بقلم الأستاذ محمّد خير موسى
الهجرة النبويّة حدثٌ غيّرَ وجه التّاريخ دون أدنى مبالغة، ولذلك من الواجب على أهل الفكر والدّعوة قراءته بعمقٍ وتحليل تفاصيلِه لاستلهام الدّروس ووضع الأسس التي ينبني عليها نجاح الأحداث المفصليّة في واقع المسلمين الطّامحين إلى الخروج من المأزق التّاريخي والحضاري الذي يعيشونه.
ومن أهمّ الدروس التي يمكننا التقاطها من شجرة الهجرة يانعة الثّمار متجدّدة الأوراق كلّ عامٍ وارفة الظّلال عبر الزّمن هو درس الاعتماد على الكفاءة عند إسناد الأعمال في الأحداث المفصليّة والمؤسسات المهمّة إذا أردنا أن نغيّر وجه التّاريخ، واعتبار الكفاءة على رأس الأولويات ليسَ من ترف السّلوكيّات بل من صميم الواجبات.
الدّليلُ الكافرُ الكفءُ:
اتَّخذَ النّبي صلى الله عليه وسلم دليلًا يسلك به طريق الهجرة من مكة إلى المدينة، ويعرفُ خفاياها ويستطيعُ التغلب على صعوبة الجغرافيا، ومفاجآتِ الأرض القاسية، ومهمّة الدّليل من أخطر المهمّات الأمنيّة في حادثة الهجرة إذ يمكنه ببساطةٍ أن يقوم بتسليم النبيّ صلى الله عليه وسلّم وصاحبه من حيثُ يوهمهما بالحفظ والصّيانة والرّعاية.
ومع ذلك كانَ هذا الدليل كافرًا وهو عبد الله بن أُريقط اللَّيثي، وقد كانَ اختيارُه ابتداءً بسبب كفاءتِه، ففي صحيح البخاريّ عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: “استأجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بكر رجلًا مِن بني الدِّيل وهو مِن بني عَبدِ بن عَدِيٍّ هاديًا خِرِّيتًا ــ والخِرِّيتُ الماهرُ بالهداية ــ قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دينِ كفّار قريش فأَمِنَاه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غارَ ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا”.
فعائشة رضي الله عنها تنصّ على أنّ السبب الرّئيس في التّعامل مع عبدالله بن أريقط مع كونه كافرًا هو أنّه دليلٌ ماهر وذلك بقولها “هاديًا خِرِّيتًا”، وقد فسّر البخاريّ هذا الوصف يقوله: “والخِرِّيتُ الماهرُ بالهداية”؛ أيّ أنّه دليلُ طريقٍ متميّزٌ وكفءٌ في تخصّصه.
كثيرون عند استشهادهم بهذه الحادثة يستنبطون منها جواز التّعامل مع الكافر وجواز تكليفه بالأعمال المهمّة والحسّاسة بشرط أن يكون مأمون الجانب، ولئن كان هذا صحيحًا من حيث الأصل فهو ليسَ المعنى الأهمّ في هذا التكليف، إذ إنّ استخدام الشّخص مأمون الجانب شرطٌ يجبُ توافرُه في كلّ أحدٍ ينبغي تكليفُه بمهمّةٍ ولو كان مسلمًا، كما أنّ تقديم عائشة رضي الله عنها لتوصيفه بالمهارة في العمل التخصصي يشير بشكلٍ أقرب إلى التّصريح بأنّ أصل تكليفِه جاء بسبب كفاءته إلى جانب أمانته.
الشّاب الثّقف اللّقن وكفاءة العمل الاستخباراتيّ:
كلّف النبيّ صلى الله عليه وسلّم عبدالله بن أبي بكر بمهمّة رجل الاستخبارات الذي يجمع المعلومات وينقلها، وكان تكليفه بهذه المهمّة بسبب الكفاءة التي توافرت فيه؛ ففي الحديث نفسه الذي ترويه عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاريّ تقول:
“ثمّ لحقَ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغارٍ في جبلٍ يقال له ثور، فمكث فيه ثلاثَ ليالٍ يبيتُ عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلامٌ شابٌّ لقنٌ ثقفٌ؛ فيرحلُ من عندهما سحرًا فيصبحُ مع قريش بمكّة كبائتٍ فلا يسمعُ أمرًا يُكادان به إلّا وعاهُ حتّى يأتيهما بخبرِ ذلك حينَ يختلطُ الظّلام”.
وقد وصفت عائشة رضي الله عنها أخاها عبد الله أنه شاب تقفٌ لقنٌ في إشارةٍ إلى أن هذه الصفات هي التي أهّلته لهذا النوع من العمل، ومعناها – كما يقول ابن حجر في فتح الباري -: “الثّقف: الحاذق، واللّقن: السريع الفهم، وهي الصفات التي يجب أن يتّصف بها عنصر المخابرات الكفء، الذكاء الشديد مع سرعة الفهم، والقدرة على تحليل ما يسمع ونقله بأمانة، فالكفاءة في العمل كانت هي أيضا السبب الرئيس في تكليف عبد الله بن أبي بكر – رضي الله عنهما – بهذه المهمة الخطيرة.
لا بلحَ الشّام ولا عنبَ اليمن:
إنّ نجاح أيِّ مشروعٍ أو عملٍ او مؤسّسةٍ أو حدثٍ مهمٍ أو مفصليّ يقومُ على اختيارِ الكفاءاتِ اللّازمةِ للعمل بغضِّ النّظر عن انتمائها التنظيميّ أو الحزبيّ أو حتّى بغضّ النظر عن انتمائها الفكريّ للمشروع ما دامت مأمونة الجانب وتعملُ في مهام تخصّصية ضمنَ الآليَّات المرسومةِ لتحقيقِ الأهدافِ المرحليَّة والاستراتيجيّة
مؤسّساتٌ كثيرةٌ فشلَت، ومشاريعُ كبيرةٌ أجهضت في ساحة العمل الإسلاميّ بسبب إقصاءِ الكفاءاتِ التّخصّصية اللّازمة، وعدمِ استقدامِها واستخدامِها بحجّة عدم انتمائِها للتَّنظيمِ أو الجماعةِ أو التيَّار، أو بسبب اعتقاد المُشرِفينَ عليها أنَّ مجرَّد الانتماء للمشروع الإسلاميّ يجعلُهم أكفاءَ في التَّخصصات كلِّها، قادرينَ على إدارَتِها وتوجيهِ دفّتِها باقتدار، لذا فإن وَضْعَ أشخاص لا تخصص لهم فضلًا عن أنّه لا خبرة لهم ومؤهّلهم الوحيد هو المكانة في الجماعة أو التيّار أو التّنظيم؛ على رأس مؤسساتٍ تخصّصية، كان السبب في عدم فلاح تلك المؤسسة التخصّصية، ولم يستطيعوا خدمة الجماعة التي ينتمون إليها، وهكذا ما طالُوا بلح الشّام ولا عنبَ اليمن.
priligy cvs In fact, the ceremony at Guatavita was but the most famous of many rituals involving gold across ancient Colombia; and the Muisca were but one of many ethnic groups whose millennia of gold making as far back as 500 BC are being celebrated at the British Museum