تنظيماتنا الإسلامية بين الرؤية الكلية للشورى والإجراءات التفصيلية للديموقراطية

 

بقلم/  مولاي رشيد غلابي

هذه المسألة من المسائل العويصة والدقيقة، وهي تتعلق بمسألة كلية هي فلسفة التنظيم الاجتماعي في الإسلام، فطبيعة القيادة و وظائفها تبع لطبيعة التنظيم و وظائفه، ومما يشكل على العاملين والعلماء والمفكرين الجمع بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة، وبين شروط العمل الدعوى/التربوي والعمل السياسي/الحركي، وقد رأينا في العقدين الأخيرين بروز هذا الإشكال على السطح على صورة إشكالية علاقة الدعوى والسياسي بين الفصل والوصل.

إن مما ينبغي التسليم به بداهة أن التنظيم الدعوي الإسلامي ينبغي أن يكون صورة عن التنظيم الاجتماعي الإسلامي، وأن يقدم للناس صورة نموذجية عن المجتمع الذي يدعوهم إليه الإسلاميون.

ومن أكبر القضايا التي تهم المجتمع الإسلامي في زمننا المعاصر قضية الحرية والاستبداد، فيقدم الإسلاميون الشورى كدواء وحل لمعضلة الاستبداد، يقدمونها مبدأ ساميا لكنه مضبب ومليء بالغبش من حيث الرؤية الكلية والإجراءات التفصيلية حتى لا تكاد الشورى تزايل الديمقراطية إلا في اللفظ! في حين أن الشورى عبادة ذكرها الله عز وجل في كتابه بين فريضتي الصلاة والزكاة، و الديمقراطية حكمة مدنية منفصلة عن الوحي لا علاقة لها بشرع أو دين إلا أن تكون علاقة عداء ومحاربة، و الديمقراطية إدارة للصراع بين مصالح متناحرة، فهي استمرار للحرب بأدوات “سلمية”، في حين أن الشورى تأليف للقلوب، و اجتماع على الحق، وإجماع على الخير الذي هو الإسلام. شهود لوجو

فهل ندير تنظيماتنا الإسلامية وفق مبادئ الديمقراطية وهي لا تعرف الله، ولا تؤمن به ولا باليوم الآخر، ولا خبر عندها عن الآخرة إلا التكذيب والإنكار، وغاية ما تعرفه هو المدينة/الدولة وحكمة تدبير شؤونها في الأرض بعيدا عن تدخل السماء، أو نديرها وفق مبادئ الشورى التي قالت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: “رضيه النبي صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا”، فكان الدين في الاعتبار الأول والدنيا تبع لا العكس. وليت شعري، كيف يؤتمن على دنيا الناس من لم يكن مؤتمنا على دينهم، وكيف يكون أمينا في الأرض من لم يكن أمينا في السماء؟!

ليست الإجراءات التنظيمية ما يحمينا من آفة الاستبداد على أهميتها القصوى، لكن الذي يحمينا من الاستبداد التصعيد التربوي الذي يرفعنا عن حضيض حب الدنيا و التنافس فيها إلى علياء حب الله ورسوله والتنافس والسباق إلى رضوان الله والدار الآخرة، ولا يمكن تأسيس تنظيم إسلامي على أساس الشورى الإسلامية دون تأسيس قاعدته المعنوية وهي تربية رجال ونساء باعوا أنفسهم لله، و طلقوا الدنيا ثلاثا فهم لا يلتفتون إليها بالكلية، رجال سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنا لا نعطي هذا الأمر من طلبه”، وسمعوا وصيته لأبي ذر: “يا أبا ذر إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة”، فزهدوا في كل منصب ومسؤولية وفروا منها فرارهم من الأسد، ولولا أن الناس قدموهم إليها ما تقدموا.

ثم إن الوظيفة التربوية أهم وظائف القيادة في المجتمع الإسلامي، والتربية الإسلامية مسألة نوعية ذوقية لا تقاس أهليتها بالشواهد و المؤهلات العلمية و التدريبية و التكوينية، ولكنها عطاء إلهي لمن اختصهم الله برحمته من أهل عنايته وفضله من عباده، فالتربية الإسلامية تأتي من أعلى و لا تصعد من أسفل، وليس رجال التربية من النوع الذين نستبدلهم كل اربع أو خمس سنوات إرضاء لإجراءات الديمقراطية، بل هم كنز عزيز نفيس أعز في الوجود من الكبريت الأحمر فأنى يعثر عليه!

وها هنا أمور يطول تفصيلها حول الفقه الدستوري الإسلامي وحل معضلة السلطة السياسية وفق مبادئ العمل الإسلامي الخالصة دون إغفال الاستفادة من تجارب الأمم وحكمتها، وعن ترتيب العلاقة بين الدعوة والدولة، أو بين الديني والسياسي، وهي أمور تحتاج إلى اجتهاد تفصيلي لكنه ينبغي أن يكون على ضوء المبادئ الكلية السالفة الذكر حتى لا نضيع البوصلة ونتيه عن الطريق.

إن من حكمة الحكمة في العمل الإسلامي والفكر الإسلامي الجمع بين التربية والتنظيم في رؤية واحدة مندمجة متكاملة، غير منفصلة ولا مجزأة.

هذا والله أعلم وأحكم.

اترك تعليق

  1. يقول عبد المولى بنعمير:

    من أهم الفروق بين الدعوي التربوي والسياسي الحركي هو أن القيادة في المجال الأول تحتاج اصطفاء واستعدادا خاصا بالإضافة لتأهيل وتكوين طويل النفس مما يصعب معه استبدالها كل أربع أو خمس سنوات …احتضان القلوب وتهذيبها وصقلها عمل يحتاج دربة وتهمما ومواصلة الليل بالنهار… فكيف نخضع هذا الأمر لآليات الديمقراطية في الترشح والانتخاب؟!

  2. يقول محمد:

    حقا، إشكالية عويصة و مؤرقة. لكن الكاتب تناول الأمر بهدوء العالم، ورصانة العارف. مما جعل طرحه يسيرا للفهم، مطاوعا للاستيعاء.
    حيا الله الكاتب، وزاده بسطة في العلم، ورزقه دوام الفهم عنه. و وضع له القبول في السماء و الارض.