل في هاتين الوزارتين فهو عمل لابد منه للحفاظ على كيان الدولة المصرية التي يجب أن تبقى مكينة مصونة، وأن نعمل جميعا على بقائها”. ولكنه قيّد عمل من يعمل في هاتين الوزارتين بتقوى الله تعالى، “وألا يكون عونًا لهؤلاء الظالمين؛ فلا يقتل مصريًّا، أو يعين على قتله بفعل أو قول، ولو كان قليلا”. وختم فتواه بأن “إساءة الجندي من الجيش أو الشرطة إلى أي إنسان: مسلم أو مسيحي، صالح أو طالح؛ بغير حق ولو بما دون القتل: من ضرب أو مس بأذى من قول أو فعل: أمر محرم في الإسلام لا يحبه الله ولا يرضاه، بل يعاقب عليه بعدله”.

والفعل الثوري هو أحد وسائل التغيير السياسي عند القرضاوي؛ إذ إن وسائل الحكم ونظمه رحبة وفيها سعة؛ يقول: “أمور الدنيا تقوم على الابتداع، وأمور الدين تقوم على الاتباع”، ومن ثم لا يرى بأسًا في الاقتباس عن الغرب في ميدان الوسائل، كما اقتبس سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض الوسائل عن الفرس في زمنه. ومن ثم فإن “وسائل مقاومة الظلم” تتنوع، كالمظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني والإضرابات، وهي وسائل مشروعة في رأيه، وإباحة مثل هذه الوسائل يَحجز الناس عن اللجوء إلى السلاح أو العنف.

وبالنظر إلى واقع الحال في عصرنا، يرى القرضاوي أن تغيير الأنظمة يكون بثلاث وسائل:

(1) التغيير الديمقراطي الذي يعبر عن الإرادة الشعبية ويحتكم إلى الأغلبية التي يمكن – من خلالها – إدخال التعديلات اللازمة على القوانين.

(2) والتغيير العسكري، وهو ما يسميه الفقهاء التغلّب.

(3) والثورة الشعبية التي تختلف عن “الخروج” كما سبق.

والقرضاوي صريح في انحيازه إلى الخيار الثالث هنا؛ لأنه يعبر عن إرادة الناس، وهو – عنده – بمنزلة البيعة والرضا العام، ويستعرضُ – لتأييد موقفه – حُججًا من القرآن الكريم، ويُضعّف حديثًا في صحيح مسلم يعتمد عليه فقهاء السلطة في القول بطاعة الرؤساء، ثم ينتقد فقهاء السلطة الذين لا يتقنون فقه المقاصد ولا فقه الموازنات.

ويتفق القرضاوي مع الموروث الفقهي السياسي التاريخي، في نبذ الخروج المسلح الذي قيّده عامة فقهاء السنة بصدور الكفر الصريح عن الحاكم فقط، ولكن تطور وسائل التغيير السياسي، والفصل الذي أقامه بين الفعل الثوري من جهة، ومصطلح الخروج من جهة أخرى، أدى به إلى التوسع في الأسباب المشروعة للاحتجاج والتغيير السياسي التي تشمل – أيضًا – خروج الحاكم على “النصوص التي تلتزم بها الأمة وتعتبرها دينًا، وهي مواثيق أخلاقية، ومواثيق العدالة، ومواثيق القيم” التي وقع الاتفاق عليها بين الناس بغض النظر عن دينهم. وبما أن رعاية المصلحة ودرء المفسدة معيار من معايير الشرع فـ”من مصلحة الشعوب أن تبني نفسها وتبني نهضتها”.

فالمقصود الأعظم من التغيير السياسي هو إحقاق الحق من جهة، والتعبير عن الإرادة الحرة للجمهور من جهة أخرى، ومن ثم فإن الحرية تحظى بمكانة مهمة في خطاب القرضاوي، وخاصة الحرية الفردية والسياسية، ومن ثم هنّأ القرضاوي – بُعيد نجاح الثورة في تونس – الشعب التونسي بثورته، وأوصاه بأن “يحرص على مكاسبه التي لم يحصل عليها إلا بدماء الأحرار”، وفي الوقت نفسه استبطأ الإفراج عن معتقلي الرأي في تونس الذين دخلوا السجون ظلما وعدوانًا، وذكّر بأنه طالما تحدث – في برنامج الشريعة والحياة – عن أن الحرية عنده مقدمة على تطبيق الشريعة، وأنه يجب إطلاق الحريات، وقال: “أنادي بالحرية للجميع، وبحق العمل السياسي للجميع. ليس هناك إقصاء ولا استثناء، يساريون، يمينيون، علمانيون، إسلاميون، شيوعيون. كله يجب أن يتاح له”، واستثنى من ذلك فقط “من لطخ يده بدم الأبرياء”، بل حتى هؤلاء – قال – يجب أن ينالوا عقابهم عن طريق “محاكم مدنية لا عسكرية؛ محاكم طبيعية بقضاة طبيعيين ممن عُرفوا بالاستقامة والعدالة”.

فحرية الإنسان – في تصور القرضاوي – تعبر عن مراد الله منه؛ بأن “يكون حراً في تفكيره إذا فكر، حراً في تعبيره إذا عبر، حراً في تغييره إذا غير، حراً في إرادته، حراً في دينه”. وعدد أنواع الحرية التي تشمل “الحرية الدينية، والحرية العلمية، والحرية السياسية، والحرية الاجتماعية” التي سبق لي أن عالجتها معه في حلقات عدة من برنامج الشريعة والحياة قبل الثورات؛ فهو يرى أن الناس يحتاجون إلى جميع هذه الحريات. بل إنه عدّ الحرية مقصدًا من مقاصد الشريعة؛ لأنها – في نظره – “ضرورة من ضرورات الحياة؛ لا يستغني الناس عنها”، وهو ما يمكن أن نجادل فيه ولكن ليس هذا موضع مناقشته. ثم هذه الحرية مطلوبة لأنفسنا ولغيرنا، والحرية الفردية أساس الحريات العامة، ومنها الحرية السياسية.

ورغم أن القرضاوي حمّل المؤسسات الدينية “وزرًا في تكتيف الأمة”، إلا أنه رفض أن يحمّلها – وحدها – المسؤولية؛ إذ ثمة أطراف عديدة أخرى تتحمل المسؤولية معها، ولكن في الوقت نفسه إذا فقدت هذه المؤسسات حريتها ولم تقم بوظائفها وواجباتها “فجمّدت الحياة، وسارت في ركاب الحكام … لا يمكن أن تسير الأمة وراءها”؛ لأنها تكون – عند ذلك – “مؤسسة مجمِّدة للحياة”.

إن المتتبع لخطاب القرضاوي الثوري يرى أن خطابه نامٍ، فحججه لدعم الثورات تتطور من بلد إلى آخر بحسب خصوصية البلد الثائر، فبالإضافة إلى الحجج الثابتة من القرآن والسنة (وهذا مسلك كثيف في جميع خطابه المقول والمكتوب)، يُكثر من المناقشات الفقهية للرد على الشبهات التي يستدل بها المعارضون، ويؤكد باستمرار أن إرادة الشعوب منتصرة كما يؤكد على قيم العدل والحرية، وقد يستدعي الشعرَ كما فعل في تعليقه على ثورة ليبيا، وأنه آن لها أن تدخل العالم المعاصر وتجدّد وتبني نفسها كبلد حضاري عريق. أما في سوريا فقد ساق جرائم نظام الأسد في العقود الماضية ثم قال: إن حكم الأسر قد انتهى، وإن سوريا تُحكم بحزب البعث بحسب الدستور ولا تحكم بدين ولا بشريعة، وحزب البعث لا يجوز أن يُؤَيَّد.

فالرؤية السياسية للقرضاوي بين 2011-2013 قامت على جهاد الظلم من جهة، وتأييد خطاب ثوري تحرري متصالح مع الديمقراطية من جهة أخرى، أساسه المطالبة بالغيير السياسي والاحتكام إلى إرادة الشعوب، وتوفير الحريات للناس.

وبهذا تتجاوز الثقافة السياسية التي صاغها في خطابه خلال هذه المدة ثلاثة إشكالات:

الأول: إشكال العلاقة بين الأيديولوجيا والثقافة السياسية؛ إذ إن أيديولوجيته الإسلامية نفسها دفعته إلى تجاوز التنظيم الحزبي الإخواني، ومن ثم قدم الحرية على الشريعة؛ لثقته بإرادة الشعوب وخياراتها الدينية.

الثاني: أن خطابه خلال الثورات ساعد على خلخلة التفسيرات الجوهرانية التي شاعت في بعض الدراسات الغربية قبل الربيع العربي حول الاستثناء الثقافي العربي أو الاستعصاء الديمقراطي الإسلامي؛ فهو قد ساند التوجهات الشعبية الثورية على اختلافها؛ لثقته بإرادة الشعوب وانفتاحه على مختلف الأطياف السياسية، الأمر الذي قوّض من تفسيرات التعثر الديمقراطي في العالم العربي المشار إليها.

الثالث: أنه قدم حججًا دينية مناوئة لتفسيرات المؤسسة الدينية الرسمية الخادمة للنظام السياسي القائم، ومن ثم فرض حضوره وتأثيره تحديًا مهمًّا للإجماع الذي أُريدت صياغته “رسميًّا” من قبل الأنظمة الاستبدادية التي لم تستطع تغييب صوته قبل نهاية 2013، وفتّ في عضد الخطاب الديني الاستبدادي الذي قام على مفاهيم الطاعة والفتنة وحرمة الخروج والتظاهر أو الاحتجاج. والله أعلم.


(*) أستاذ فلسفة الأخلاق، كلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة.

اترك تعليق